مع مرور الزمان، وكلما زاد الابتعاد عن عصر الوحي والرسالة، كثر الارتباك والاجتهاد في توظيف النص والاستدلال به أيضا، فلم يكن هذا الإشكال قائما في الزمن الأول بهذا الحضور، ما يدفع للتساؤل عن الذي استجد بعد ذلك ليجعل هذا المفهوم له أهمية كبيرة.

نتساءل قبل هذا عن السياق الحركي للنصوص الشرعية، وهل يمكننا فهم النص في سياقات الواقع؟ وما دواعي النظر في النص والواقع معا؟ وهل هناك فرق بين توظيف النص لخدمة مقاصد الشريعة؟ وبين ليِه ليوافق هوى النفس والخديعة؟

في هذا الإطار استضاف برنامج ساعة فكر يوم الخميس 19 نونبر 2020م الموافق ل 4 ربيع الثاني 1442ه -والذي يقدمه كل خميس أ. شمس الدين حميود على صفحة مدونات عمران- الدكتور محمد النوباني وهو دكتور في الدراسات الإسلامية للحديث عن موضوع "كيفية توظيف النص في فهم إشكالات الواقع" ومواضيع أخرى ذات صلة وفيما يلي نص الحوار.

يا حبذا لو تحدثنا عن اسهاماتك في مجال التأليف، وأنت الذي لديك كتابين جليلين أولهما "دليل المرابطين في تحرير فلسطين" والكتاب الثاني الذي طبع ونشر وكتب له الانتشار بحمد الله وهو "النظرية الحركية في السياسة الشرعية"، لو تحدثنا قليلا عن ظروف وسياقات وأسباب كتابة هذين الكتابين. 

الحقيقة أن الجهد المبذول كان في الكتاب الأول "دليل المرابطين في تحرير فلسطين"، كان يهدف إلى محاولة علاج واقع القضية الفلسطينية والصراع العقائدي المحوري في فلسطين على أرض بيت المقدس، والاحتلال الصهيوني لها من مرجعية القرآن والسنة، بضوابط القرآن ونصوصه الإخبارية التي وردت في سورة الإسراء وتحويلها إلى هذا الخطاب، من خطاب يأتي أحيانا لتعزيز الايمان ورفع اليقين بنصر الله عز وجل، كما نعلن أنه فيه برنامج عملي تطبيقي أيضا.

ولو أن جزء من الكتاب كان يتحدث عن رؤية مستقبلية لطبيعة الأحداث القادمة، إلا أن الأهم والجزء المحوري الأكثر أهمية هو الجانب العملي التطبيقي في كيفية تنزيل النصوص ودلالات القرآن الكريم، والنصوص الإخبارية التي جاءت في القرآن الكريم على واقع الصراع مع المشروع الصهيوني في المنطقة.

أما الكتاب الثاني "النظرية الحركية في السياسة الشرعية" في الحقيقة هو امتداد إلى نفس الفكرة، إلا أنه تقريبي كلي لعلاقة النصوص الشرعية في الواقع، وما هي المساحة التي يغطيها النص لإدارة الواقع السياسي للأمة بخمس محاور تفصيلية هي:

  • علاقة الحاكم بالمحكوم.
  • الحاكم وما ينبني عنه من تفاصيل.
  • منظومة الدعوة والمواجهة.
  • الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع السياسي.
  • علم النفس السياسي.

في هذه الخمس محاور التي تعبر عن تفاصيل العملية السياسية، وكيف تدار بمرجعية الوحي والقرآن. وهناك دلالات حركية ارتسمت في أصل النصوص الشرعية، نستطيع من خلال هذه الدلالة الحركية أن نضبط تفاعلات الواقع مع النص، وأن نضبط الواقع بدلالات النص التفصيلية، وكان هذا المختم الأساسي في كتاب النظرية الحركية في السياسة الشرعية. العمل مازال جاريا على تطوير الفكرة، وهناك إنتاج قريب سيكون بإذن الله حاضر وهو ما أسميناه "الإجمال والتفصيل" سيُعالج الحركية بدلالاتها الأصولية، بحيث تُعَالج الحركية بدلالتها في بنيتها الأصولية الكلية، وهل الحركية لها أصلا أدلتها الشرعية؟ وهل لها حكم شرعي؟ أم أن الحركية هي اسِتئناسية نستطيع فقط أن نتفاعل معها بشكل جزئي؟ أم أن لها قواعد وضوابط ومنهجية تنزيل، وأنها تعبر عن أصل البنية المنهجية في النصوص الشرعية؟ هذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في كتاب الإجمال والتفصيل في خلال الأشهر القليلة القادمة بإذن الله.

لماذا تحتاج الأمة البعد المنهجي للنص؟
دكتور لا أدري ممكن المتصفح لكتابكم هذا قد يرى فيه أنه أكبر من كتاب، وكأنه مشروع بحثي، يعني فتَحْتَ فيه مسارا محددا، ولكن هذا المسار لم يغلق بآخر صفحة من الكتاب، إنما فتح آفاقا أخرى.

الكتاب كان يهدف إلى إطلاق رؤية منهجية جديدة في التفكير في النصوص الشرعية مع إدارة الواقع، ولذلك نعتقد أننا فتحنا بابا ندعو فيه العلماء والباحثين والمجتهدين للعمل الدؤوب المتواصل لاستكمال هته الملفات، والحقيقة أن هذا المحور قد يكون في غاية الأهمية والتعظيم، وهو محور البناء المنهجي، الدلالة المنهجية في النصوص، الله عز وجل قال (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [سورة المائدة الآية: 48]؛ الشريعة بكل تفاصيلها لا بد أن يأتي مرافق لها من ضمن منهجية في التطبيق، ولذلك حينما ننظر إلى الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم والتطبيق النبوي نجد أن هناك تجلي واضح لحقيقة الشريعة والمنهاج.

المنهاج هو قضية أساسية لا بد أن يكون لها ضوابطها المستقلة، ولا بد أن تبنى في بناء متكامل مستقل نستطيع أن نفهمه، حيث أن النصوص بلا فهم منهجي ستقود الأمة إلى حالة الصراع المستمر، ولذلك هناك أثر عن سيدنا ابن عباس وهو ترجمان القرآن يلفت الانتباه إلى أن اختلاف الأمة والصراع الداخلي بين مكوناتها المختلفة، ينتج عبر فقدان البعد المنهجي، حينما يتساءل سيدنا عمر "كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ورسولها واحد؟ يقول سيدنا ابن عباس:

(يا أمير المؤمنين إنما نزل فينا فنعلم فيما نزل وعلى ماذا نزل لكن سيأتي أقوام يقرأون من القرآن فلا يعلمون فيما نزل ولا على من نزل وعلى ماذا نزل ويختلفون في تأويله فيقتتلون)

ولذلك حينما تغيب الدلالة المنهجية في فهم النصوص يصبح النص مصدر للخلاف والصراع، ولذلك نجد التيارات المعاصرة الآن التي تنادي بضرورة عزل النص عن الواقع السياسي بحجة توحيد الأمة، وبحجة أن النص هو مصدر الصراعات الداخلية في صفوف الأمة، وطالما قال الله وقال الرسول لا يمكن أن نتفق، فهذا الكلام افتراء خطير على أصل هذا التشريع الذي جاء ليوحد الأمة المسلمة وليُوحد البشرية ثانيا ولذلك يقول الله عز وجل (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ) [سورة الأنفال الآية: 63].

