استضافت عمران الحضارة يوم 27 نوفمبر 2020 في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الدكتور صفوت مصطفى خليلوفيتش في مداخلة موضوعها: كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الوثنية؟ هذا نصها.

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا فقها وإخلاصا وعلما في الدين، ونور قلوبنا وثبتنا على دينك وطاعتك وأعنا على طلب العلم ومحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نلقاك وأنت راض عنا يوم الدين وبعد:

أيها الإخوة الكرام والأخوات الكريمات أحييكم من بلاد البوسنة والهرسك فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، هذا الملتقى الفكري هام للغاية لأننا فعلا نعيش في عصر الأزمات الكثيرة، وتزداد أهمية دراسة السيرة النبوية العطرة وما أتت به من أفكار ومفاهيم بناءة، خاصة في وقتنا المعاصر نظرا لما يتعرض له الإنسان من مادية وأفكار هدامة والتي جعلته يخسر أكثر من أي وقت مضى، أهم ما يميزه كإنسان "روحه الإنسانية"، نحن للأسف في العصر الذي يسهل أن يخسر فيه الإنسان سلوكه السامي الرقيق، الذي تحدثت عنه الشريعة الإسلامية، فعندما يفقد إنسانيته يصبح مخلوقا شديد الخطورة، على كافة المخلوقات على الأرض، ونحن نشهد اليوم فساداً عاما، كالذي ذكره الله عزّ وجل في القرآن الكريم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[سور الروم الآية: 14].

والكثير من الكتب تحاول أن تعالج مشكلة الإنسان، وموضوع مداخلتي مهم جدا "كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الوثنية والحضارة المادية؟ وبصفتي أستاذ في السيرة النبوية بعد إدخالها في المناهج التعليمية، أستطيع أن أقول أن المؤرخين يقسمون فترة الدعوة المحمدية إلى فترتين المكية والمدنية، استمرت الأولى من بداية البعثة إلى الهجرة، واستمرت الثانية عشر سنوات من الهجرة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مرحلة مميزاتها التي ترتبط بخصائص المرحلة الزمانية والمكانية، ويجب أن تدرس كل وجه منهما من خلال سيرة الأحداث التاريخية، والحياة اليومية التي تميز تلك الفترة. 

فيما تم تقسيم الفترة المكية إلى ثلاثة أقسام هي:

  • مرحلة الدعوة السرية التي استمرت ثلاثة سنوات.
  • وبعدها الجهر بالدعوة لأهل مكة من السنة الرابعة إلى العاشرة من البعثة.
  • والمرحلة الثالثة هي مرحلة الخُروج بالدعوة من مكة واستمرت من السنة العاشرة وحتى الهجرة إلى المدينة.
ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية.. حدث أعاد صياغة الإنسان

وكما نعرف جميعا من خلال قراءتنا لكتب السيرة والتاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل، لاقوا ظروفا قاسية خاصة بعدما نزل الأمر بالجهر بالدعوة، لم يبادر المشركون بمحاربة الدين الجديد كما كانو يسمونه إلا عندما تعرض الرسول لمسألة الشرك، فبالرغم من أن الإسلام دين الفطرة وأن عقيدة التوحيد تتماثل مع البديهة، إلا أن أهل قريش لم يتقبلوها، لأنهم كانوا يديرون أنه عليهم أن يستسلموا استسلاما تاما لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم اعتادوا على عبادة الأوثان، وكما نعلم أنه كان في مكة 360 صنم حول الكعبة وكانت هذه الأصنام مصدر دخل كبير لهم، وبها تنتعش تجارتهم. 

والنبي صلى الله عليه وسلم حينما بدأ يشتد أذى المشركين كان يحث الصحابة على الصبر والتحمل، وهو ما يتطلب منا أن نتفكر في صبرهم، وقد حارب الفكر الوثني بالقرآن الكريم الذي يقيم الحجج على المشركين.

