في إطار فعاليات اليوم الثاني من الملتقى الفكري رمضان الإسلام، استضاف عمران الحضارة الدكتور محمد الطلابي من المغرب الذي حاضر حول موضوع "كيف يوجه رمضان الأمة الإسلامية إلى الوعي بحضارتها والحضور في العالم" وذلك يوم 09 أفريل 2021، والدكتور محمد الطلابي هو مفكر إسلامي ومدير مجلة الفرقان وأيضا عضو المكتب الدائم للمنتدى العالمي للوسطية. وهذا نص المداخلة كاملا.
بسم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن ولاه، أما بعد..
زملائي المتدخلين إخواني وأخواتي السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أنا جد سعيد أن أكون معكم في هذا اللقاء الذي يجمع ثلة من المفكرين من العيار الكبير جدا وعلى رأسهم المقرئ أبو زيد، وسعيد أيضا لأنني سوف أقدم كلمة في قضية أعتبرها مركزية وهي قضية الوعي وخصوصا القيام بالربط بين رمضان والوعي.
فيما يخص الربط بين رمضان والوعي لا بد أن نحدد بعض المفاهيم الفكرية حتى يكون كلامي وخطابي واضح عند المستمعين والمشاهدين. هناك فرق بين الفكر والثقافة ولا بد من القيام بهذا التمييز الدقيق في مجال المعرفة، في تقديري الفكر موضوعه هو بناء الوعي، والثقافة موضوعها بناء السلوك، أيضا الفِكر مجَاله الإنتاج، والثقافة في تقديري مجالها التوزيع، لذا فالمُفكر الاستراتيجي هو صاحب المسؤولية الكبرى في نهضة أمتنا، أو في استمرارها على هامش مجرى التاريخ.
أنا أتكلم وبالفعل معي من هو في الصف الأول من هذه الصفوة، وأنا دائما أقول بأنه من سنن حركة التاريخ أنه لا نهضة شاملة بدون صفوة عالمة وعاملة، وأقصد بالعلم ليس فقط العلم الأكاديمي، بل أقصد بالعلم امتلاك الوعي، الوعي المطابق لروح العصر والوعي المطابق لروح الدين، والقدرة المبدعة على التوليف الحي ما بين الوعي وروح الدين وهذه من المهام الاستراتيجية عند ما نسميه بالفيلسوف الفقيه أو المثقف الإستراتيجي ولذا فمجالي يدور حول الفكر أكثر ما يدور حول قضايا أخرى، فالفِكر غايته بناء الوعي، وفي تقديري أن الوعي من أخطر وأصعب عمليات الصياغة عند الصفوة المثقفة من الصف الأول.
رمضان في تقديري ليس فقط شعائر نقوم بها، بل هو قيام الليل، وقيام الليل ليس الصلاة بل التدبر في الوحي والتفكر في الكون، أي امتلاك الرؤية الوجودية السليمة لما معنى إرادة الله عز وجل.
إرادةُ الله إرادة بأبعاد أربعة وهي صلب الوعي
- إرادة الله الكُنية "كن فيكون".
- إرادة الله التكوينية وهي خلق الكون وفق السنن الجبرية.
- إرادة الله الإنسية وهي خلق هذا الكائن العظيم الذي اسمه آدم المالك للحرية وحقيقتها.
- إرادة الله التدوينية لقيمة الوحي.
هذه في تقديري هي الأركان الكبرى لإرادة الله، ولا وعي مطابق للدين ولا للعصر بدون وعي عميق أو امتلاك رؤية وجودية عميقة لما معنى إرادة الله الكلية وإرادة الله الكُنية كن فيكون في تقديري من أعقد العمليات في الإبداع، نحن نتلفظ بها ولكن ما معنى كن فيكون؟
هذا بعد خطير في العقيدة، وفي رأيي أن رمضان يساعدنا على ذلك، فمن مهام رمضان المركزية هو
- الارتباط بالوحي أي إرادة الله التدوينية.
- التفكر في الكون والتفكر في هذا الكائن العجيب الذي اسمه الإنسان أو في إرادة الله الإنسية، هذا في تقديري مدخل الوعي المطابق للوحي ونحن في مدخل القرن الواحد والعشرين، وأيضا الوحي المطابق لروح الدين في هذا القرن أيضا.
