تقرؤون نص مداخلة "كيف عالج الرسول صلى الله عليه وسلم البيئة التي ظهر فيها؟" قدمها الشيخ عبد الحي يوسف من السودان في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الخميس 26 نوفمبر 2020. 

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير، والسراج المنير وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكر الله لإخواني القائمين على الملتقى المبارك في زمان يحتاج فيه الناس لمن يذكرهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيفية الاستفادة منها في تغيير واقعنا وتطوير حياتنا ومعالجة الشبهات التي يطرحها أعداءنا، وتثبيت قلوبنا وإخواننا وأخواتنا على دين الله عز وجل.

عنوان هذه المداخلة التي أشْرف بالمساهمة فيها كيف عالج الرسول صلى الله عليه وسلم البيئة التي ظهر فيها؟

السؤال الذي يُطرح بداية هو: ما هي ملامح البيئة التي ظهر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم؟

حال البيئة العربية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف قابلها بعد البعثة؟

أذكر حديثاً نبوياً رواه مسلم في صحيحه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم) (وهذا هو محل الشاهد) إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يصله الماء تقرؤه نائماً ويقظان...

 ومما يزيد المعنى الذي أريده بياناً قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بين يدي النجاشي مصوراً حال تلك البيئة التي بُعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيئ الجواري ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنُوحده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وأكل الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة وعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعَبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذَبونا وفتنونا عن ديننا ليَردونا لعِبادة الأوثان، ونسْتحل ما كنا نستحل من الخبائث) إلى آخر ما قال رحمه الله ورضي عنه.

إذا عرفنا حال هذه البيئة من ناحية عقدية وعبِادية وأخلاقية نلج إلى السؤال: كيف أصلح النبي صلى الله عليه وسلم من حال تلك البيئة التي ظهر فيها؟ أسرد ذلك في نقاط وهي:

أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في بيئة غلبت عليها ضروب الجهالة والوثنية والتعلق بالخرافات والأباطيل والتراهات.

 حتى أن الواحد منهم إذا كان في سفر لم يجد حجراً يعبده كان يأخذ كثيباً من رمل فيصب عليه ما عنده من حليب ثم يتخذه معبوداً من دون الله. 

عالج نبينا صلى الله عليه وسلم تلك البيئة الموغلة في الجهالة والوثنية بإعمال العقل، وأنزل عليه الله سبحانه وتعالى في القرآن نحواً من ثمانمائة آية تُعلي من شأن العلم والعقل والتفكر والتدبر والتذكر، ويكفينا فخرا معشر المسلمين أن أول خمس آياتٍ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر القراءة والعلم والقلم.

بل القرآن الكريم الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم في مكة يعد تعطيل العقل جريمة يندم عليها أهل جهنم، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، والله جل جلاله يعد هؤلاء الذي يعطلون تلك الحواس بمنزلة البهائم، قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [سورة الأعراف الآية: 179].

يُقرر نبينا عليه الصلاة والسلام أقيسة عقلية في بيان الأحكام، لذلك لما جاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه أنه قد قبل وهو صائم: "يا رسول الله هششت فقبلت وأنا صائم" قال له عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمظمظت" قال له عمر: "ما كان في ذلك من شئ" فقال له صلى الله عليه وسلم: "ففيما".

حين يأتيه أعرابي يشكو إليه أن امرأته ولدت غلاماً أسود، هو أبيض وزوجه بيضاء والمولود جاء أسود، ولعبت به الوساوس والهلاوس، فالنبي عليه الصلاة والسلام يزيلها عن طريق قياس عقلي فيقول: ألك إبل؟ قال نعم فقال له: ما ألوانها؟ قال صُفر، قال هل تجد فيها من أورق؟ قال نعم، قال من أين جاءه؟ قال له لعله نزعة عرقٌ، قال ولعل ولدك قد نزعه عرق.

النبي عليه الصلاة والسلام في تلك البيئة التي عطلت عقولها وتبعت أهوائها وقلدت آبائها أرشدها إلى إعمال العقل.

ثانياً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر في بيئة تعلي من قيمة الجنس واللون والقبيلة والعنصر ويفخرون بآبائهم. 

