في بحر الحياة تسري سفينتنا على مهلٍ، تهدهدها الأمواج يومًا، وتجرفها العواصف أيامًا، فيتغير اتجاهها وتحيد عن أهدافها، وقد تُـثقَب جوانبها ويَتلف شراعها، فما حال قبطانها المغامر؟ تراه يجزع أم يصبر على هوج العواصف؟

وما كان يمتلك مَفاتِح الغيب ولا أسراره، ولكنه عهد من ربه قدرًا يرضيه، وعوضًا يروي ظمأه ويشفي قلبه، وملجأً لضعفه واستجابة لدعائه، فالحياة تعلمنا أن الخير في أقدار الله دائمًا، والتماس خيرها لا يتأتى بانكشاف أسبابها؛ إنما هو في اثنين: الثقة في الله، والصبر على قدره. 

أما عن الثقة في الله فهي تنبع من التوكل وتفويض الأمر لله، وإن أصعب الأمور ليس ما يهلك البدن- بل على العكس إذا أحب الإنسان عمله أفنى في ذلك بدنه- وإنما أصعبها هو ما يشغلنا بنتائجه ونهتم لِمآلاته، وماذا سيحدث بعد ذلك؟ وهل سيتحقق المراد؟ وماذا إن لم يتحقق؟ وهكذا في دوامة تفكير وقلق على المستقبل، وفي حين أن أشق الأمور الانشغال بما سيكون؛ فقد أمرنا الله بالأخذ بالأسباب وبذل الجهد المستطاع ثم التوكل عليه وترك النتيجة له، قال تعالى (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [الآية 123، سورة هود]، هذا التوكل يجعل كل النتائج متساوية في نظرك لأنك أديت ما عليك وتوكلت على من لا يُخيب ظنك.. العَالِمُ بحالك وآمالك، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الآية 3، سورة الطلاق].

فهذا سيدنا موسى الذي وجد نفسه بين خَطرين، من خلفه فرعون وجنوده ومن أمامه البحر؛ فقال أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فقال لهم موسى متوكلًا على ربه واثقًا بنصره (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، فما كانت مجرد كلمة هو قائلها وإنما يقين يتربع في أعماق القلب وتوكل مستقر في جَنبات النفس؛ لتجد الروح ملجأها في أضيق الظروف وأشدها، فيأتِيه نصر ربه فور يقينه وثقته (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الآية63، سورة الشعراء].

وهذا سيد الخلق مع صاحبه مهاجرين بدينهم، تاركين وطنهم وديارهم وأموالهم في رحلةٍ يَحُفها المخاطر والترقب، فيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلق في عين صاحبه أبي بكر فيذَكِرَه بوكيلهم ومالك أمرهم، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا..) [الآية40، سورة التوبة]، فيُزيل الله خوفهم ويجعل هذه الرحلة -التي تبدو في ظاهرها أنها خاتمة سيئة لجهادٍ طويل في مكة- نقطة تحول في تاريخ الدعوة الإسلامية كلها وبداية فوز وتمكين.  

 ونظرًا لأننا بشرٌ يعترينا التذمر والنفور أحيانًا من ضيقٍ قد يصيبنا، فإن اختبارات الحياة هي التي تعلمنا الثقة في الله وجميل قدره، وتردعنا عن الظن السيء بالله عز وجل عندما نرى الخيرات بعد ضيق الحال.

وإننا في حياتنا مثل أصحاب السفينة عندما خَرَق الخِضر سفينتهم أمام أعينهم، ماذا ظنوا بربهم في هذه اللحظة؟ أصبروا أم جزعوا؟ وقد ظهر هول الموقف في احتجاج سيدنا موسى رفيق الخِضر، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).

 وأيًا كان رد فعلهم حِيال الخَرق، فما حالهم بعد ما علموا بالملك الذي يأخذ السفن غصبًا، وأن عيب السفينة نجاهم من فقدها؟ أكان حالهم سعادة وسرورًا بما لقوا من صبرهم؟ أم ندمٌ على ما ظنوا سيئًا بربهم؟

وهكذا هو حالنا بعد كل اختبار من اختبارات الحياة، نجاح أو رسوب، فيقول سيدنا سليمان لربه (هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [الآية 40، سورة النمل] 

وإن لأشد ما يُريح الإنسان هو الإيمان بأقدار الله والتسليم لها، وأقدار الله كلها خير وإن لم يُرى خيرها في الحال كأصحاب السفينة، إن إدراك وجود الله وغلبة إرادته هي التي تجعلنا قادرين على مواصلة السير بقوة، هي التي تعطينا الأمل مهما ساءت الأمور. 

أما الصبر، فإن ينابيع سُقياه كثيرة وأجملها سيدنا يعقوب، فوجدنا صبره على فراق ابنه المُقرب وأمله بلقائه، وصبره على ذنب أبناءه في حقه، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُون)، فلما لا نقتدي بيعقوب! نصبر على أحوالٍ لم نألفها، على حزن يمر بنا، على ضيق حالنا، وفي أسوء ظروفنا، والنتيجة مضمونة فهي ليست تجارة خاسرة، فسيدنا يعقوب لم يتزعزع صبره رغم محاولات استيئاسه واقتلاع أمله، فما تأثر بهم وتعلق بحبل ربه يشكوه حزنه، (قَالَ إِنمَا أَشكُو بَثي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الآية86، سورة يوسف] 

ومثلما أحببنا إرادة الله في قصة موسى وفرعون، وفي قصة الخِضر وأصحاب السفينة، وفي سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؛ علينا أن نجدها ونحبها في حياتنا، في تفاصيل حياتنا وفي رسائل الله لنا، في عطاياه واختباراته وأقداره، نعم نحن جميعًا غافلون ما لم ندرك حقيقة إرادة الله في حياتنا، ما لم نبحث عنها لنستزيد ونرتوي، ما لم نرضى بها وندرك أنها الخير أيما كانت.