"ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يٌكْسَى لحاء السنة" بهذه العبارة الموجزة البديعة استطاع شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي (توفي 481) أن يصف كيف تأثر كثير من طلبة العلم الشرعي في زمنه بالثقافة اليونانية، فأصبحوا يغلفون أفكار أفلاطون وأرسطو بغلاف إسلامي انبهارا وانهزاما لتلك الثقافة الغالبة وعلومها، ولو بُعِثَ الهروي رحمه الله اليوم ونظر نظرة موجز وموضوعية للساحة الفكرية والمواضيع التي تناقش اليوم خاصة بين الإسلاميين في مختلف التيارات يدرك أن هاجس الثقافة الغربية الغالبة يؤثر على آراء كثير من المفكرين الإسلاميين اليوم بل ويتعداها إلى التأثير على مواقف الحركات الإسلامية نفسها.
فعديد القضايا التي تناقش اليوم كحرية التدين وتحكيم الشريعة والموقف من المخالف وغيرها هي نقاط التماس واختلاف بين التراث الإسلامي والثقافة الغربية، وقد يقول قائل أن انتقاد العلمانيين والاشتراكيين في هذا الباب أولى لأن تأثير الثقافة الغربية عليهم أوضع وأعمق لكن هذه التيارات هي تيارات مستوردة من الثقافة الغربية والشرقية ابتداء ولذلك ليس من العجيب أن يتأثروا بل وينغمسوا في هذه الثقافة، أما الإسلاميون فهم ليسوا تيارا دخيلا على الثقافة العربية والإسلامية وبالتالي فتأثرهم بهذه الثقافة هو محل النظر والاستغراب، وسأحاول في مقالي هذا ذكر ثلاثة وسائل يستخدمها بعض الإسلاميين لتبرير آراءهم المتأثرة بالثقافة الغربية.
تمييع مفهوم الوسطية
لقد مدح الله عز وجل الوسطية في مواضع عديدة من القرآن فقال تعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) وقال تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) فجعل النقطة الوسط بين الإسراف والتقتير (قواما) أي وسطية مطلوبة وذم الوسطية في آيات أخرى فقال عز وجل في ذم المنافقين (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ) وقال عز وجل (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) أي يتخذوا موقفا وسطا بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش.
إذن ففي الإسلام هناك وسطيتان وسطية مقبولة مندوبة وهي تلك التي تكون حقا بين باطلين وفضيلة بين رذيلتين، قال تعالى (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ; صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) وأخرى مرفوضة وهي التي تكون وسطا بين الحق والباطل وبين هذين الوسطيتين خيط رفيع لا ينتبه إليه كثير من المفكرين الإسلاميين والحركات الإسلامية.
وقد انتبه المفكر الإسلامي والرئيس علي عزت بيجوفيتش إلى خطورة الخلط بين الوسطيتين فقال: إن الذين يقفون موقف الحياد من القضايا الأخلاقية الكبيرة هم خونة واستطرد فقال: هؤلاء المثقفون المحايدون دائما فوق شيء ما.. خارج شيء ما.. حتى مع هذا الصراع الدموي الذي قتل فيه الأطفال واغتصبت النساء هم محايدون ..فهل يمكن أن يكون لأي إنسان حق الحياد أمام هذا الوضع المأساوي ؟؟!!
فلذلك تجد بعض المفكرين الإسلاميين يحضرون باستمرار لندوات تعزيز السلم ومحاربة التطرف وهو أمر مطلوب وينكرون ما يسميه ترمب (الإرهاب الإسلامي) لكن لا يمكنك أن تجد لأحدهم حرفا واحدا في استنكار ما يسمى إرهاب الدولة التي تمارسه بعض الدول والكيانات الغربية كالغزو الأمريكي لأفغانستان والإبادة العرقية التي تقوم به الصين في تركستان الشرقية والمجازر التي تقوم بها روسيا في إدلب وبقية سوريا ويقفون موقف الحياد منها لأن إنكار هذه الجرائم وغيرها يمس الذوق الغربي العام ولا يلقى ترحيبا عند رواد الثقافة الغربية.
مخالفة الإجماع وتحويل الرخصة إلى عزيمة
الإجماع كما هو معلوم اتفاق مجتهدي عصر من العصور على حكم شرعي وهو من مصادر التشريع القطعية عند أهل الأصول والعزيمة هي الحكم المؤكد بدليل وهي الأصل والرخصة هي الحكم الثابت على خلاف الأصل لمعارض راجح وهي استثناء من الأصل.