هذا القرآن جاء ليؤلف بين القلوب، ولذلك الخلل الناتج من اعتقاد أن وجود النص هو مصدر للتفريق هنا، هذا الخلل ناتج عن فقدان الرؤية المنهجية، ولو أدركنا النصوص بدلالتها المنهجية سندرك تماما أن هذه الأمة لن تتوحد ولا يمكنها أن تتوحد إلا بهذا النص المنضبط بالدلالة المنهجية. والحقيقة أن هناك إضافة نسميها إضافة نوعية ما أسميناه افتراضا بالبعد الرابع في فهم النصوص، نقول أنه حينما يدرس الإنسان النص لا بد أن يدرس الثبوت والدلالة والتنزيل، والحقيقة حينما تفتقد الدلالة المنهجية أو البعد الزمني في فهم دلالة تنزيل النصوص سنفقد القدرة على تنزيل النصوص على الواقع وضبط الواقع بدلالات الوحي، ولذلك نقول ما نسميه البعد الحركي هو البعد الرابع في فهم النصوص ودلالاتها وهو الآلية الحقيقية المحورية في ضبط النص بضبط الواقع بدلالات النصوص. والبعد هذا أيضا فتح لنا آفاقا مذهلة في توسيع دلالات النصوص، وهناك جدلية كبرى أن النص محدود والواقع غير محدود، لذلك نحن حينما دخلنا في دلالات الدلالة الحركية والبعد المنهجي، هنا نتقدم بطرح واضح استطعنا أن نُؤطره وسيكون واضح في الكتاب القادم وهو الإجمال والتفصيل بأن النصوص هي التي ليس لها حدود وهي في دلالاتها غير متناهية، أما الواقع متناهي ومحدود، لأن الله عز وجل خلق هذا الخلق على قواعد منظبطة بقوانين ثابتة تتغير مسمياتها وأفرادها فقط، وهذا الكلام قادنا إلى منهجية بحث في القرآن الكريم استخرجنا منها علم جديد قد يكون ما أسميناه المسميات الوظيفية، أي أن أغلب المسميات في القرآن الكريم وأغلب الشخوص في القرآن الكريم والأدوار جاءت على سبيل الشمولية المطلقة لكل الأدوار التي قد تعيشها الأمة والبشرية في مراحلها المختلفة، ولذلك كان يسهل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عن أبي جهل فرعون هذه الأمة، لأن هذه المسميات أصلا هي مسميات متَكررة وثابتة، وستبقى ثابتة إلى يوم الدين، لذلك سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل (من أشقى أهل الأرض يا علي) قال: عاقر الناقة يا رسول، قال (نعم)، قال (من بعده يا علي)؛ السؤال على من بعده يدل على أن هناك من يخلف هذا المسمى الوظيفي في شقاء أهل الأرض، وكذلك فرعون وكذلك ما تشابه من النصوص من المسميات الوظيفية الكثيرة.

التفكير مع الدلالة المنهجية يقودنا إلى فهم وإدراك سعة ودلالات النصوص في ضبط الواقع وإدراك أن الواقع من الأمور الميسورة، هو أن تفهم دلالات الواقع المحدود حينما تفهم دلالات النص الغير محدودة، كيف نفهم؟ هناك قواعد منضبطة في إدراك القواعد التي انطلق فيها النص ليكون له غطاء غير محدود لواقع هذه الأمة الممتد إلى قيام الساعة.

سورة الشورى : مساحة العقل من الوحي 
لو عدنا قليلا للوراء وتَساءلنا قبل الغوص في النص الشرعي وحركيته ودلالاته وأيضا توضِيفاته، لو نتحدث عن أهمية التسليم للنص الشرعي ابتداء، ودور هذا التسليم في تنمية عبودية الرضا والامتثال والانكسار لله عز وجل، والبعد عن محاججة وحيه وما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. 

هذه هي القضية المحورية والأساسية التي لا يتحقق فيها فهم النص ودلالاته إلا بعد التسليم، والتسليم شرط، ولذلك حتى فهم الدلالة التفصيلية في القرآن الكريم لم تأتي إلا للمؤمنين (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[سورة الأعراف الآية: 42]، فقط لمن يؤمن، ولذلك في الحقيقة الإيمان والتسليم هي المقدمات الأولى التي لا بد أن تتحقق في المؤمن المتلقي من الوحي والكتاب العظيم، وهذه القضية المحورية الأساسية التي تحقق المفهوم الجوهري بين من ينتسب لهذا الدين وبين من يتعامل مع هذا الدين بالطريقة الانتقائية، يختار منه ما يشاء بحكم أن هذه النصوص لا بد أن يحاكمها العقل أولا، وهذه إشكالية حقيقية، من يحاكم من؟ العقل سيحاكم النصوص أم أن العقول لا بد أن تنضبط بدلالات النصوص.

الإشكال الحقيقي أنه يسهل على الناس بالغالب تفهم العلاقة مع الله عز وجل في جانب العبادات، أما في الجانب التطبيقي والعملي في الميدان قد يصعب على الناس بالغالب التفاعل مع النصوص، والاستجابة لأمره وخصوما في ما نعيش به الآن في ظل غياب النظام السياسي للإسلام، وغياب القوة السياسية للإسلام، وتحكم القوة الغالبة المتمثلة في المنهجية العلمانية وما شابه يصبح الإنسان لا يستطيع أن يدرك أن حقيقة الإسلام والإيمان هو أن تتحاكم لأصل هذا الوحي في كل صغيرة وكبيرة في الواقع التطبيقي.

أنا الحقيقة استوقفتني سورة الشورى وهي السورة التي في الأصل جاءت لتُحدد مساحة العقل والاجتهاد العقلي والتطبيقي العملي في إدارة العملية السياسية، حينما تقرأ سورة الشورى ستجد أننا نستطيع أن نسميها سورة الوحي ولذلك هي من أكثر السور التي ذكرت الوحي وتَنزُل الوحي وابتدأت بالوحي وانتهت بالوحي، وتكلمت السورة في كل مضامينها على سلطان الله عز وجل على العباد (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[سورة الشورى الآية: 12]

(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[سورة الشورى الآية: 15]، ولذلك جاء الأمر وكأن سورة الشورى التي لا بد تتحدث عن مساحة العقل، يقول لك أن العقل الذي لا بد أن يكون له مساحة، هذا العقل المنضبط المنسجم مع حقيقة سلطان الله عز وجل الكلي على هذا الكون.

ولذلك حتى لما جاءت الشورى قال (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) [سورة الشورى الآية: 38]، أن هذه الشورى لن تأتي إلا بعد عملية الاستجابة الكاملة والتسليم لله عز وجل، ولذلك في هذا الإطار نقول أن عملية التسليم إلى الوحي هي القضية المحورية الأولى التي يتحقق فيها أصل الإيمان. ما بعد ذلك تبدأ هناك مساحات بسيطة جدا في الخلاف نستطيع أن نضبطها، والحقيقة أن الإشكال الكبير الذي عزز من مساحة العقل على مساحة النص والنقل في الواقع هو بعض الإشكاليات التي حدثت في فهم بعض النصوص وإن كان هذا أصل السؤال وكان لا بد من الإجابة عليه مثلا حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل (أنتم أدرى بأمور دنياكم) يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا مساحة من الاختلاف نستطيع أن نختلف فيها ونجتهد بعقولنا كلام حقيقي، وقالوا في بعض الأحيان أن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد مثلا حينما رأى رؤيا مفادها أن الخروج من المدينة ستكون فيه خسارة للمسلمين، إلا أنه نزل على رأي الشورى ورأي الشباب من المسلمين في الخروج في أحد من المدينة، لماذا يستجيب النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الشورى مع أن هناك إخبار برؤيا النبي صلى الله عليه وسلم للوحي، ولذلك بعض الأحاديث ونصوص أخرى مثل هذه النصوص استدل فيها على توسيع مساحة العقل في إدارة الواقع والعملية السياسية للأمة.