كيف يقودنا التدبر في قيام الليل الرمضاني إلى بناء رسالة النهوض؟
فلا أهمية لرمضان إذا لم تكن عملية قيام الليل من أجل التدبر والتفكر، فهذه من المهام المركزية لرمَضان، لماذا؟ لأنه يستحيل علينا أن نحقق الاستخلاف ونحن لا نمتلك النية لهذا الاستخلاف الراشد في الأرض، الاستخلاف متعدد في تاريخ البشرية، فالحضَارة الغربية استخلاف والكونفوشية والهندوسية والحضارة الإسلامية استخلاف، كل العمران هو استخلاف، فقط نحن المسلمين نبْغي الاستخلاف الراشد، ومدخله هو بناء نظرية معرفية إسلامية جديدة.
ولذا أدعو إلى الانتقال من عصر التدوين للإسلام الأول، إلى عصر التدوين للإسلام الثاني، أي من التراث الإسلامي في مرحلته وموجته الحضارية الأولى، إلى انتقال جديد إلى الموجة الثانية، وهذا لن يتأتى إلا بالتدبر في الوحي، أي في إرادة الله التدوينية، ولن يتأتى أيضا إلا بالتَفكُر في الكون وفي حركة التاريخ، لأن كل ذلك التدبر يجب أن ينتهي إلى بناء رسالة النهوض.
لا أهمية لقيمة العلم الذي لا يبغي النهوض، فالعلم الأكاديمي الجاف لا قيمة له، أنا أؤمن بالعلم المناضل والمعرفة المناضلة، أي تلك التي تقرأ الواقع جيدا وتعمل على تغييره، وأنا أختلف مع كارل ماركس حينما قال "ليس المهم وصف العالم، بل المهم هو تغيير العالم" وإنما أقول: المهمة الأولى هي وصف العالم أولا ثم المهمة الثانية تغييره، وهذه في تقديري من أهم قضايا الوعي اليوم في القرن الواحد والعشرين عند الصفوة المثقفة في العالم الإسلامي.
على الأمة أن تمتلك هذا الوعي وإلا لا رسالة للنهوض، لأن الأمم تقودها الصفوات، فما كان للغرب أن ينهض ويقود العالم حتى الآن لو لم تتشكل تلك الصفوة الكبيرة في العصر الحديث مع الحركة الإنسية في القرن السادس عشر، ومع فلسفة الأنوار في القرن التاسع عشر، ومع الفلسفة الكلاسيكية الألمانية في القرن نفسه، ومع الأدب الروسي أيضا، ما كان للغرب أن يقود العالم لو لم تتشكل الصفوة المالكة لروح العصر، والمالكة للوعي بذلك العصر، وما كان لنا نحن أن نقود العالم في العصر الوسيط لو لم تتشكل تلك الصفوة المثقفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، في تقديري بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أفلح في بناء مثقف استراتيجي، يمتلك روح الوعي وروح التاريخ في عصره، ويمتلك أيضا روح الدين، كان عندنا عمالقة في الوعي التاريخي، فأنا أعتبر أبو بكر وعمر وعلي وغيرهم من كبار المالكين للوعي التاريخي في تلك اللحظة، والمالكين لآفاق التطور، ولهذا اتخذوا قرارات استراتيجية تاريخية سببها ذلك الوعي المطابق لروح العصر الذي كان أيضا وعيا مطابقا لروح الدين، فقاموا بالتوليف الحي ما بين روح الدين في عصرهم، وروح العصر في عصرهم فنجحوا في تشكيل صفوة قادت العالم، بل وأعطت حضارة رائعة استمرت قيادتها لأكثر من ثمانية قرون من الزمان.
وأنا أقول بأن الخلل في الصفوة وليس في الأمة، الأمة تمتلك العاطفة الحارة، لكن هذه العاطفة الحارة تتطلب عقلا باردا يفكر لها.
وفي تقديري بأن رمضان يعطينا هذه الفرصة، فالتَأمل والتدبر والتفكر في ثلاثين يوما قد تعادل أكثر كل شعائر رمضان، لأنها يمكن أن تنقذ أمة بل يمكن أن تنقذ البشرية في القرن الواحد والعشرين، لأنني أؤمن بأن العقائد الكونية قليلة على سطح كوكب الأرض، فكثير من الكونية مساحة لا بأس بها في الحداثة ولكنني أقول بأنها ليست كونية كليا، بل جزء كبير منها عبارة عن خصوصيات وانحرافات في الوعي والفكر.
