كانت تَضُمُّني صغيرًا في حضنها ضمًّا تختلط فيه الأجساد والدماء والأرواح! وتتحد به الطبائع والأخلاق ومجموعة القيم أيضًا، فبتلك الأحضان الصادقة وحدها تتشرب الطفولة روح الحياة، وجمالها وأُنسها، وتستنشق متفائلةً عبيرها وعطرها الزاكي، وبها نتعلم ألوانًا لا تُحصى من القيم السامية، والأخلاق الحميدة، والمشاعر الرقيقة، والتفاعلات الرحيمة، التي يحتاجها بنو الإنسان، وتتشوق لها الأفراد والأسر والجماعات في كلِّ زمان ومكان، فلا حياة بلا رحمة وحبٍّ وأمنٍ، تمنحه الأمومة الصالحة للأجيال المتعاقبة. 

التربية الرشيدة فطرة إنسانية في بعض مبادئها وأسسها وخطواتها، تحافظ هذه الحُزمة من المبادئ والأبجديات التربوية على شكلها ونوعها وعمقها، بل وتنمو وتنشط حتى مع الأمية والبراءة والبدائية، ومتى ما وجدت بيئة آمنة ومساعدة فإنها تتألق وتسمو وتتجه نحو المثالية والرُقي، وقد تُزَوِّرها وتُشَوِّه شكلها ومضمونها بعض منعطفات الحياة الحادة، فتحرفها عن مسارها وفطرتها التي سَنَّها الله تعالى لمخلوقاته الحَيَّة. 

الرِفق والحُب والرحمة والعناية والخدمة والحماية والتعليم والنُصح عتباتٌ أولى ومُسلَّماتٌ حتمية في قاموس الأمومة العتيق، ومثلها قائمة طويلة من تلك النفحات الزاهية على سطوح بُنيان الطفولة البريء. 

ولا أعرف إن كانت الأمومة العصرية ما زالت تحافظ على تلك الفطرة الإنسانية الجميلة! أم أن مستحدثات الحياة الجديدة! وعنفها وقسوتها وماديتها ومشكلاتها المعقدة قد حطمت بعضًا من تلك المبادئ، وأزالت عنها طبيتها النقية البيضاء.

لقد كانت تلفني طفلًا في حضنها وبين ذراعيها في تلك الأيام الشتوية الباردة، تحت شعاع الشمس اللامع، وتوهج ضوئها الساحر؛ لتمشط شعري وتُرَجِّلَه، وتُرَتِّب ثوبي وتُعَطِّره، بِرِقَّةٍ ولطفٍ تعجز عن تحقيق قيمته الشاعرية كل شَغَّالات البيوت اليوم! وتعيى عن إنتاج زهوه وأناقته صالونات العصر الفخمة! إنها أمانة الأمومة العتيقة، وإخلاصها تجاه مسؤولياتها التربوية والعامة، تمشطه وتُرَتِّبُه بعد حمَّامٍ شتوي دافئٍ، كُله رِفقٌ وحبٌّ، وأغانٍ وأهازيج، وأحمالٌ لا منتهى لها من الحنان والأمان!

لقد كانت -إلى جانب تلك اللمسات الحانية في تلك الدقائق الجميلة- تسعى بحكمة بالغة، مع نغمات وترانيم جادَّة هادفة، إلى أن تبني عقلي وتُنَظِّمُه، وتضبط سلوكي وتُهَذِّبه، وتشحذ عزمي وتُقَوِّمه، فتقصَّ عليَّ قصصًا مؤثرة من فقه الحياة، وحكايات عميقة من تجارب العمر، و"سواليف" فاتنة من مستخلصات السنين والأعوام، تتركم بوعي أو دون وعي في سجلات الذاكرة وخزائنها، تستحضرها الأذهان وتتعظ برسائلها الجوارح في تفاعلات الحياة وأحداثها المتنوعة. 