والحقيقة أن فترة ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، كانت فترة مهمة في إعادة صياغة الإنسان، حيث تأسست لبنات حضارة جديدة، وكان الوحي هو الذي يعيد صياغة الفرد في معتقداته وأفكاره، ويزكيه في أخلاقه وسلوكياته، وينشئ الروابط ويؤسس الصرح الذي تقوم عليه الأمة، وقد صدق الله العظيم إذ يقول (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة المائدة الآية: 16].

فالنبي صلى الله عليه وسلم واجه الحضارة المادية بإقامة أسس قامت عليها الحضارة الإسلامية ومن أهمها: 

عقيدة التوحيد:

حيث أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم مفهوم التوحيد حينما خاطب مشركي مكة أنه لا يكفي ما هم عليه من توحيد الربوبية، بل لابد أن يقترن هذا الإقرار بالتوجه لعبادة الله وحده دون غيره من المخلوقات، وقد ترتبت على التوحيد آثار إيجابية في بناء المسلمين، لأن الناس لما يُقْبلون على الخضوع لله وحده، فإنهم يمتثلون لأمره ويجتنبون نهيه، ويجاهدون في سبيله لإرساء قيم الحق والعدل والكرامة والمساواة والعلم النافع. والأساس الأول الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية وهذا الملتقى بعنوان ميلاد حضارة.

والأساس الثاني هو العدل:

وقد ركزت نصوص القرآن الكريم على أهميته، وأمثلة على ذلك قوله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[سورة النحل الآية: 90]، وقوله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)[سورة المائدة الآية: 8] وغيرها من النصوص القرآنية، ومن الأمثلة في السنة النبوية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه) وهناك أمثلة كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها. 

الأساس الثالث هو العلم:

حيث جاء الإسلام لإعادة ترتيب العقل الإنساني ثم يطلقه ليعرف ربه من خلال الآيات الكونية والبشرية، وكان أول الوحي كما نعلم جميعا، قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[سورة العلق الآية: 1] منّ الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وامتن على المسلمين بأن بعث فيهم رسولا معلما كما في قوله تعالى (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ)[سورة آل عمران الآية: 164]، ومما يدل على اهتمام الإسلام بالعلم جعل فداء الأسرى، تعليم القراءة والكتابة الواحد منهم عشرة من أبناء الأنصار، وأنتهز هذه الفرصة وأنوه لأمر هام وخطير وهو أن المسلمين المعاصرين للأسف كما ذكر مولانا محمد الغزالي وقد أكرمني الله أن أتتلمذ على يديه في الأزهر يقول في أحد مقالاته "نحن المسلمين قوم لا نقرأ وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نعمل، وإذا عملنا لا نتقن، وإذا أتقنّا لا نستمر" يجب علينا حقيقة إعادة هذه الصياغة المتعلقة بهذا الأساس. 

والأساس الرابع هو الأخلاق الفاضلة:

والقرآن الكريم دستور كامل لتَربية الأفراد تربية صحيحة صالحة لكل مجالات الحياة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فجعل الله إتمام مكارم الأخلاق هدفا لبعثته صلى الله عليه وسلم، وغاية لرسالته، وكفى بذلك تشريفا لقيمة الأخلاق في دعوته، ويمكن القول بأن جميع القيم التي أسست لقيام الحضارة الإسلامية في العهد النبوي هي من آثار التربية الأخلاقية الصحيحة للفرد والجماعة، وتتميز هذه التربية التي بدأت في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة بأنها تربية شاملة تتناول كل شأن من شؤون الإنسان المسلم، وتقْرن القول بالعمل. 

الأساس الخامس هو العمل:

وهو الذي يبني الحضارة، والإسلام دين عملي والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من العجز والكسل، وقد جاء في حديثه، أنه من يخرج لطلب الرزق لأبويه الشيخين أو لذريته الضعاف أو ليعف نفسه من المسألة، بأنه مجاهد في سبيل الله، وحث الناس على عمارة الأرض في شتى الميادين إنطلاقا من قوله عز وجل (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )[سورة الملك الآية: 15]، ومن قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[سورة التوبة الآية: 105]، والأحاديث النبوية التي تدعو إلى العمل والسعي من أجل طلب الرزق وعمارة الأرض كثيرة جدا، وهي التي دفعت المسلمين إلى بناء حضارة عظيمة جعلتهم في طليعة الشعوب. 