 

العقل.. ما بين الاجتهاد و التسليم 

هناك ضابط واضح وسهل أسميناه في الكتاب التفريق ما بين الأدوات والمنهجيات والاستراتيجيات:

الأدوات هي التي تخضع لسلطان العقل فقط ولذلك الخروج من داخل المدينة إلى خارج المدينة في القتال أداة، تأبير النخل أداة؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل على رأي المسلمين لأنها أداة وتخضع لرأي الأغلبية ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور في كثير من المحطات ولا يشاور في كثير من المحطات الأخرى، ما الفرق، لماذا لا يشاور هنا ويشاور هناك؟ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مثلا في ثمار المدينة وغطفان في معركة الأحزاب ويقول يا رسول الله أمر تصنعه لنا أم هو وحي من الله عز وجل قال لا والله أمر أصنعه لكم، الصحابي كان يفرق بين الأدوات وبين ما يوحى به للنبي، ولذلك في معركة بدر يجلس الحباب يا رسول الله الحرب والمكيدة أم منزل أنزلك الله إياه، حتى يفرقوا، فإذا كانت الحرب والمكيدة تطلق العنان للعقل والتدبير، أما إذا كانت نصوص ولذلك سيدنا عمر قال أنه بقي يستغفر حتى مات لأنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، بقي يستغفر حتى مات لأنه أدرك أن صلح الحديبية لم يكن اجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان أمرا من الله عز وجل، لذلك عملية التفريق بين الأدوات وعالم الأدوات ومكوناتها، بين الاستراتيجيات. النبي صلى الله عليه وسلم فدى الأسرى في بدر، والأسرى لم تكن قضية من الأدوات، بل كانت من المنهجيات، ولذلك اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المصلحة الظاهرة وهي أن الفداء هو الأولى، حتى جاء عتاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم.

هذا التفريق سيعين على مساحة سلطان النص على الواقع للتسليم، ولذلك لا بد أن نسلم للوحي ابتداء حتى نستطيع أن ننطلق ونحقق التغيير في الواقع، ونتفاعل مع النصوص ونستَخرج الكنوز والعطايا التي أنزلها الله عز وجل في هذا الكتاب العظيم. هذا الكتاب الذي لا يكشف حقائقه إلا لمؤمن مسلم.

والذي لا يسلم لهذا النص تسليم تطبيقي ولمن لا ينطلق مع القرآن وهو يريد أن ينطلق لتطبيق هذا القرآن الكريم سيخفي عنه القرآن الكريم العطايا ولذلك الله عز وجل يقول (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)[سورة المائدة الآية: 102]، أن تكشف لك العطايا مرتبطة بالسؤال والإلحاح على ما تحتاج من القرآن الكريم ومُرتبطة بما تحتاجه من الواقع ولذلك إذا سألت عن سؤال أنت لا تحتاجه لن تُكشف لك العطايا، وإذا سألت سؤال وأنت لا تريد أن تستزيد بالإجابة للتطبيق لن تكشف لك هذه العطايا والخبايا التي أنزلها الله عز وجل في كتابه العظيم، ولذلك هناك منهجية في العلاقة مع النصوص إذا ما ثبتْناها سنكتشف هذا العالم المعجز. الله عز وجل امتن على هذه الأمة المسلمة بهذا الكتاب المعجز الذي سيكشف حالة العطاء المستمر للأمة المسلمة إلى قيام الساعة.

نحن في سورة الشورى نقول أن سورة الشورى وهي سورة الوحي اختتمت بأوصاف الوحي (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [سورة الشورى الآية: 51]، ثم حينما انتهت هذه التفاعلات، تفاعلات البشر مع الوحي عبر الأنبياء جاءت الآية التي تليها التي تقول أن هذا القرآن سيأخذ دور النبي صلى الله عليه وسلم كوحي متصل ووحي منزل إلى الواقع إلى قيام الساعة (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة الشورى الآية: 52]، وهو أصل المنهج الذي طبق بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقاته العملية الواقعية، ولذلك حينما نقول أن هذا القرآن كيف نتفاعل معه، أول شيئ لا بد من التسليم، الله عز وجل يقول لهم من لا يسلم لهذا الوحي ويسلم تسليما كاملا ل "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ويؤمن بسلطان الوحي على أقوالنا وأفعالنا، والمعيار في سلطان الوحي هو معيار حياة النبي صلى الله عليه وسلم. أين المساحة التي كان يغطيها الوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والمساحة التي يجتهد فيها؟ إذا ما فرقنا بين مساحة الاجتهاد التي كان يجتهد فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وبين المساحة التي كان يجلس يتلقى فيها الوحي، نستطيع أن نضبط حدود وصلاحيات العقل، وهناك مجموعة من الأدلة التي تطرح على توسيع مساحة العقل على سلطان النص.

لمن يريد فهم الدين والتفاعل مع النص..لاغنى لك عن علم الأصول!
تماشيا مع حديث المدخلات التي تمهد لطرح موضوع الحركية النص معلوم من العلوم المعيارية في الشريعة الإسلامية علم أصول الفقه، هو العلم الذي يعنى بالدرجة الأولى بضبط الدلالة، ويقوم على محورين رئيسيين هما محور مصادر التشريع، ومحور قواعد فهم النص ولذا يطلق عليه أحيانا بالتلقي والاستدلال، ولأنه مسؤول بالدرجة الأولى عن الدلالة فقد كان إن جاز لي التعبير بهذا المصطلح الجدار الذي يراد زحزحته لتطويع النصوص يمنة ويسرة، في رأيكم دكتور محمد ما مدى مركزية وأهمية علم أصول الفقه في الاستدلال والإسقاط وغيرها من المفاهيم التي نتحدث حولها الآن؟

علم الأصول هو الصخرة المحورية بل الأساس الذي ننطلق منه لفهم هذا الدين وتطبيقه في الواقع ولذلك المصادر الأصلية، والدلالات، والمجتهد، والحكم وما ينبني عنه في علم الأصول هو قضايا محورية لا بد أن يفهمها الباحث والعالم ويتفاعل معها. 

ولا نستطيع أن نتفاعل مع النص دون قواعد البنية الأصولية والتسليم لمصادر التشريع، والجهد منصب في مواجهة هذه الأمة على تفتيت البنية الأصولية لهذا الدين ولذلك تجد أن هناك هجمة قوية كانت من عشرة أو عشرين سنة تقريبا على صحة الإجماع ووجوده وفرضياته، كجزء من مصادر التشريع المتفق عليها إجمالا، ثم انتقلت الحالة بشكل مسعور إلى السنة النبوية وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بغية تفتيت مصدر السنة النبوية، على اعتبار أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد ثم محاكمة القرآن بالدلائل العقلية المجردة، وهذا ما يصبوا إليه أصحاب المدرسة الحداثية والعلمانية لمحاولة تجريد الوحي من دلالاته المنهجية ومنهجياته في التطبيق العملي ليصبح القرآن الكريم، ونصبح نحن عاجزين على تطبيق القرآن الكريم في الواقع، عبر تفتيت البنية الأصولية، وهذا الأمر ظاهر أمام كل باحث مجتهد عامل في هذا الدين. 