لماذا استرداد الأمة لموقعها القيادي يشترط صفوة مالكة لنظرية معرفة جديدة؟
لكنني أقول على سطح كوكبنا الأرض توجد عقيدة عملاقة اسمها الإسلام تمتلك الكونية بامتياز، مغموسة فيها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، إنه الإسلام العملاق القادر على إنقاذ البشرية من العوز المادي والمجاعات وأيضا قادر على إنقاذ البشرية من المجاعة الروحية التي أنتجتها الحداثة المادية والإلحاد.
فديننا دين عملاق لكن كيف نستثمر هذا الدين اليوم لينقذ البشرية في العقود والقرون المقبلة؟ لا أتكلم بمنطق سياسي بل أتكلم بمنطق فيلسوف التاريخ، أو فيلسوف الآفاق، أي مستقبليات أتكلم عن قرن ونصف قرن من الزمان وربما قرون، ولكن لنبدأ وهذا في تقديري هو أسمى درجات الوعي إن امتلَكناه كصَفوة، هذه الصَفوة المالكة لهذا الوعي المطابق لروح الدين وروح العصر، لا يهمني أن تكون بالمئات أو بالآلاف فقط، لأن ملايين أنصاف المثقفين والمتعلمين غير قادرين على إنتاج رسالة النهوض الحضاري في القرن 21.
الرواحل في الحديث لا يتعدون واحد في المئة من الأمة وهذا في تقديري هو المطلوب، نعم تتشكل نوافذ هنا وهناك قد تشكل تيارا في المستقبل يمثل رسالة جديدة ومعرفة جديدة تعطينا إمكانية حل مغالق إشكاليات القرن 21 بالنسبة للأمة الإسلامية، بل وإشكاليات العصر، فكُرونا قد علمنا بأن كثيرا من الخلل في عقائد الغرب فالأصنام تعبد وهذه الأصنام التي تحولت إلى معبودات هي المتسبب الحقيقي في الاختلالات الكونية، وفي الموجات الوبائية التي قد تصيبنا حتى في العمق في السنوات المقبلة، هذه في تقديري قضايا مهمة في الوعي لا بد من أن نمتلك نحن كأمة أدوات لمواجهتها.
نحن كأمة إسلامية لسنا كقبيلة في أدغال الأمازون يمكن أن نندمج سلبا في العصر والحداثة، لا، نحن أمة كنا نقود العالم لأكثر من ثمانية قرون من الزمان لا يحق لنا أن نظل الطريق ونستمر على هامش مجرى التاريخ البشري، لا لا يجوز، لا حضارة، ولا منطقا، ولا عزة، ولا دينا، من هنا أهمية تشكيل صفوة جديدة مالكة لنظرية جديدة في المعرفة وأقصد بنظرية المعرفة عقيدة جديدة، ونحن في حاجة إلى إعادة تعريف عقيدة المسلم.
أنا أميز ما بين العقيدة وأصل الإيمان: أصل الإيمان هو الوحي المطابق لليقين، لكن العقيدة هي اجتهاد يجيب عن إشكاليات العصر، فالتُراث الإسلامي في موجته الحضارية الأولى هو إجابة عن إشكاليات عصرهم، وكل تراثنا هو أجوبة على إشكاليات العصر الإسلامي الوسيط.
السؤال المطروح اليوم هل يمكن لنا معرفيا وابستمولوجيا ومنْطقيا وتاريخيا أن نأخذ أجوبة العصر الوسيط لتكون أجوبة لإشكاليات القرن الواحد والعشرين، مستحيل من الناحية المنهجية ومن الناحية الإشكالية، فإشْكاليتنا تختلف نوعيا عن إشكاليات المسلمين في العصر الوسيط، فنجن عندنا مشكلة الديمقراطية والرأسمالية العالمية، وإشكالية صراع الطبقات بعد تشكل الرأسمالية العالمية وإشكالية الفن والمرأة وإشكالية التسارع التاريخي الكبير، وإشكاليات موجات الثورة العلمية والتكنولوجية والبيئة وغيرها من الإشكاليات التي لا وجود لها في العصر الوسيط، ولذا من يريد أن يعود إلى عصر التدوين الإسلامي الأول ليأخذ الأجوبة على إشكاليات القرن الواحد والعشرين يحكم على أمة بالموت، في التاريخ لن يحدث هذا.