وكل تلك البرامج والنماذج الحَيَّة من مدرسة الحياة، لا تكاد تجدها في دواوين الحِكم، ولا في قواميس النصائح، ولا في أسفار العلوم والفنون، ومُحَالٌ أن تجد لها نظيرًا في المناهج التربوية التي تملأ خزانات مدارسنا ومكتباتها الكبيرة. 

لقد كنتُ أتلذذ بتلك العناية السخية، والرعاية السامية الرضية، كلَّ يومٍ بعد مجيء أمي من المزرعة التي تعقد العزم والرحيل إليها من الفجر! تخط برجليها الطريق الترابي المتعرج، وتطأ بتلك الأقدام الهميمة جادة المزرعة قُبيل طلوع شمس الصباح، تغرس وتحصد وتقطف، تاركةً صغيرها يهنأ بنومة الضُحى، في تلك الحجرة الطينية المتواضعة، وعلى ذلك السرير المُطَوَّق من كل جهاته؛ ليحميَ الطفل من السقوط، ثم تعود بعد الضحى وقبيل شمس الزوال، مملوءة بالشوق إلى حبيبها المولود الوحيد، وقرة عينها ذلك الطفل البريء. 

الأمومة -أيها المكرمون- كما عهدناها في ميدان القيم العتيقة، مشحونة بالحب والحنان والإيثار والمداراة، تفيض أمانة وشعورًا بالمسؤولية، وتتفجر كلَّ حينٍ عنايةً بالتربية والتأديب والحمل على معاني الكرم والعطاء والشجاعة والشهامة وحسن الخلق، كل تلك المعاني كانت حاضرة بين جموع الريفيين الأميين! الذي يعجزون عن قراءة أو كتابة حتى أسمائهم، لكنهم مع ذلك يستعينون بفطرتهم على حسن التربية والتعليم وتوثيق مكارم الأخلاق في حياتهم ولأجيالهم التالية. 

قال سيدي: ((خيرُ نساءٍ ركِبْنَ الإبلَ صالحُ نساءِ قريشٍ؛ أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده)) أخرجه مسلم. ومعنى "ركبن الإبل" أي: نساء العرب. قال النووي في شرح الحديث: " فيه فضيلة نساء قريش، وفضل هذه الخصال، وهي الحنوة على الأولاد، والشفقة عليهم، وحسن تربيتهم ، والقيام عليهم إذا كانوا يتامى". انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم للنووي: 16/80.

الأمومة الرشيدة تمتلكها المرأة التي تعتقد بأنَّ التربية مسؤولية على عاتقها، وتؤمن بأنَّ واجبها بذل الجهود واتخاذ الأسباب الكافية لممارستها والسمو بها، ومن هنا كانت الأمهات قديمًا -رغم أُمِّيتهم التعليمية- منتجاتٍ على مستوى البيت والأسرة والتربية والإعداد، لقد فقِهن الحياة على وجهها من غير تَكلُّف، فتَخَرَّج من أحضانهنَّ وحُجورهنَّ علماء أفذاذ، ومفكرون عمالقة، ومثقفون متميزون، ومتعلمون مبدعون في مختلف مجالات الحياة، يجمعون بين العلم والعمل، بين المعرفة والتربية، بين المادة والروح، وسيكون ذلك متحققًا دائمًا وأبدًا حين تكون الأم مخلصة لمصطلح الأمومة الرشيدة، متفانية في خدمتها.

وهذا لا يعني أن تكون الأم بلا أخطاء! بلا ثغرات! بلا عثرات! بلا مشكلات! فالأم حضن من أحضان الإنسانية، يخطئ ويصيب، ويتنبه ويغفل، ويصحو ويسهو، ذو طاقة محدودة، ومشاعر تتموج، ونفسية تتفتح وتنكمش.