لكن الكلام الخطير الذي سأتحدث عنه هو ما يُقدم أحيانا بقصد أو بدون قصد من بعض العلماء والمجتهدين، وهو توسيع المصادر الفرعية على حساب المصادر الأصلية، والتوسع في المصادر الفرعية مثل المصالح المرسلة وسد الذرائع وما شابه من هذه المصادر الفرعية والاستحسان الاستصحاب والاستصلاح على أن هذه المصادر الفرعية نستطيع أن نعالج فيها أغلب القضايا السياسية في الواقع على حساب نصوص القرآن والسنة.

والآن ظهر أيضا ما نستطيع أن نسميه في باب المقاصد واعتبار المقاصد جزء من منظومة الاستحسان وأن المقاصد قد تكون مصدر من مصادر التشريع الفرعية، وهذا الكلام له من الخطورة الشيء الكثير لأنه يوسع دائرة العقل وصلاحياته، على اعتبار أننا إذا لجأنا إلى المصادر الفرعية لأن النصوص من مصادرها الأصلية لم تعالج هذه المواقع التفصيلية.

وهذا افتراء على أصل النصوص ونستطيع أن نرد على هذا الكلام بالتفصيل الدقيق، وفي كتاب "الإجمال والتفصيل" نثبت أن حوالي أكثر من 80 في المئة من القضايا التي تطرح في المصادر الفرعية وأننا لجأنا للمصادر الفرعية لأنها غير موجودة في المصادر الأصلية، بينما هي أدوات فقط، والأدوات لا تحتاج إلى النصوص إلا في أدلتها الكلية فقط، حينما نحدث هذا الاشكال نشعر بالعجز أمام استخلاص الدلالات من النصوص فنلجأ إلى توسيع الأصول الفرعية على حساب المصادر الأصلية وهذا أمر خطير، من ينادي الآن بتطبيق المقاصد وأن المقاصد هوالعلاج السحري لكل الأزمات التي تعيشها الأمة في واقعها من إشكاليات الفهم السياسي والتطبيق، واعتبار أن المقاصد هي المعيار الأساسي في القدرة على تنزيل الأحكام باختلاف مراحلها، وهذا مفتاح خطير لسياق الأمة لاتجاه الفهم الحداثي للنصوص، واعتبار أن العقل والمصلحة المقدرة بالعقول المجردة هي الحاكم على متى يتنزل النصوص.

وكنَموذج، النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في فداء أسرى بدر اجتهد الاجتهاد العقلي الذي نستطيع أن نجتهد فيه ونقول أن هذا الاجتهاد العقلي قُدِرَ بأنه فداء الأسرى أولى من قتلهم بالمعطيات العقلية المقدمة، لكن جاء النص ليحسم أن هذا ليس من صلاحيات العقل، هذا من صلاحيات النص (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)[سورة الأنفال الآية: 68]، ولذلك هذا العتاب الذي جاء من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، جاء ليُثَبت قواعد الفهم الحركِي للنص، كيف؟ لأن الله عز وجل لم يأتي ليحرم الفداء وبقي الفداء حلال شرعا، لكنه ضُبط بدلالات زمنية وهذا هو أصل البناء الحركي. 

ولذلك هل البعد الحركي حكم شرعي أم غير شرعي؟ حينما عاتب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم على فداء الأسرى ليس لحرمة الفداء ولكن عاتبه لوقت الفداء، ولِأن الوقت له دلالة منضبطة بأصل الحكم، وهناك أحكام مرتبطة بدلالاتها الزمنية وتنزيلاتها المتصلة بطبيعة المراحل البنائية لهذه الأمة، ولذلك لا يمكن أن نقول أن هذا العتاب جاء خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الأدلة جاءت لتُقَعِدَ قواعد البنية الحركية في فهم النصوص، ولا يمكن أن تحمل السلاح في المرحلة المكية وتقول الله عز وجل أمرني بحمل السلاح (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)[سورة البقرة الآية: 191]، لذلك لا بد من مراعاة الواقع في فهم النص وهذا أصل البنية الحركية.

لما نأتي لقضية البعد الأصولي نقول أن أخطر ما يهدد هذا البناء الأصولي الرصين الذي أسس على قواعد علمية منضبطة هو هذه المستجدات التي نزعم فيها أننا نحتاج التوسع في الدلائل، في المصادر الفرعية على حساب المصادر الأصلية، وهذا هو مؤشر الخطر الذي لا بد أن يدق ناقوس الخطر المتمثل في استنهاض العلماء والمجتهدين في أن يقفوا سدا منيعا أمام سحب البساط على المصادر الأصلية تجاه المصادر الفرعية بحجة أن المصادر الأصلية لم تستطع أن تعالج حقيقة تفصيل الواقع السياسي الذي تعيش فيه الأمة.

دكتور في هذا السياق أيضا يمكن أن نقسم المتجاوزين لعلم أصول الفقه إلى قسمين:
القسم الأول هو ما تعلق بمن يهاجم الشافعي رحمه الله وقد رأينا هذا مرارا، ويدفع نحو إنما علم أصول الفقه هو اجتهاد منه واجتهاده بالطبع غير مقدس، ولا يمكن التسليم به مطلقا في خلط عجيب بين الأصول القطعية لأصول الفقه وبين التقنيات والأدوات التي يمكن أن يجتهد فيها.
القسم الثاني هو الذي ذكرته من بعض المقاصديين الجدد إن جاز لي التعبير، كثيرا ما يلاحظ أن الناس بدأوا يتحسسون من كلمة المقاصد من كثرة ما وظفت من البعض في تسويغ وتبرير بعض المواقف، وكأن الأصل أن يكون النص الشرعي هو الحاكم على الناس لكن بعضهم ينزل الشرع والوحي من كابينة القيادة كما يقال، ويجعل هذا الحكم في قالب الواقع مرغما بدون أصول وضوابط كما ذكرتم.
سؤال آخر يتبادر إلى الذهن وهو متعلق بنقطة أخرى فبعد التسليم للنص هناك إشكالية أخرى يطرحها البعض، وهو قولهم بأنه لا مشكل لهم مع النص، وأنهم يسلمون بقدسية النص، لكن مشكلتهم مع طريقة فهم النص الشرعي، فلهَؤلاء ما هي المعايير والضوابط والمحددات التي تجعل هذا الفهم مستساغا، والفهم الآخر مستهجنا، يعني لا يمكن أن يكون فهم الجميع على قدم المساواة أو يقدم فهم الجميع؟

علم الأصول ضبط ذلك في علم الدلالة ووضعت قواعد دقيقة جدا لضبط أغلب الدلالات الواضحة في النصوص من خلال دقة اللغة العربية وما جاء فيها من قواعد، لكن ما نستطيع أن نصل فيه إلى عملية الضبط الدقيق لدلالة النصوص وفق الدلالة المنهجية الحركية، حينما يغيب البعد المنهجي تختلف دلالة النصوص وتتوسع الدلالة أحيانا إلى بعد أكثر عشوائية في التنزيل والفهم، ولذلك النص يأتي بدلالاته وسياقه اللغوي الذي لا بد أن نفهمه بدلالة اللغة، ثم يأتي بسياق السورة والتنزيل، فلابد أن يُحْمَل على الدلالة البنائية المنهجية، فإذا ما حُمِلَ على الدلالة المنهجية البنائية المنهجية الحركية، سيكون هناك اتفاق محوري أو اتفاق على الأقل لن نقول بنسبة مئة في المئة، لن تصل الأمة إلى هذا المعنى، ولم ينزل القرآن الكريم أصلا بقواعد هي قواعد تقوم عليها عملية الاتفاق الكلي، ولذلك الله عز وجل جعل أغلب القرآن متشابه، والمتشابه من أهم دلالات القرآن الحركية أصلا، لأن القرآن الكريم بدلالاته الإعجازية جاء متشابه لأنه معجز أصلا ولذلك لما الله عز وجل وصف المتشابه في القرآن قال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا)[سورة الزمر الآية: 23]، ولذلك الكلام يحمل الدلالات الحركية التي تعطينا المعاني الخاصة التي قد تكون تخص أمة دون أمة.

