في البداية أشير إلى أنني لست خبيرا اقتصاديا، ولكن قراءتي لتداعيات أزمة جائحة كورونا والسيناريوهات المحتملة لعالم ما بعدها هي قراءة مركبة، تتأسس على الجمع بين الأفكار التي طرحها المتخصصون والمفكرون الذين استطلعت آراؤهم حول مستقبل العالم بعد وباء كورونا في المجلة الأمريكية Foreign policy مع تطعيمها ببعض الاجتهادات الخاصة.

قبل التطرق لهذا الموضوع يتعين الإشارة إلى مقالة لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في صحيفة وول ستريت جورنال، قال فيها إن «فيروس كورونا سيغير النظام العالمي إلى الأبد". تأتي هذه الرؤية في وقت ظهرت فيه صعوبات التصدي والمواجهة مع فيروس كورونا القاتل في أغلب دول العالم بما فيها الدول المتقدمة. 

وشبه كيسنجر صورة عالم اليوم مع هذا الفيروس، بما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية، وبالضبط سنة 1944، حالة من اللا يقين والشعور بالخطر تسود العالم، كأن التاريخ يعيد نفسه، إلا أن هذه الإعادة، في نظره، ليست صورة مطابقة للأصل، فهناك أوجه تباين واختلاف بين اليوم والأمس، وختم كيسنجر بالقول إن التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، وإن الفشل في هذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال العالم.

 الرسالة موجهة في الأساس إلى الصين التي تنافس الولايات المتحدة على زعامة العالم، ومن ثم فهو يريد أن يقول لها، إما الاتفاق والرضا بقيادة أمريكا، وإما السقوط في وحل الفوضى والاضطرابات والحروب، التي من خلالها ستخسر الصين أكثر مما تربح، وستفقد كل ما بنته طيلة سنوات في لحظات معدودة. 

العالم ما بعد كورونا.. إلى أين؟ 

السؤال المطروح في الوقت الراهن كيف سيكون العالم ما بعد نهاية الأزمة الوبائية (كوفيد-19) أو "الفيروس الصيني" حسب تعبير الرئيس الأمريكي؟ وهل العالم يتجه نحو عولمة جديدة؟ أم اننا سنشهد صعود الدولة الوطنية؟ وما هي تداعيات هذه الجائحة على العالم العربي؟

بتاريخ 20 مارس 2020 قامت مجلة فورن بوليسي الأمريكية، Foreign Policy بتوجيه سؤال كيف سيكون شكل العالم "ما بعد" نهاية كورونا؟ إلى 12 باحثا ومُفكرا ومنظرا عالميا من مختلف المدارس الفكرية، خاصة العلاقات الدولية الذين تغلب عليهم الثقافة الأمريكية (الأنجلوساكسونية) منهم تسعة أمريكيين، وواحد بريطاني، وآخر هندي، ثم واحد سنغافوري، ليتحدثوا عن وجهات نظرهم، وتحليلاتهم لشَكل العالم بعد كورونا.

ولأهمية ما نشرته المجلة، فإنني أشير باختصار شديد إلى أهم الأفكار والتحليلات التي ذكرها عدد من هؤلاء المفكرين، وسأكتفي من أمريكا بالمنظر السياسي الأمريكي وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد ستيفن والت الذي يعدّ اليوم من أهم منظري المدرسة الواقعية الدفاعية الجديدة في الولايات المتحدة، والبريطاني روبن نبليت، ومن سنغافورة كيشور مِهبوباني، ومن الهند شِيفيشنكار مينون.

يرى الأكاديمي ستيفن والت Stephen M. Walt أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأميركية، أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم تتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة، ويتوقع "ولت" أن وباء كورونا، سيخلق عالما أقل انفتاحا وأقل ازدهارا وأقل حرية، ما كان يجب أن نصل إلى هذه النتيجة، ولكن الجمع بين فيروس قاتل، وتخطيط غير ملائم وقيادة غير كفؤة وضعت البشرية على مسار جديد ومثير للقلق.  

ويتوقع المنظر السياسي البريطاني روبن نبليت Robin Niblett المدير التنفيذي للمعهد الملكي للشؤون الدولية "لشَاثم هاوس" Chatham House نهاية العولمة كما نعرفها، ويرى أنه بدون حماية المكاسب المشتركة من التكامل الاقتصادي العالمي، فإن البنية الاقتصادية العالمية التي تم إنشاؤها في القرن العشرين سَتتدهور بسرعة. 

 ومن سنغافورة التي تعد من أكثر الدول عولمة في العالم، يتوقع البروفيسور وعميد كلية لي كوان يو للسياسة العامة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية، كيشور مِهبوباني Kishore Mahbubani "عولمة أكثر تتمحور حول الصين". مؤكدا بأن وباء كورونا لن يغير بشكل أساسي الاتجاهات الاقتصادية العالمية، ولن يؤدي إلا إلى تسريع التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين.

 يقول: "لقد فقد الشعب الأمريكي ثقته بالعولمة والتجارة الدولية. اتفاقيات التجارة الحرة سامة كما يراها الأمريكيون اليوم، سواء مع أو بدون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. 

في المقابل لم تفقد الصين إيمانها، وهناك أسباب تاريخية أعمق، يعرف القادة الصينيون جيدا الآن، أن قرن الإذلال الذي عاشته الصين من عام 1842 إلى عام 1949 كان نتيجة لتهَاونها وجهودها غير المجدية من قِبَلَ قادتها لانقطاعها عن العالم، وعلى النقيض من ذلك، كانت العقود القليلة الماضية من الانتعاش الاقتصادي نتيجة للمشاركة العالمية.