في الفقه السياسي مثلا القديم كل ما أنتجه ابن القيم وابن تيمية في السياسة الشرعية والماوردي وغيرهم من الفقهاء في الفقه السياسي، كل ذلك الفقه السياسي اليوم أصبح معيقا لإمكانية نهضتنا في القرن الواحد والعشرين، يجب أن ندخله رفوف التاريخ والذي هو أجوبتنا على إشكاليات سياسية في العصر الوسيط، لكن هل يمكن أن يجيبنا عن إشكالية النظام السياسي الرئاسي والبرلماني والشبه البرلَماني والفيدرالي والكونفدرالي، ومبدأ فصل السلطات والنسبية والعتبة العليا والعتبة الدنيا؟ هل يمكن؟ لا يستحيل ولا يمكنه أن يجيب لأنه لم يعش هذه الإشكاليات ولذا نحن في حاجة إلى ابن تيمية جديد في الفقه السياسي وابن قيم جديد في الفقه السياسي وأيضا، حتى الفقه السياسي القديم أصبح معيقا لأن جزءا كبيرا من ذلك الفقه أُنتج لتبرير الاستبداد السياسي وليس لتبرير الحرية السياسية التي تميز بها هذا الكائن العظيم على سطح الأرض ألا وهو الإنسان، وهذا مثال فقط في باب من أبواب التراث الذي يمكن أن يكون معيقا لنهضتنا إن استمر التشبث بأجوبته على إشكاليات سياسية اليوم.
أنا في تقديري يجب علينا أن نتجاوزه اليوم إلى الربط المباشر بين القيم السياسية في الوحي اليقين أي الوحي القرآن الكريم، والربط المباشر للقرآن والوحي مع الثورة والثروة، الربط الحي سيؤدي إلى فقه جديد يختلف تماما عن الفقه القديم، عنوانه الحرية والكرامة والسلطة للأمة، وإلا كل الإشكاليات لا تجد لها أجوبة إلا في باب الشعائر، ويمكن القول أن تسعين في المئة من باب الشعائر يمكن أن نأخذ فيه بالقرآن، وأنا أتكلم عن فقه الحضارة لا عن فقه الشعائر، فابن خلدون عملاق، وأرسطو والغزالي وهيجل وكارل ماركس وأنشتاين عمالقة الفكر البشري وابن خلدون واحدا منهم، لكن أن نأخذ ونسْتعير الجهاز المفاهيمي في العصر الوسيط، لنقوم بتفسير البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في شمال أفريقيا اليوم فإننا نحكم على ابن خلدون بالقَزمية أمام عمالقة الفكر في الغرب، أمام ماكس فيبر مثلا.
اتركوا ابن خلدون زعيما في عصره، واليوم نريد جيل جديد ينتج فقه عمراني جديد وفلسفة تاريخ جديدين تختلف نوعيا عن فلسفة العمران وفلسفة التاريخ عند العملاق ابن خلدون.
رمضان.. فرصة سنوية لاقتحام النص القرآني وإنتاج طرائق تفكير جديدة
الخلاصة هي أننا نحن اليوم هم الصفوة المثقفة في العالم الإسلامي والعربي من فلاسفة ومفكرين وعلماء وفقهاء ودعاة من الصف الأول والثاني والثالث مطالبون بإنتاج معرفة جديدة ترتبط مباشرة بالوحي وتأخد ما بقي حيا في التراث، وتقوم بعملية التركيب له مع التراث الغربي الحي، هذه هي رؤيتي بأن الوعي المطابق اليوم للعَصر في القرن الواحد والعشرين للمسلمين وغير المسلمين يتطلب القيام بعملية معقدة جدا وهي كيف نقوم بالتوليف الحي بين تراثنا الذي مازال حيا وذو قيمة إنسانية، وبين تراث الغرب الذي له قيمة معرفية وقيمة علمية، كيف نقوم بالتوليف الحي ولكن تحت مظلة وتوجيه من القرآن، هذه هي الإشكالية المعرفية الكبرى التي علينا أن نقتَحمها، ومعنى ذلك علينا مراجعة نقدية لكثير من المفاهيم التي بها نفكر.
كل البشر يفكرون لكن بجهاز مفاهيمي قد تعي ذلك الجهاز وقد لا تعيه، وإن كان الجهاز المفاهيمي أعوج وأعرج ستنتج معرفة عرجاء، لكن أن تعي جهازا مفاهيميا راشدا ستنتج معرفة راشدة، ولذا نقول بأن إحدى المداخل الكبرى في بناء الوعي، ورمضان فرصة للتدبر والتفكر وهو بناء طرائق تفكير جديدة من الصفوة المثقفة في العالم الإسلامي، لأن طرائق التفكير هي التي تنتج الفكر، بمعنى آخر السلعة الجيدة لا يمكن أن تكون جيدة إذا كانت أدوات الإنتاج رديئة، لا بد أن تكون أدوات الإنتاج جيدة وناجعة لتنتج سلعة جيدة قادرة على جلب ربح كبير، وأيضا قادرة على المنافسة في السوق الدولية أو الوطنية، هكذا هو أيضا سوق المعرفة إن أردت أن تنتج معرفة راشدة لا بد أن تمتلك أدوات إنتاج معرفي فيها، وأدوات الإنتاج المعرفي هي الجهاز المفاهيمي.