ولذلك أحيانا هناك بعض الدلالات التي نستخرجها من دلالة النصوص في هذا الواقع الذي نعيش فيه، كون القرآن الكريم جاء دائما من خصائصه التحدي.

ما تقدمه الحضارة الغربية وتزعم أنها تقدم الحالة السياسية النادرة في التاريخ الإنساني، وأنها تقدم عملية تداول السلطة في ظل العملية الديموقراطية، نقول أن القرآن الكريم الآن من أهم صور الإعجاز التي لا بد أن تقدم لعامة الأمة الإسلامية والبشرية هي سورة الإعجاز السياسي في كتاب الله عز وجل وكيف أن القرآن الكريم احتوى على منهجية بناء سياسي عميق ودقيق تراعي أدق التفاصيل وتبني الأمة الحقيقية التي تستطيع أن تبني حضارة متكاملة بكل تفاصيلها ودلالاتها.

القرآن الكريم يحمل في طياته الإعجازية ما نستطيع أن نستخرج هذه الصور الإعجازية ونستكشف هذه المعاني العميقة في دلالة القوة الإعجازية التي تواجه أعداء الأمة في كل زمان ومكان، لأن القرآن الكريم يحمل من دلالاته ما تختبئ فيه المعاني إلى أمة من دون أمة، حتى يكون هذا القرآن وكأنه يتنزل على البشرية إلى يوم الدين.

وهناك تفريق حقيقي بين نزول القرآن الكريم على أول على النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف وجزء من المعنى وتنزل القرآن الكريم بمعانيه إلى يوم الدين وسيبقى القرآن الكريم يتنزل على الواقع إلى يوم الدين كما كان يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاني والدلالات فقط.

ولذلك حينما نتكلم عن علم الدلالة والحقيقة نحن نسعى الآن أن نضيف الدلالة الحركية على علم الدلالات، لأن الدلالة الحركية لها قواعد وضوابط ومفردات ومصطلحات، ولذلك حينما نتكلم ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يثخن في الأرض حتى، هذه دلالة زمنية حينما الله عز وجل يعاتب النبي (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَام لَسْت مُؤْمِنًا)[سورة النساء الآية: 94]، (كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ) [سورة النساء الآية: 94] من قبل هذه دلالة حركية، ولذلك القرآن الكريم مليئ بالدلالات التي ترتب الأحكام والأحداث حسب المراحل والمتطلبات، وهذه العملية التَراتُبية ينبني عليها بناء حركي منضبط، حينما يقول الصحابة الكرام في بيعة العقبة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم (يا رسول إن شئت لنزلنا عليهم بسيوفنا فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم (لم نؤمر بعد) لذلك لأنه هناك لكل مرحلة أداة من أدوات المواجهة، لها سياقها ومَرحلتها البنائية المنضبطة.

من يقول بمحاولة أنه لا يمكن أن تحملني على فهمك للنص، هذا الكلام أيضا فيه باب من أبواب محاولة تعزيز مساحة العقل والاجتهاد العقلي على حساب النص، وهذا الأمر خطير من يقرأ كتاب "الإسلام الديموقراطي المدني" من منتجات مؤسسات تريند الأمريكية الذي يتكلم فيه كيف نحول الإسلام من الإسلام التقليدي أو الأصولي الذي يؤمن بمرجعية القرآن والسنة إلى الإسلام التقليدي الذي يؤمن بالقرآن والسنة لكنه مستعد أن يتكيف مع الواقع، إلى الإسلام العلماني الذي يفصل الإسلام كليا عن الواقع السياسي، إلى الإسلام الحداثي الذي يجعل من العقل هو الحكم الوحيد كأداة محورية وحيدة لفهم النصوص، ومن يطعن الآن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته والأحاديث الشريفة يريد أن يستفرد بفهم القرآن الكريم بعقولهم العاجزة، يستفرد بالقرآن معناه يريد أن يفصل القرآن الكريم عن سياقه التنزيلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ما وردنا من موروث هائل من النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام ليصبح القرآن الكريم خاضع لعقولهم العاجزة حتى يحكموا فيه على كتاب الله عز وجل.

ولذلك الأمر لا يقف على أن هناك من يتعدى أو يتجرأ على البخاري، الأمر عملية منظمة متكاملة، هناك محاولة صنع إسلام جديد برعاية دولية عالمية، هذا الإسلام الحقيقة من يراقب هذه العملية الرباعية سيجد أن هذه العملية الرباعية مورست على كل الأديان من قبل بقيادة وسيادة إبليس ومشروعه ومنظومته، لكن هذا الدين محفوظ، الله عز وجل تكفل بحفظه، ولذلك مشاريعهم ستفشل بإذن الله ومن يفشلها هو طليعة هذه الأمة من علمائها ومفكريها ومجتَهديها وأبنائها المخلصين، ليتَصدوا إلى حقيقة هذه المزاعم، والدفاع عن مصادرنا التشريعية وأصولنا البنائية، ولذلك حينما نقول نحن لا بد أن ندافع عن هذه النصوص بفهم بدلالة الشمولية والمنهج الحركي، نقول لأن هناك حفاظ على مكانة النصوص في في عقول وقلوب المسلمين.

الآن تجلس مع نخب الشباب المسلم وتعتقد أن النص لا يمكن أن يكون هو مصدر إنشَاؤنا المشروع السياسي الإسلامي، ولا يمكن أن نعتبر أن النصوص هي الحاكمة على أفعال الواقع السياسي، التغني بالمنتوج الديمقراطي والحياة المدنية في الدولة المدنية وما شابه، وأن هناك منتج إنساني بديع قد استبدعه هؤلاء الغربيين ولا بد أن نَنسجم معه، هذا الكلام في الحقيقة يحمل في طياته الشيء الخطير.

إذا ما درسنا القرآن في الخطاب المكي الأول الذي أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل في طياته كم هائل من الشعور باليقين والتسليم بالنصوص الشرعية والاستعلاء على فهم العقل، لأن هذا الاستعلاء هو الأنتي فايروس لعَملية الذوبان في الثقافة الغالبة، حينما تكون الأمة مستضعفة نحتاج إلى خطاب أشبه بما يكون (قل يا أيها الكافرون) قل يا أيها الكافرون نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من البعثة، لأننا نحتاج إلى مضادات الانصهار لأنه حينما لا يعتز المؤمن بكمال هذا التشريع وحينما لا يمتلك المؤمن هذا الاعتزاز والفهم الدقيق للنصوص ودلالاتها الشمولية الكاملة الحاكمة على الأفعال والأقوال سينصهر مباشرة، ولذلك من ينادي ابتداء بضرورة وأهمية أن نحكم بالمقاصد على الأفعال أولا، تجده بعد سنوات معينة ينادي بتحييد القرآن والسنة كليا على الواقع والوصول إلى القضايا التوافقية في الحضارة الغربية، لأننا نشترك معهم بالحرية والإنسانية والعدالة والمساواة وما شابه، إلى أن نصبح ندافع عن حقوق الشذوذ وما شابه بأنها حقوق إنسانية، ولذلك عملية الذوبان هذه التي تجري الآن وتسري في واقع الأمة ومكوناتها، تحتاج إلى تصدي حقيقي لتعزيز قوة العلاقة مع الوحي، وتعزيز سلطان الوحي على القلوب والعقول في الواقع الإنساني.