ومن الهند يرى البروفيسور والمستشار السابق للأمن القومي الهندي، شيفشينكو مينون Shivshankar Menon أن هناك عودة لسلطة الدولة والحكومات، ويلاحظ أن السلطويين أو الشعبويين ليسوا أفضل في التعامل مع الوباء، والواقع أن الدول التي استجابت في وقت مبكر وبِنجاح، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، كانت ديمقراطية وليست تلك التي يديرها قادة شعْبويون أو سلطَويون. 

ويختم شيفشانكار مينون، أن الوقت لا يزال مبكرا للتنبؤ لكنه يتوقع أن جميع الأنظمة السياسية، تتجه نحو الانغلاق على نفسها حاليا، بحثا عن الاستقلالية والتحكم بمصيرها، ويضيف "نحن متجهون نحو عالم أكثر فقرا وانحطاطاً".

 يستشف مما سبق، أن الأخطر من كورونا هو انتشار المجاعات والفقر الذي سينتج عن استمرار إغلاق الاقتصاد وتضييق الحركة عبر العالم، أخطر من كورونا انتشار الفوضى وفقدان الأمن والأمان، أخطر من كورونا أشياء كثيرة ستتضَخم وتكبر إن استمر العالم مغلقا لفترة طويلة.

ويستخلص مما سبق أن العالم الذي عرفناه قد انتهى، وأن عالما جديدا سوف يولد، العولمة المنفتِحة على كل شيء تعاني اليوم من اهتزاز جراء الجائحة، فالحدود تغلق ثم تفتح مع ما تبِع ذلك من تعطل الأسواق والمعاملات وتدفق البضائع وحركة البشر.

المؤكد هنا أن الجائحة أبانت عن هشاشة العولمة، وهشاشة الدول الوطنية في وقت واحد، فلا أحد كان مستعدا وجاهزا لمواجهة الجائحة، كما أن العالم ما بعد الجائحة سيكون أقل انفتاحا، ولكن هذا لا يعني أنه سيكون خارج نطاق حركة العولمة والهيمنة، والدليل على ذلك تنافس دول العالم نحو الرقمنة والصراع الدولي لامتلاك التكنولوجيات الحديثة كأداة حاسمة للهيمنة الاقتصادية والعسكرية.

ما سبق يصب في نتيجة حتمية، وهي أن جغرافيا العالم السياسية لن تتغير بشكل كامل بعد انتهاء أزمة "كورونا"، بل على العكس سيدخل العالم في نفق من الجمود الجيوسياسي والاقتصادي أيضا، ولا يبدو أن القوى الفاعلة في الكوكب مستعدة لتغيير استراتيجياتها التي كانت متواجدة قبل الجائحة، بل إن كل ممارسة ستزداد في نفس طريقها، وكما قال الشاعر المصري الراحل أمل دنقل:

"لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كل قيصر يموت.. قيصر جديد."
في هذا العالم المتحول باستمرار ما هي تداعيات الجائحة على المنطقة العربية؟

عربيا التداعيات قد تستغرق عقودا، وستُؤدي في النهاية إلى تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية ستنعكس إيجابيا أو سلبيا على الأجيال القادمة. 

في المرحلة القادمة ستواجه معظم دول العالم العربي بسبب تفاقم مشكلة الديون المتزايدة مطالب هائلة لا يمكن تلبيتها، فمعظم الدول ليست لها إمكانات مالية لمواجهة الطلب الاجتماعي، ويمكن أن تتدخل المؤسسات المالية الدولية والدول المتقدمة بتسهيل منح القروض والمساعدات لبعض الدول العربية للتخفيف من آثار الأزمة التي خلفتها الجائحة.

ومن المرجح أن تعزز الجائحة تراجع الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية للفرد أو ما يمكن تسميته بـ "أمننة الدولة"، لإخماد روح الديمقراطية وهو ما كان ساريا وواضحا منذ 15 عاما، لأن الأمور متعلقة بطبيعة الأنظمة العربية التي تسعى للدفاع عن نفسها بشراسة في وجه أي رؤى معارضة. 

مغربيا من المتوقع أن يشهد الاقتصاد المغربي ركودا لسنوات بسبب تداعيات كورونا ستظهر في انخفاض الصادرات، وإيرادات السياحة، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج وكذا الاستثمارات الخارجية المباشرة، الشيء الذي سيؤثر سلبا على مستويات النمو والعجز.

مغرب ما بعد كورونا سيعرف مجموعة من المتغيرات التي تحتم مواصلة الإصلاحات في العمق ومراجعة الأولويات الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز البنية التحتية الرقمية، إضافة إلى تعزيز التنافسية والتضامن ومحاربة الريع، والاحتكار، وتنازع المصالح، دون إغفال إشراك المواطنين في العملية التنموية، والعمل على إعادة الثقة المفقودة في المؤسسات، التحديات المقبلة كبيرة، لكن التغلب عليها ليس مستحيلا.

وخلاصة القول يستشف من ثنايا كلام الباحثين والمنظرين السابق ذكرهم، أن كلمة السر تكمن في مبادئ وقيم أساسية في إدارة المعادلة الداخلية، في مقدمتها إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وإذا لم تكن هنَالك مقاربات جديدة في تدبير الشأن العام والسهر على استعادة الثقة المفقودة، في مختلف المستويات، السياسية والاجتماعية، فإنّ "المعادلة الداخلية" ستكون في مرحلة مقلقة للغاية، وقد ثبت أن ما تسمى ب "الجبهة الداخلية" هي صمام الأمان الحقيقي لأي دولة ومجتمع، يسعى لعبور مثل هذه المنعرجات والمخاطر.