 وبهذا الوصف الإنساني المجبول على القصور والخطأ، والعثرة والزلة، لا ننتظر أمًّا معصومة مثالية بالمعنى المتناهي، لكننا لا يجوز أن نعجز عن إيجاد الأم المخلصة في المقاربة والتسديد، المتفانية في بذل الوسع للوصول إلى ما هو أفضل وأكثر جودة في السيرة والمسيرة، في العلاقة مع صغارها والقيام بحقوقهم، وهنا تنتهي مسؤولية الأم العتيقة التي نتغنى بها وننشد حضورها في عالم اليوم.

سأصدقكم القول بلا مبالغة... إنني اليوم –وأنا ابن الثلاثين- أعجز تمامًا عن استحضار مصطلح واحدٍ يدل على الشتيمة والبذاءة من ذاكرتي العتيقة والحديثة سمعته من أمي يومًا من الأيام تجاهي، نعم... أعجز تمامًا عن رصد هذا النوع من الجذور، فقد كان قاموسها اللفظي صفريًّا من السباب والشتائم والطعن واللعن!

لم أسمع منها يومًا شتيمة واحدة تجاهي مذ طفولتي وحتى يومي هذا، إنَّ هذه المثالية في التعامل اللفظي مع الأطفال لم يكن فصلًا دراسيًّا حصلت عليه من جامعة عريقة، ولا حِكمًا تربوية قرأتها في كتاب، لقد كانت فطرة الأمومة الأمينة متشكلة في كلِّ حياتها، حَصَّنَتها من حقول البذائة والفحش في اللفظ كما نعرفها ونسمعها من عدد ليس بالقليل من الأمهات في مجتمعات اليوم.

أعود مرةً أخرى إلى ذلك المشط الأخضر العتيق، الذي تتداوله يداها المتعبة، هو ذاته الذي لا زلت أحتفظ ببعض أسنانه الناعمة المسنونة بفروة رأسي وقتذاك! فمقتنيات الأقدمين كانت شبه مقدسة على بساطتها، وتجد من العناية والحفظ والتعاهد نظير ما يجده الأبناء من حماية ورعاية، فتراها لامعةً بهية في كل استعمال.

إنَّ مقتنياتنا الحديثة رغم جمالها ولمعانها ومتانتها وتطورها لا يمكن أن تؤدي دورها المنشود في الرعاية وحسن التربية، ما لم نُسعفها بإرادة حقيقية، وعزم متفتح، وحرص دؤوب على حسن التنشئة، ومداومة التعليم والتلقين وغرس القيم الإسلامية السامية.

لقد كانت شمس الضحى المُنعشة في عتبة باب غرفة الطين هي التي تمدنا بالدفء! علاوةً على حجرها الآمن الرحيم! ومَن غير الأم يُشعرك بالدفء والأمن والحب والاطمئنان؟! 

تلك المِدفأة أراها خارجًا في حوية الدار؛ إذ لم يبقَ منها سوى الرماد الساكن البارد وقت الصباح! فليس ثمة مدافئ مثل تلك التي نراها اليوم، ونشحن بها هواء منازلنا.

كنتُ أنا وحدي مَن يشغلها طول الوقت! تُحدِّثني وتُعلِّمني، تُلاعبني وترعاني، تنصح وتَعِظ، تضحك وتُمازح، حتى يعود والدي من العمل فأنعمَ برعايته ثانيًا. لم يكن يشغلها عني "الراوتر"! أو "الجوال"! أو "التلفاز"! لا شاشة ذكية ولا فضاء رقمي! لا يُقلقها انتظار موعد مسلسل أو عمل مسرحي! لم تكن مشغولة أو مُشوَّشة بفلمٍ أو مُدبلج! لم يكن للدراما -غير الأمينة- حضورٌ في ساحتنا، فكنتُ سيِّدًا محمولًا على الأكتاف.

إنَّ كثيرًا من الأمهات في عصرنا الحاضر مدمنات دون شعور بهذه الأزمة، مدمنات التواصل مع الأفلام والمسلسلات أو وسائل التواصل الاجتماعي، دون علم بأن هذا التعلق أزمة في حياتها، ولذلك فالمقاومة ومحاولة التشاغل والقيام بالواجبات الأسرية والتربوية لا تصمد عادةً أمام هذا التعلق العميق أو الإدمان الـمَرَضي.