بعضهم يرى نفسه لولاه لمادت الأرض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبَشير بن الخصاصية (أما تحمد الله أن أخذ برأسك من بين مضر قوم يرون لَولاهم لمادت الأرض). 

كان العرب يغلب عليهم الفخر والخيلاء وذكر الآباء حتى قال الله لهم (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْ) [سورة البقرة الآية:200]، كانوا في الحج الذي قُصد به توحيد الله عز وجل وعبادته، يذكرون آبائهم ويفخرون بما كانوا عليه.

 النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لتلك الظواهر المرضية، أعلى قيم الإيمان على ارتباطات القبيلة والعنصر والجنس، فقال لأصحابه (من افتخر بتسعة آباء ماتوا على الشرك فهو عاشرهم في النار، إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتفَاخرها بالآباء، الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي وهَين على الله).

اشتد نكير النبي عليه الصلاة والسلام على رجل من خاصة أصحابه، ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أصدق لهجة منه ومع ذلك لما قال لبلال يا ابن السوداء قال له النبي عليه الصلاة والسلام (أعيرته بأمه؟ إنك امرؤٌ فيك جاهلية). فمن أجل أن يقضي صلوات ربي وسلامه عليه على تلك النزعة العنصرية التي لا زالت آثارها باقية في نفوس بعض الناس والعرب كانوا في ذلك أي في سبيل القبيلة والآباء ما يبالون أي حرمة انتهكوها أو أي فساد اقترفوه، لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ماقال برهانا، وكان بعضهم يُقال له الأحمق المطاع، كان إذا غضب غضب له ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدلاً من تلك القيم الشائهة، قال لهم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، قالوا له يا رسول الله كيف أنصره ظالماً قال بأن تكُفه عن ظلمه.

ثالثاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام ظهر في بيئة محقرة للمرأة.

 ترى الأنثى عاراً وإذا بُشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وكان الواحد منهم يقول، إني وإن سيق إلي المهر عبدٌ وألفان وزود عشر أحب أصهاري إلي القبر، وإبنته موؤودة تتمنى له عند أسفاره عمراً طويلا فكان يُجيبها، مودة تهوى عُمر شيخ يسره لها القبر قبل الليل لو أنها تدري يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختنٌ يُرجى أود من القبر.

جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكرم هؤلاء الإناث فقال (من كان له بنات إناث فأدبهن وعلمهن فصبر على لأوائهن حتى يبن أو يمتن، كن له حظاراً من النار). 

يُرزق صلوات ربي عليه وسلامه أربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فكان يُكرمهن ويجلهن ويقوم عليهن ويقبلهن صلوات ربي عليه وسلامه شاكراً نعمة ربه في هذه الهبة التي سماها الله هبة (يهب لمن يشاء إناثا)، ثم بعد ذلك ما كان تعامله مع الأنثى لكونها بنتاً فقط بل وأزواجه صلوات ربي وسلامه عليه، يُكرمهن يوَقرهن ويُثني عليهن ويبوح بحبه على الملأ.

رابعا: النبي عليه الصلاة والسلام في حياته الاجتماعية ظهر في بيئة يغلب عليها الغلظة والقسوة

 وأن إظهار المشاعر نوع من الضعف الذي لا يليق بالرجال، غير كل هذا صلوات ربي وسلامه عليه، فكان أباً حانياً، عطوفاً رؤوفاً رحيماً على البنين والبنات، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يوماً يُصلي بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب رضي الله عنهما وهي حفيدته، فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها، يكون على المنبر صلوات ربي وسلامه عليه يوم الجمعة يخطب في الناس فيدخل الحسن والحسين عليهما سلام الله، عليهما ثوبان أحمران يتَعثران، فينزل عليه الصلاة والسلام من منبره فيحملها ثم يصعد ويقول صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، إني رأيت ولدي هذين فلم أصبر حتى أخَذتهما. 

