تعتبر اللغة والهوية من المحددات الرئيسية التي تميز مجتمع ما عن باقي الجماعات وتؤثر بشكل مباشر على التوجه الفكري للفرد وحتى انتمائه فهي ليست مجرد وسيلة تواصل بين أبناء المنطقة الإقليمية الواحدة أو الدولة الواحدة، التي تشترك في عدة مكونات ثقافية ودينية وغيرها، وإنما هي وعاء حامل للقيم والتراث والهوية الحضارية والثقافية. لهذا يعد توظيف لغة أجنبية لا تنتمي للحقل الثقافي لمجتمع ما في الحياة اليومية وفي تسيير الشؤون العامة سيطرة واستيلاء على المجتمع وتحطيم لكينونته.


وتعد ظاهرة الاستعمار من أبرز الأزمات التي تلحق ضررا مباشرا بالدولة سياسيا واقتصاديا والأهم اجتماعيا، حيث عملت القوى الاستعمارية على مر التاريخ على تحطيم الانتماء والتميز والثقافة المشتركة وإحلال لغة جديدة وثقافة جديدة مكان لغة الدول الأم. 

واللغة الفرنسية من بين أشهر اللغات الاستعمارية التي برزت في مجتمعات ودول في شمال أفريقيا خاصة وحتى في الشرق الأوسط. لهذا كثيرا ما نصطدم بمصطلح الفرنكوفونية وعلاقته بالاستعمار وبالتبعية.  

كيف تجسد المنظمة الفرنكوفونية سياسة فرنسا تجاه مستعمراتها القديمة؟

يعتبر مصطلح الفرنكوفونية معاصرا، إذ أطلقه الجغرافي الفرنسي ريكلوس وأعطاه الصيغة اللغوية حسب الجغرافيا التي تنتشر فيها اللغة الفرنسية ولا سيما فرنسا، وشمال أفريقيا وبشكل أكثر تحديدا عرّف ريكلوس مفهوم الفرنكوفونية بأنها مجموعة السكان الذين يتكلمون الفرنسية. 
يرجع أصل المنظمة الفرنكوفونية إلى اتفاقية نيامي التي عقدت في 20 مارس 1970، وقد تطور مشروع الفرنكوفونية دون توقف منذ إنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني وأخيراً في عام 2005 تم اعتماد ميثاق جديد للفرنكوفونية يعطي اسمًا للوكالة الدولية للفرنكوفونية تضم المنظمة 88 دولة عضوا وحكومة.
في الوقت الحاضر لاتزال تحظى الفرنكوفونية باهتمام سياسي في فرنسا، فالشؤون الفرنكوفونية تديرها بشكل مباشر، ولعل تخصيص وزارة معنية بالشؤون الفرنكوفونية في فرنسا يعطي إشارة واضحة على أهميتها في أجندة الحكومة الفرنسية، ومدى الطموح السياسي والآمال التي تضعها فرنسا في هذه السياسة حاضرا ومستقبلا.
oif

وبالحديث عن المستقبل يجدر بنا أن نرجع إلى الماضي لنبحث في دور وتداعيات الفرنكوفونية كسياسة في حقبة الاستعمار وتأثيرها في الحياة اليومية وحتى على مستوى المؤسسات الرسمية 
لنطرح السؤال التالي: هل وظفت فرنسا الفرنكوفونية كأداة لاستعمار شمال افريقيا؟ 

فالبداية، يجدر بنا الإشارة أن بعض الباحثين العرب يرون أن حقيقة الفرنكوفونية هي “أيديولوجيا تعيد إنتاج علاقات التبعية، عن طريق الاستثمار في الموروث اللغوي الاستعماري لأغراض سياسية واقتصادية”.


بما أن اللغة عنصر مهم في تحديد ماهية المجتمع حيث نبه ابن خلدون إلى خصوصية الشعوب في طبيعة ألسنتهم موضحا أن ما يميز جماعة عن أخرى هو اختلاف اللغة والألسن. 
 وقال "واعلم أن اللغة في المتعارف عليه هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحهم" وأضاف أيضا "كل أمة بحسب اصطلاحهم" وهذا يعتبر إشارة إلى اختلاف الأمم في اصطلاحاتهم، والاختلاف في ذلك إنما ينشأ عن الاختلاف الفكري والثقافي والمرجعي. وأن محاولة طمس هذا الاختلاف ما هو إلى رغبة في طمس هوية المجتمع نفسه وإلغاء وجوده كوحدة مستقلة. وبالتالي فاللغة حاملة للقيم والعادات والأعراف بل لأنماط التفكير. 
ويقول الدكتور محمد عابد الجابري "اللغة تحدد أو على الأقل تساهم مساهمة أساسية في تحديد نظرة الإنسان إلى الكون وتصوره له ككل و كأجزاء".