فمثلا عدم القدرة على تطبيق الشريعة الإسلامية مباشرة بعد الحكم – وهو الهدف الذي من أجله أسست الأحزاب الإسلامية- نتيجة لإكراهات الزمان والمكان وثقل الإرث الاستبدادي التي ورثته بعض الأحزاب في كثير من الدول الإسلامية والتدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تحويل مبادئها وقيمها السياسية إلى إجراءات عملية ملموسة هو رخصة قديمة متجددة أخذت بها كثير من الحركات الإسلامية إلا أن الرخصة وكما هو معروف تضل ظرف استثناء مرتبط بإكراهات الزمان والمكان ولا يمكن أبدا أن تتحول إلى عزيمة أي أصل أو مبدأ يبنى عليه. فقول الشيخ راشد الغنوشي وهو الأب الروحي للحركة الإسلامية في تونس: أنه ليس من واجبات الدولة الإسلامية تطبيق الشريعة هو خلط واضح بين الرخصة والعزيمة.
فعدم قدرة أي حزب إسلامي على تطبيق الشريعة الإسلامية في بلده اليوم بسبب ظروفه المحلية والإكراهات الدولية لا يجعل من ذلك مبدأ عاما في الشريعة، وقد خالف الدكتور محمد المختار الشنقيطي الإجماع بقوله جواز تولية غير السلم الإمامة على المسلمين.
ويعادل ما ذهب إليه الشيخ الغنوشي في التاريخ الإسلامي تشريع بعض الفقهاء للملك العضود الذي بدأ زمن الأمويين بسبب إكراهات الفتنة الكبرى والخوف من هدر دماء مزيد من المسلمين وجعله أصلا بدلا من الشورى والخلافة الشرعية نتيجة لتأثرهم بالثقافة الساسانية وعهد أردشير.
تبعيض الأدلة الشرعية
من الوسائل الشائعة التي استخدمها بعض الإسلاميين وكثير من العلمانيين لترويض أحكام الشريعة الإسلامية أو لإضفاء صبغة شرعية على قراراتهم هو الأخذ ببعض الأدلة الشرعية رغم خصوصيتها أو نسخها أو ضعفها أحيانا عدة وتجاهلهم للأدلة الشرعية الأخرى، فمثلا في مسألة الردة الشرعية يستدل بعض المفكرين الإسلاميين كالدكتور محمد المختار الشنقيطي والأستاذ جميل منصور وغيرهم بقوله تعالى (لا إكراه الدين) ولا يذكرون أن غالبية الفقهاء قديما وحديثا حملوا الآية إما على أنها منسوخة أو مخصصة بآيات أخرى ويتجاهلون أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...) وذكر منها كفر بعد إيمان وسنة الخلفاء الراشدون المزكاة بقتل المرتد وشبه الإجماع المنعقد على قتله وإن كان هناك خلاف هل يستتاب أم لا.
فكثير من الشباب الإسلامي اليوم ينطلق من حاكمية الذوق الغربي ليصدر حكما شرعيا ثم يبحث بعد ذلك عن بعض الأدلة الشرعية لتقوية وجهة نظره الأمر الذي أدى إلى وجود تناقض في تصوراتهم عن مسائل مهمة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموقف من المخالف لتعارضه مع القاعدة الغربية الشهيرة (أنت حر ما لم تؤذ الآخرين) .
ختاما لقد أدرك ابن خلدون بذكائه الحاد قديما ضرورة استقلال الثقافة السياسية الإسلامية عن سلطة الثقافتين الرومانية والساسانية فقال في تنظيره لشؤون الخلافة والحكم (وهو ما أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان) فرمز للفكر اليوناني بأرسطوا والساساني بموبذان.
وأشار في معرض حديثه عن تبعات حالة الوجوم الفكري بسبب السحنة التي علت وجوه المفكرين (فالمغلوب مولعا أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه).
وحديثا أدرك المؤرخ ألبرت حوراني في كتابه الفكر العربي في عصر النهضة تأثر محمد عبده ومساره الإصلاحي بالفكر الليبرالي الأوروبي وأنه نتيجة لذلك كان ينوي (بناء جدار ضد العلمانية فإذا به يبني جسرا لتعبر العلمانية عليه ولتحتل المواقع واحدا تلو الآخر) فالثقافة العربية والإسلامية أحوج اليوم إلى استقلال فكري عن سلطة الثقافة الغالبة منبعا ومعيارا حتى تستطيع النهوض بحضارتها وتستعيد مجدها لا أن تصبح نسخة مشوهة من غيرها.