فهذه هي أيها الإخوة الكرام أسس الحضارة الإسلامية، وطرق الإصلاح التي تضمنها الدين الإسلامي الحنيف، وبتلك الرسالة أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمد عليه الصلاة والسلام لتنظيم هذا العالم وهديه إلى الطريق السليم الذي يوجهه نحو الخير والعمران ويبتعد به عن الشر والشقاء. 

ما هي المعالم الحضارية التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم وتجلت في الإسلام؟

من أهم خصائص الحضارة الإسلامية التي بناها الرسول عليه الصلاة والسلام،

أنها حضارة التوازن والوسطية، بحيث جمعت بين العلم والدين والروح والمادة، ولم تفرق بين الدنيا والآخرة وهذا ما يميزها عن غيرها من الحضارات التي اعتنت بالجانب المادي من الحياة والجانب الجسدي والغريزي من الإنسان، فجعلت اللذات المؤقتة في الدنيا أكبر همِها ومبلغ علمها ولم تجعل لله تعالى ولا للآخرة نصيبا مذكورا، في فلسفتها وفي نظامها الفكري والتعليمي، بينما الحضارة الإسلامية وصلت الإنسان بالله وهذا كلام مولانا الشيخ يوسف القرضاوي "إن الحضارة الإسلامية قد وصلت الإنسان بالله وربطت الأرض بالسماء وجعلت الدنيا للآخرة، ومزجت الروح بالمادة، ووَازنت بين العقل والقلب، وجمعت بين العلم والإيمان، وحرصت على السمو الأخلاقي حرصها على الرقي المادي، وبذلك كانت بحق حضارة مادية روحية مثالية واقعية فردية جماعية ربانية أخلاقية إنسانية عمرانية".

ونحن في ملتقى تنظمه مؤسسة عمران أي كانت حضارة وسطية، ومن هنا كان للحضارة الإسلامية تأثير كبير على الشعوب التي خضعت لها، وطغت الثقافة الإسلامية على ثقافة الشعوب الأخرى، ومن أعجب العجائب أن يتم هذا التحول الفكري الثقافي دون أي إكراه أو إجبار، بل بإرادة الفطرة البشرية، وتلك الحضارات التي أخضعت الشعوب لم تستطع أن تؤثر عليها فكريا وعقائديا ولغويا كما فعل المسلمون في البلاد التي فتحوها، وقد أشار إلى هذه الظاهرة العالم الفرنسي الشهير غوستاف لوبون في قوله "أن مصر أصعب أقطار العالم إذعانا للإحِْتلال، نسبت في أقل من قرن واحد على فتح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها التي عمّرت فيها نحو السبع آلاف سنة، معتنقة بعدها الإسلام". 

وتعود هذه النتائج المذهلة التي حققتها الحضارة الإسلامية إلى عدة أمور منها:

  •  مصدرها الإلهي.
  •  ثم مقوماتها الفكرية.
  •  ثم نزعتها الإنسانية.
  •  ثم شمولها الثقافي.
  •  ثم حيويتها النابضة ومنهجها العلمي مما جعلها تمثل الأمل الذي كانت تتطلع الشعوب إليه، ولذلك ارتضت الشعوب المختلفة بثَقافاتها المتباينة التخلي عن ذاتها وتدخل في الإسلام لتصبح عقيدته دينِها وشريعته منهاجها، ولغة القرآن لغتها. 

فمن خصائص الحضارة الإسلامية أيضا

أنها أشاعت روح العدل والتسامح بين الناس: وكان من ثمرات ذلك أن يتعايش الناس ذوو العقائد والأجناس المختلفة متجاورين يسودهم الأمن والسلام والمحبة فتجَاور المسجد والمعبد والكنيسة في كل قطر من الأرض، وليس ذلك إلا لأن التعاليم الإسلامية تقول بأنه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة الآية: 156]صدق الله العظيم.

وبهذا أختم مداخلتي والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.