ولذلك هذه المعركة معركة التأصيل هي أصل المعركة التي نخوضها، لأنه إذا أبناء هذه الأمة تمسكوا بمرجعية الوحي بهذا المستوى من الإعتقاد والتسليم، انتصرت الأمة تلقائيا، هنا المعركة الحقيقية، لأن القرآن الكريم مرجعية الوحي في الواقع السياسي، مرجعية شاملة تفصيلية لن تعطيك فقط ما تحتاجه من القواعد الكلية بل ستُعطيك كل التفاصيل. 

ولذلك نقول أن حتى مساحة الشورى إذا لم ينضبط هذا العقل المسلم بمرجعية وقواعد البنية البنائية التربوية من الوحي، لا يستطيع أن يقدم الشورى المطلوبة، ولذلك الله عز وجل يقول عن إدارة العملية السياسية في واقع البشرية وواقع الأمة المسلمة (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) [سورة النساء الآية: 83]، هذا المنهج الخاطئ الذي انتقده القرآن، والمنهج الصحيح في قوله عز وجل (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْۗ)[سورة النساء الآية: 83].

هذا العلم المتأتي من الاجتهاد في فهم النصوص ودلالاتها مع المزاوجة بين فهم النص ودلالات الواقع (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) [سورة النساء الآية: 83] الأمن والخوف عملية رفع الواقع، هذه المزاوجة المنضبطة بين رفع الواقع بالمنهج الدقيق بمرجعية الوحي عبر أهل الاستنباط سيقودنا إلى عطاء خاص من الله عز وجل سماه العلم المتحقق لعلمه بلام التوكيد، بأن الله عز وجل سيمن على هؤلاء الناس بعلم يستطيعوا أن يستنبطُوه ليحْسموا حقيقة الواقع، من خلال العلم المستنبط من نصوص القرآن الكريم والوحي الشريف، ولو لم يسْتَجاَب لهذا الكلام وكاد النص يقول لنا كأنك ستذهب إلى منظومة الشيطان قال(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ)[سورة النساء الآية: 83]، ولذلك القرآن جاء ليرسم هذه الحدود.

وأنا أدعو كل إنسان يفكر في الواقع أن يرجع إلى سورة الشورى فيقرأ سورة الشورى ويدرسها ليتأمل ما هي المساحة الهَامة الهائلة التي جاءت النصوص لتغطيها في الواقع، ثم تقول أن مساحة الشورى هي مساحة محدودة لا بد أن تأتي في سياقها المحدود وأن العقل لا بد أن ينضبط بمرجعية الوحي.

النصّ : من أسر التاريخ إلى فُسحة الحركيّة
الأمر كما ذكرتم هو في حقيقته فقه لا محاكاة، المشكلة أن البعض يأتي إلى حيث نحن الآن في مرحلة لا هي مكية ولا هي مدنية، والبعض يذهب إلى مرحلة معينة فيستقي منها لا أقول يستنبط وإنما يأخذ منها ما يوافق هواه، والأمر يختلف إنما نحن الآن في مرحلة يمكن القول أنها تحمل مناطات من كليهما، لهذا تفعيل الأدوات والوسائل التي تعين على فهم الواقع واستشرافه مما يسهل من عدم انتهاك حدود الوحي، وأيضا مواكبة متطلبات الواقع.
أستاذ لو نعرج نوعا ما على حركية النص، وهو الموضوع الشيق وأنت ذكرت كثيرا من تطبيقاته وتنزيلاته في ثنايا حديثك، لكن ربما يتساءل البعض ما الذي نعنيه بحركية النص؟ ما هو تاريخ هذا المصطلح؟ وهل من تمثُلات له تجليه للمشاهد الكريم؟

حركية النص هو مصطلح ليس بجديد، سيد قطب رحمه الله تكلم عنه باستفاضة شديدة، وقد يكون ما كتبه في الظلال، وفي المعالم، وهو تكلم عن الحركية كثيرا، ومن خلال ما قدمه سيد في الحركية وكأنه فتح أبواب من السجون التي سجنت فيها النصوص، هناك كثير من النصوص سجنت بحجة غياب الحركية لأنه حينما جاءت الحركية حررت النصوص من سياقها التاريخي، وجعلنا نعيش النص خارج عن إطار الزمان والمكان، وفي الذاكرة أن النص صالح للتطبيق في كل زمان ومكان حسب هذا البناء المرحلي، ومع غياب الحركية توسعت مساحة التخصيص، تخصيص الأحكام بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول أن هذا الفعل بوصف النبي صلى الله عليه وسلم، حينما تغيب الحركية نعيش وكأن كل ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا نجد ما نسْتخرج من النصوص، كل ما نقف عند النص نقول هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسع في التخصيص تخصيص أفعال الوحي وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم منهج قديم، حينما بدأ مانعي الزكاة والمرتدين انطلقوا ببعض المسميات وتخصيص الأفعال، حينما قالوا أننا لن نعطي الزكاة إلى سيدنا أبو بكر قالوا ذلك بحجة ماذا؟ قالوا الله عز وجل قال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[سورة التوبة الآية: 103] قال خذ من أموالهم هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نستطيع أن نعطيك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات، هذا التخصيص الذي توسع واستمر، حينما تقول (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)[سورة النساء الآية: 65]، يقال دائما بالبند العريض هذا الكلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو استشهاد مقارب بل مطابق لاستشهاد مانعي الزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[سورة التوبة الآية: 103].

حينما لا نفهم الدلالة الحركية وكأننا نضع سجون وحدود وسدود بيننا وبين النصوص، حينما نفهم الدلالة الحركية ندرك أن هذا النص نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة من السياق البنائي، وهو صالح للتطبيق في نفس هذه المرحلة التي ستكرر، وهذا الكلام سيقُودنا إلى نقطة محورية هل الكون محدود أم غير محدود؟ وما هي محدودية الكون وما هي مساحة النصوص التي ليس لها حدود إن قلنا أن النصوص ليس لها حدود؟

النصوص لها حدود من حيث اللفظ والكلمات فهي محدودة، موجودة بين دفتي المصحف، لكن في القرآن لها حدود، قطعا لا والله عز وجل دلنا في كثير من الآيات (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)[سورة لقمان الآية: 27]، دلالات القرآن غير محدودة لكن كيف يكون الواقع محدود، الواقع محدود، وكل الاجتهادات العقلية الإنسانية الآن وصلت إلى أن أهم المكونات في الوجود محدودة.

هناك جهد هائل في علم السلوك الإنساني البشري فيما يتعلق بالأطْباع والأنماط، ووصلوا إلى معطيات إلى أن أنماط البشر محدودة إما بأربع أنواع أو بستة عشر نوعا أو ما شابه من هذه الأمثلة، وكل من يبحث في جزئيات الأرض سيجد أنها محدودة، ولذلك بحثوا في الطاقة فقالوا أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث ولا تأتي من العدم، بحثوا في الماء والسائل الموجود الذي نعيش به في الأرض قالوا محدود لا يوجد زيادة في كمية الماء في الأرض ولا نقصان، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ما من عام أمطر من عام) الكون كله محدود (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)[سورة فصلت الآية: 10].