النبي عليه الصلاة والسلام حين يكون جالساً معه بعض الأعراب فيأتيه الحسن والحسين فيقَبلهما فيقول له الأعرابي منكرا: أتقبلون أبنائكم؟ والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدهم يوما، قال عليه الصلاة والسلام: (أو أملك أن نزع الله تعالى الرحمة من قلبك)، فهذه كلها مفاهيم غيرها صلوات ربي وسلامه عليه.

خامسا: النبي عليه الصلاة والسلام ظهر في بيئة القيم الإنسانية فيها ضعيفة

يكون الولاء والتوقير بحسب رابطة الجنس والقبيلة والعنصر واللون، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمهم أن يُكرموا الإنسان من حيث كونه إنسان، لما مرت به جنازة فقام لها عليه الصلاة والسلام، قالوا له يا رسول الله إنها جنازة يهودي، قال أوليست نفسا؟

 بل أكثر من ذلك فعندما انتهت معركة بدر كان هناك سبعون من صناديد الكفر أسرى، فيهم سهيل بن العامري رجلٌ كان خطيب المصقعة وكان يحرض على قتال النبي عليه الصلاة والسلام، عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رآه قال له يا رسول الله: دعني أنزع ثَنيتيه يندلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم أبدا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يا عمر لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا).

سادسا: من مظاهر البيئة التي ظهر فيها أيضاً أنها كانت تقوم على أن في الناس سيداً ومسودا.

وأن في الناس من يأمر فيطاع ومن يؤمر فيطيع، فالنبي صلى الله عليه وسلم وقد كان كبير القوم إلا أنه كان مع أصحابه رؤوفاً رحيماً، يتعهد حاضرهم ويسأل عن من غاب منهم، يسلم عليهم ويشمت عاطِسهم، يعد مريضهم ويعين ضعيفهم ويشيع ميتهم ويشاركهم في السراء والضراء، ويكسو عاريهم ويشبع جائعهم ويرعى اراملهم وأيتَامهم ويجالس فقرائهم، وما رؤي مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له قط، ما رؤي عابساً في وجه أحد منهم قط، ولا اسْتأثر عليهم بشَئ لنفسه، مع أن له السلطة الروحية والسلطة المادية لكونه قائد الجيش ورئيس الدولة، والمفتي الذي يجيب على أسئلتهم والقاضي الذي يحكم بينهم ومع ذلك ما كان يستأثر لنفسه بشئ عليهم.

في غزوة بدر لما كان مع كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، من كان يشاركان النبي صلى الله عليه وسلم في بعيره قالا له: يا رسول الله أنت تركب ونحن نمشي، فقال: ما أنتما بأقوى على المشي مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما. 

سابعا: من مظاهر هذه البيئة أن الرحمة والرأفة غائبة وفيها الاعتداد بالقوة 

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين

 ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا

وإلى غير ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام بحسبه شرفاً أن الله جل جلاله أسماه باسمين من أسمائه فقال: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة الآية: 128]، آذاه قومه وعشيرته أشد الأذى حتى كانوا يطرحون سلا الجذور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة، فما زاد على أن قال (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

لما ذهب إلى ثقيف أغروا به سفهاءهم ما زاد على هذه الكلمة، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما كان بعض أهل الكفر قد تمادوا في أذاه ما قابل ذلك إلا بالرحمة، وفي السيرة من أمثلة رحمته صلوات ربي وسلامه عليه شئ عظيم حتى صدق فيه قول ربنا ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء الآية: 107].

ثامنا: النبي عليه الصلاة والسلام ظهر في بيئة يغلب عليها الظلم

يقول قائلهم: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدم، ومن لا يظلم الناس يُظلم، ويقول الآخر بغاة ظالمين بغاة ظالمين وما ظُلِمنا ولكنا سنبقى ظالمينا، فقام النبي عليه الصلاة والسلام بتزييف ذلك كله، وأظهر من العدل الشيء العظيم فما ظلم أحداً في دم أو عرض أو مال ولا جار، في حكم بل قبل وفاته صلوات ربي وسلامه عليه صعد على منبره وقال (أيها الناس من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ، ولا يقولن قائل أخشى الشحناء من رسول الله فما هي لي بخلق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة يُطالبني بها في دم أو مال).