 والحقيقة التي يجب أن يعيها كل فرد وتتنبه لها كل أسرة هي أن الإنسان إذا انتهى به حال التعلق إلى محطة قهرية لا يقوى معها على الانفكاك والمقاومة وضبط المسير بعقلانيته فهو محتاج إلى تطبب وعلاج، ويكفي في ذلك استشارة متخصص يدله على الطريق، ويوضح له ما تتطلبه الحالة التي آل إليها.

لقد عاثت فسادًا بمبادئ التربية مجموعةٌ من المُدخلات العصرية التقنية، تتصدرها الشاشة الصغيرة المغرية بألوانها وأشعتها، وما تعرضه من أبواب فتانة، وأنغام رنانة، ثم الشاشة الكبيرة! حيث الأفلام والتمثيل والمسرح وبعض البرامج التافهة أو الهابطة! ثم ألعاب وفيديوهات وأنفاق مظلمة! أنست كثير من الأمهات دورها في تربية الأبناء وتنشئتهم وتعليمهم علوم الحياة وفقهها! إننا نشعر بالخذلان عندما نسمع أنين طفل تتشاغل عنه أمه بالجوال ومواقع التواصل وبملهيات لا قيمة لها.

وليس ذلك ذنب التقنية الحديثة، فقد انتفعت من هذه المدخلات أممٌ من الرجال والنساء، من البنين والبنات، لا تحصى أعدادهم، علمًا وفقهًا ووعيًا ومهارة في أبواب تخصصية أو عامة، لكنَّ الملامة على مَن أدار للنافع الظهر، وعجز عن الترشيد وحسن الاستعمال مع هذه المدخلات الجديدة.

في كتاب الدكتور عبد الكريم بكار "أولادنا ووسائل التواصل الاجتماعي" يؤكد المؤلف على مشكلات تعانيها الأجيال من نافذة العلاقة مع التقنية الحديثة وعدم الترشيد لهذه العلاقة، ربما أسوأها الإدمان، ومنها أيضًا مشكلات تتعلق بالبناء الأخلاقي والقيمي والثقافي والاجتماعي والصحي, وقد أشارت دراسة بريطانية –كما يقول الدكتور بكار- إلى أنَّ 70 % من النساء يشعرن بأنَّ الهواتف الذكية أهم من أزواجهن، وهذا هو السبب في كثرة انشغالهن عن الأزواج. وإذا كان هذا واقعًا فالعلاقة مع الأبناء بطبيعة الحال لن تكون أفضل بكل تأكيد.

إنَّ التواصل مع الأبناء والاهتمام بهم والانشغال الدائم بتنميتهم وتعليمهم وتربيتهم هو ما يجب أن تجيده المتصدرة لمنصب الأمومة، وهو يتطلب الوقت الكافي والجهد الوافي، إضافة إلى الإخلاص وصدق النية، وكلما كانت انشغالات الأم بتفاصيل أكثر ستخصم من هذا الوقت الذي يستحقه الأبناء، خصوصًا إذا كان الالتزام خارج المنزل في الوظيفة والعمل، أو داخل المنزل بالتنظيف والطهي والترتيب، أو مع الشاشة الصغيرة والكبيرة، كل ذلك سيُفقد الطفل متعة التواصل وحق الرعاية النفسية والمعنوية والاجتماعية.

فسلامٌ على ذلك القلب الرحيم المعطاء، سلامٌ على ذلك الحضن الأمين المكتنز حنانًا وحُبًّا ومثابرة، وسلامٌ على شعاع "الشَرگة" الساحر العتيق! وتحيةً مُعَطَّرةً لعتبة غرفة الطين التي كانت تستضيفني وأمي مطلع كلّ ضحى! وبُعدًا لعالم اليوم المفجوع بفقدان الروح ونصف أنوار الحياة!!