اللافت للانتباه حينما نقف لماذا الله عز وجل خلق هذا الكون في ستة أيام مع أن أمر الله عز وجل قال كن فيكون، الله عز وجل غني عن الزمن، فالله لا يحتاج للزمن حاشا لله بل هذا الكون مبني على دلائل منضبطة في الزمن ولذلك جاءت الأرض مقدرة في أقواتها ومكوناتها، فالكون محدود، كل من يدرس علم الاجتماع وعلم التاريخ يصل إلى محدودية الكون ومكوناته، لكن هذا الكلام يحصل حينما الإنسان ينفصل عن أصل التشريع، يشعر أن كل يوم فيه جديد، لكن الحقيقة من يدرك قوانين القرآن الكريم يدرك أنه في هذا الكون ليس هناك جديد في المسميات والموجودات والأدوات فقط، أما في القوانين التي تضبط هذا الكون والتفاعلات الإنسانية مع هذه الأفعال محدودة تماما، ولذلك حينما نريد أن نصل إلى دلالة النصوص الشاملة، لا بد أن ندرس قوانين القرآن الكريم، وهناك من جمع أكثر من ثلاثة عشر صيغة لقَوانين القرآن الكريم وسنن الله عز وجل فيه.

نستطيع أن نضبط فيها قضية أساسية ونحن نقول أننا حينما ندرس القرآن لا بد أن ندرس الخمس صيغ في القرآن:

-الصيغة الأولى هي صيغة القوانين والسنن:

وهي صيغة قوية محورية أساسية يبنى عليها بقية فهم القرآن كله، إلى أن ندرك دلالات القوانين والسنن وهي التي جاءت أحكام بسبب، ومسبب ونتيجة محورية، إذا لم نستطع أن نفهم هذه الدلالة في القرآن الكريم نحن سَنعجز عن فهم القرآن والواقع في نفس الوقت، لأن القرآن أول شيئ ضبط الواقع كله بالقوانين الضابطة لهذا الكون، والقوانين في القرآن الكريم كثيرة جدا، نسميها قوانين مجازا، وتسميتها في القرآن هي السنن ولذلك هذه السنن ثابتة منضبطة.

-الصيغة الثانية هي ما نسميه في القرآن الكريم القصص والأمثال:

هي التطبيقات العملية لهذه القوانين لكن في التاريخ، حينما نريد أن نعرف هذه القوانين كيف طبقت، يأتيك القرآن الكريم بصياغة القصص من القرآن الكريم ويأتيك بالتطبيقات العملية لهذه القوانين، فما من قصة في القرآن إلا ولها مجموعة من القوانين التي طبقت فيها، ومن أجمل ما يمكن أنك تدرس سور القرآن الكريم التي تحتوي على هذه القصص فتدرك أن هذه السورة احتوت على أصل القوانين التي جاءت فيها هذه القصة، فتدرك كيف تستطيع أن تفهم القصة القرآنية، فهم القصص القرآني بعيدا عن قوانين القرآن الكريم معناه أنه فهم عشوائي، عاجز صاحب هذا الفهم أن يطبق القصة ودلالاتها على الواقع، لأننا نطبق القصص عبر ما جاء فيها من علاج للقوانين عبر التاريخ، ثم كيف نعالج هذه القوانين في الكون الممتد، يأتي بصيغ الأمثال، والأمثال جاءت لتعالج صيغ القوانين في الكون المنظور ولذلك الله عز وجل قال (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[سورة الأنعام الآية: 38]، وهناك من يقول أن ما فرطنا في الكتاب من شيء هو القرآن، وأنا أقول بهذا الرأي، لأن الله عز وجل وضع القوانين التي تحكم هذا الكون الممتد عبر منظومة الأمثال، ولذلك كل هذه القوانين التي جاءت في القرآن الكريم أعطانا الله عز وجل تطبيق عملي فيها من التاريخ في القصص، ثم أعطانا تطبيق عملي فيها في الكون المنظور من الأمثال، ولذلك حينما يأتي الله عز وجل ليمثل لنا العنكبوت ومن يشرك بالله هناك عوالم هائلة جدا جاءت لتطبق كل تفاعلات البشر في الواقع عبر هذه المنظومة، ولذلك ستجد في عالم الأمثال شيئ عجيب كيف أن الله عز وجل ضبط كل تفاعلات الكون في هذا العالم المبثوث عبرمنظومة الأمثال، ثم تأتي النصوص الإخبارية لترسم لنا تطبيق القوانين في المستقبل، إما في مستقبل الأمة وإما في يوم القيامة، ولذلك كل أحداث يوم القيامة هي تفاعل واقعي لحقيقة القوانين التي تعيش فيها الأمة، أما رأينا أن كل العطاءات والعقوبات في الجنة والنار مرتبطة ارتباط أصلي بأصل الفعل الذي يعاقب عليه أو يجاز عليه، لأنها كلها ممتدة بقوانين واحدة ولذلك جاء القانون هو الضابط الحقيقي لأصل شمولية التشريع، ثم جاء تطبيقاته في القصص وفي الأمثال في الكون المنظور ثم جاءت تطبيقاته في النصوص الإخبارية في مستقبل البشرية ثم جاءت الخلاصة في الأحكام والتوجيهات.

أغلب العلماء درسوا الأحكام وأكثر ما بحث في القرآن الكريم آيات الأحكام وآيات الأحكام لا بد أن نوسعها إلى آيات التوجيهات لأنها ليست فقط الأحكام التي حملت توجيهات مباشرة للمسلمين، بل أيضا هناك قائمة هائلة من التوجيهات المستخلصة المنبثقة من هذه القوانين الضابطة، حينما ندرس القرآن الكريم في سياقه القانوني وتطبيقات البينية القانونية عبر هذه المكونات الخماسية، سنصل إلى دلالة غير محدودة في فهم النصوص، حينها سنشعر بالازدراء الصحيح، ليس فقط الازدراء سَنشعر بالحزن الشديد على من يقول أن نصوص القرآن الكريم عاجزة على استيعاب الواقع، لأننا سننظر على إنسان محصور محظور محبوس بين طيات الواقع البسيط الذي نشعر أنه معقد.

من ينطلق من القرآن إلى الواقع سيشعر أن المعقد هو من حُرم دلالة القرآن الكريم التي ليس لها حدود، من حُرم أصل هذا العطاء الهائل هو هذا المعقد المحجور المحبوس، لكن حينما ننطلق للواقع من دلالات النصوص الواسعة، سنرى أن الواقع هذا بكل تعقيداته، الله عز وجل ضبطه بمجموعة من القوانين الواضحة. 

جاء النص منضبطا أصلا بسياقه البنائي، وحينما قلنا أن هناك من النصوص لها دلالاتها الغير متناهية وأن الواقع متناهي، أهم ما نضبط به الواقع هو أن الثلاثة وعشرين سنة التي نزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هي مدة زمنية تنزل فيها القرآن، وطبق فيها كمالات قوانين التشريع الإسلامي وهي مادة أساسية تعطينا أصل البناء المنهجي وأصل السياق الحركي، فلا يوجد هناك حركة للأمة المسلمة خارج إطار هذه التفاعلات في مراحل السيرة النبوية التي فَرزناها إلى ست مراحل: ثلاثة مكية وثلاثة مدنية.