"الفرنكوفونية" السياسة الاستعمارية الناعمة 

بداية الفرانكفونية؛ جاءت بشكل متوازي مع انسحاب فرنسا من مستعمراتها؛ وهذا ما يفسر أنه "الاستعمار الجديد"؛ الذي أسست له فرنسا بعد انهزامها على يد المقاومة المسلحة.
هذه المنظمة تعمل على خلق تعاون ثقافي وتعليمي واقتصادي بين الدول الأعضاء ولكن في الحقيقة ما يهم فعلا هو الجانب التعليمي والثقافي، حيث يشكل التعلـيم العامل الأساسي لنشـر  اللغة، والثقافة الفرنسيتين. 


لقد تم تكوين نخب متفرنسـة فكرا، ولغـة بعيدة عن دينها الإسلامي، وقـيم حضـارتها لتصبح عونـا وأداة فاعلة فــي يـد السياسـة الفرنسـية؛ وذلــك لاختراق المجتمع العربي والمسلم والتحكم فـي إعـادة تكوينـه وتقرير مصيره.

بعد مرور أكثر من ستين سنة نالت فيها 14 دولة إفريقية الاستقلال عن فرنسا. اليوم لا تبدو علاقة باريس بالقارة السمراء في أفضل أحوالها. حيث تطلق اتهامات فحواها استمرار الاستعمار
تقول ناتالي يامب، المستشارة لحزب "الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج": بعد ستين عاماً لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية، وتضيف أن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا. 
تمثل الفرنكوفونية يدا فرنسية ناعمة تقبض بها بكل قوة على العنق الثقافية والتعليمية ليس في فرنسا فقط، وإنما في بلدان متعددة وخصوصا في أفريقيا.

المثقفون العرب في أحضان اللغة الفرنسية 

عبر أكثر من قرن من الزمان مثقفون عرب يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية أو يترجمونه لها، ومثلت المنطقة المغاربية إحدى أكثر المناطق إنتاجا وتأثيرا في الثقافة الفرنكوفونية من خلال إنتاجات فكرية وأدبية وثقافية متعددة، فقد مثلت الفرنكوفونية في المغرب العربي رئة الثقافة لأجيال كثيرة.
يرى كثير من الباحثين أن الفرنكوفونية بمفهومها الأوسع، ليست مؤسسة ثقافية بل هي امتداد للاستعمار الفرنسي، وأنها حققت لفرنسا ما لم تحققه جيوشها طيلة عقود من الزمن، وبسبب ذلك تستميت فرنسا في الدفاع عن لغتها رغم ما أصابها من شيخوخة وتآكل لمضامينها الثقافية 
والعلمية، بسبب سيطرة اللغة الإنجليزية على الإبداع والإنتاج العلمي.
لهذا يعتبر أنصار الفرنكوفونية هم الأمل الوحيد لفرنسا لاسترجاع مكانتها الثقافية والعلمية ولتتسابق مع اللغة الانجليزية.
من بين أبرز الأدباء العرب الذين يكتبون بالفرنسية: كاتب ياسين ومولود فرعون ومالك حداد ومحمد ديب من الجزائر، وأحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي من المغرب، ومحمود أصلان والهاشمي البكوش من تونس… 

ولكن تعيش الكثير من الدول الأفريقية والفرنكوفونية نوعا من انتفاضة ثقافية ولغوية، حيث بدأنا نشهد تلاشي تدريجي للغة الفرنسية واستبدالها باللغة الانجليزية واللغة العربية. 

وتعتبر الجزائر أحسن مثال حيث أشار استطلاع حديث للرأي أجرته وزارة التعليم مؤخرًا على مجموعة من الطلاب، إلى أن 94% منهم يفضلون استخدام اللغة الإنجليزية في الجامعات على اللغة الفرنسية. 
وسجل تقرير «المجلس الأعلى للفرانكفونية» تراجع الفرنسية بالجزائر في السنوات الأخيرة، إذ إن نسبة الجزائريين الذين يتحدثون اللغة الفرنسية انخفض إلى أقل من 28% فقط، أي ما يعادل 11 مليون جزائري من أصل 41 مليون نسمة.