كيف أن ست مراحل أو ثلاثة وعشرين سنة تشمل حركة الأمة إلى قيام الساعة؟ وحتى أجيب عن هذا السؤال دائما أقدم في دورة للدكتور طارق السويدان وهي نموذج يقدمها الدكتور ويسميها دورة "عمر المؤسسات" ويقول الدكتور وهو يأكد أن هذا ليس كلامي وإنما تجميع كل من اجتهد في علم المؤسسات وعلم الإجتماع يقول "أنه لا يوجد مؤسسة في الكرة الأرضية ولا في الكون ولا في التاريخ، لا يمكن أن تكون خارج إطار الثمانية مراحل التي رسمها، رسم ثمانية مراحل من مرحلة الفكرة، إلى مرحلة الدوامة، إلى مرحلة النجاح، إلى مرحلة الثبات، إلى مرحلة الموت المتدرج. وقال أن هذه المراحل تستوعب كل شيئ اسمه مؤسسة في الكون، شركة، دولة، إمبراطورية، تنظيم، حركة، جماعة، أي شيئ إسمه مؤسسة، لا بد أن تكون عبر هذه المراحل الثمانية"

نحن نقدم في هذا المنهج الذي وصلنا إليه أن السيرة النبوية بست مراحل فقط تحتوي كتل الأمة وحركتها إلى قيام الساعة وهناك أحيانا من يقول بأن العقل والحاكم يرفضوها ابتداءا، ثم إذا ما طرحت بعض الدلالات العلمية بأن هناك ما انضبط في علم الاجتماع أن المؤسسات محكومة بست أو سبع مراحل في حركتها إلى قيام الساعة، موجودة عبر استقراء تام في التاريخ الإنساني يستنكر هذا الكلام.

لكن من يفهم محدودية الكون سيفهم أن كل المؤسسات والأفراد هم خاضعين إلى قوانين منضبطة تستطيع الإنسانية والبشرية أن تتجلى لها هذه المراحل عبر الرصد والاستقراء التام في حركة الإنسانية، لكن نحن لا بد أن نستثني عن هذا الرصد من خلال أن السيرة النبوية حينما عبّر عنها القرآن بأنها (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[سورة الشورى الآية: 52]، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[سورة الحشر الآية: 7]، حينما يحيلنا الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن نقتفي أثره، لا بد أن لا نحتاج إلى دليل إضافي لأن السيرة النبوية تعبر عن حالة شمولية لا بد أن نبحث كيف تعبر عن الحالة الشمولية.

كيف تُعبر الست مراحل من السيرة النبوية عن الحالة الشمولية؟ 

ندرس المنهجيات والاستراتيجيات فقط في كل مرحلة، ولذلك المرحلة المكية الأولى هي المرحلة السرية من بداية الدعوة إلى ثلاث سنوات، ثم من ثلاث سنوات إلى عشرة، إلى انتهاء شعب أبي طالب، إلى البعثة النبوية، والمَرحلة المدنية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى معركة الأحزاب، ومن معركة الأحزاب إلى فتح مكة، ومن فتح مكة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ست مراحل منزوعة الأدوات هو المنهج العملي في تطبيق البنية الحركية للنصوص إلى قيام الساعة، ولا توجد كما أزعم كتلة موجودة أو جماعة أو مؤسسة إسلامية تؤمن بمرجعية الوحي، لم تستطع أن تجد نفسها في واحدة من المراحل الستة.

كل الحركات الإسلامية التي انطلقت، انطلقت عبر هذا الفهم بإدراك أو بغير إدراك، لذلك ستجد أن كل الحركات الإسلامية هي تأخذ مرحلة من مراحل السيرة النبوية، حتى نأتي لنحاكم السلفية الجهادية والتيار الجهادي من أي مرحلة استقوا النصوص الشرعية بالمجمل؟ من المرحلة المدنية الثالثة، آخر سنتين بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جئنا لحزب التحرير في منظومة طلب النصرة وما شابه، من أين قَعَدُوا لمنهَجيتهم؟ في المرحلة المكية الثالثة، وإذا جئنا إلى منهجية الحركة الصوفية في الدعوة والتربية الفردية كان التيار الصوفي أو التيار السلفي العلمي أو ما شابه من هذه التيارات التي تكتفي في بناء الفرد وانعزاله عن المجتمع، ستجده في المرحلة المكية الأولى.

وإذا ذهبنا إلى فكر الإخوان المسلمين وهم الجماعة الأكبر ستجد أن الفكر كله منبثق من العشر سنوات الأولى في المرحلة المكية، ولذلك لم يستطيعوا أن يقيموا دولة، لأن الفكر المكي المدني لم يتحول إلى قواعد عملية منهجية تطبيقية، وفي نفس الوقت كانوا أكثر الحركات اتساعا لأنهم أخذوا عشر سنوات، وكانوا أكثر الحركات قدرة على التفاعل مع الواقع والصبر على الأذى، لأن هذه المرحلة أصلا ثقافتها وبنيتها هي ثقافة الصبر على الأذى وثقافة ما تسمى في السجون والتحديات، وكل الحركات الإسلامية اكتفت في مرحلة من المراحل الست.

هذه المراحل هي مراحل شاملة للأمة هو ما يؤصل لهذا البعد الحركي، بل ما يؤصل للبعد المنهجي، بل ما نقول الآن في هذه الأيام التي يُعتدى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، نقول أننا بحاجة إلى أن نطلق حملة كبرى نسميها رسول الله يجمعنا، نجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجتمع على المنهج الذي قدمه النبي صلى الله عليه وسلم برعاية الوحي، فنجد أنفسنا تحت هذه المظلة، وسنجد أنفسنا في المراحل الستة ونراعي ظروف بعضنا البعض، كل كتلة من هذه الأمة ستجد نفسها في واحدة من المراحل الست، وسنجد أنفسنا أيضا تحت كم هائل من التخصصات التي وزعت على الصحابة الكرام، كما أن هناك مراحل بنائية هناك أدوار ووظائف وزعت في المراحل الستة على مختلف الشخوص التي رافقت شخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك سنجد هناك مساحة هائلة لنقتفي أثر النبي صلى الله عليه وسلم، ونسْتظل بظل النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه بالوحي والقرآن.

لماذا نُحَيِدْ هذا الوحي المعجز؟ لنستقي من الحضارة الغربية هذه المعطيات العقلية العاجزة التي تقود البشرية إلى حالة من التفاهة والسفاهة على منهج فرعون (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)[سورة الزخرف الآية: 54]، لماذا نستغني عن العطاء المعجز؟ والله لو قلت لأحد أن هناك عصا سيدنا موسى الذي يستطيع بها أن يفلق البحر في آخر الدنيا لشدت الأمة كلها لها الرحال، بينما القرآن هو قوة إعجازية هائلة، وهو أكبر بكثير من كل معجزات الأنبياء مجْتمعبين، لو كل معجزات الأنبياء اجتمعت في مكان واحد ووضع القرآن في مكان واحد لَسبقهم القرآن الكريم في قوته الإعجازية.

لماذا نحاول أن نُحَيِدَ القرآن عن الواقع؟ هذا كله سلوك حرمان، الله عز وجل يحرم من لا يقبل على هذا القرآن، الله عز وجل يمنع هذا العطاء عن من لا يكمل الإيمان، ولذلك حينما نشعر بأننا نؤصل الكتب ونكتب المؤلفات لنؤَصل عن الابتعاد عن القرآن الكريم. مؤسسات هائلة تجتهد حتى نحيد القرآن عن الواقع وتضع القواعد في الكتب والموسوعات لتثبت أن القرآن الكريم ليس له علاقة في الواقع السياسي، كل هذا من دلالات الحرمان الذي يتنزل على قلوب المحرومين، الله يصلحنا وإياكم جميعا.