ولهذا ندعو إلى المراجعة النقدية للجهاز المفاهيمي للتراث الإسلامي، وأيضا المراجعة النقدية البناءة للتراث الغربي ونعود إلى اقتحام النص القرآني، والقرآن في تقديري فرصة من ثلاثين يوما أننا نتدبر فيه لا أن نقرأه فقط.
كنت في باكستان وقالوا لي أنهم يخرجون سنويا خمس ملايين من حفظة القرآن، قلت لهم هؤلاء الآلاف هل يتقنون العلوم والجغرافيا والتاريخ والفلسفة، هل يقرؤون المناهج المادية، قلت لهم هؤلاء سيكونون عالة على المجتمع الباكستاني.
أنا أريد من يتدبر القرآن، لا من يحفظه فقط، فدينا لم ينزل من أجل التغني بالقرآن وإن كان في القرآن متعة جمالية عظيمة لا أخفيها، وجاء أيضا ليحل مشكلات العصر وذلك باكتشاف الجهاز المفاهيمي في النص القرآني القادر على إعْطائك الأجوبة أو مداخل الأجوبة على إشكاليات القرن الذي تعيش فيه، ألا وهو القرن الواحد والعشرين، ولذا علينا مراجعة طرائق التفكير التي فيها الكثير من الضبابية وكثير من الركون في الإبداع، وهذا لن يتأتى إلا بالجمع بين الجهاز المفاهيمي ذي القيمة العليا الإنسانية والعلمية بتوجيه من الجهاز المفاهيمي القرآني الذي يكون هو الحاكم والمرشد والموجه وهذا لن يتأتى إلا بإعادة التعامل مع القرآن، وهذه الآية تنطبق علينا (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا ) [ سورة الفرقان الآية: 30]، بل هذا حدث تاريخي سجل في عهد الرسول صل الله عليه وسلم الذي يشتكي لله على أن قومه أصحاب اللسان العربي يهجرون القرآن ولا يتدبرونه، وهذه الشكوى تنطبق علينا اليوم، نحن ما زلنا على ضفاف إرادة الله تعالى، ولم نقتحم بعد هذه القارة البكر ألا وهو النص القرآني من جديد، ونكتشف الخرائط الموجودة فيه، الغايات، والفكر، والتشريع، والقيم وغيرها وهي متراكمة بعضها فوق بعض، وأنا أقول السبع المثاني هي خرائط وليست الفاتحة أبدا، بمعنى أنك تجد سبع مطويات كل مظطوية تعطيك إمكانية حل إشكالية كبرى لموجة حضارية معينة فيها ثلاثة مئة سنة، أو ألف سنة وغيرها، هذا في تقديري مهم جدا إعادة الاعتبار للتعامل مع القرآن، وتأتي فرصة رمضان للتدبر، فَقيام الليل عند الرسول صلى الله عليه وسلم ليس صلاة فقط، بل "ورتل القرآن ترتيلا" بما معنى الترتيل ليس فقط النسق الصوتي الجميل والترتيل يعني ذلك الشيئ المنسق، وكان العرب يتغزل بالفم المرتل أي الجميل المنسق الأسنان والأضراس تنظيم القرآن وتقسيمه إلى مصفوفات ومقطوعات: مصفوفة التشريع، التاريخ.. الترتيل عند الرسول في تقديري هو ليس فقط الصلاة بل كان يجلس ويتدبر في الوحي وهذه أهم القضايا التي نحن في حاجة إليها.
ولكي يتم إصلاح طرائق التفكير عند الصفوة المثقفة، وأنا أميز بين الصفوة المثقفة وبين المثقف وبين المتعلم، أنا أقصد التمييز بين المفكر المثقف والمتعلم، أنا أتكلم عن المفكر أي الصف الأول القادر على الإبداع المعرفي، وهذا الذي يهمني لأنه هو الذي سيقود الأمة حتى وإن كانوا فقط مئات سينتجون روافع الفكر، وتلك الروافع هي التي ستقود الملايين من البشر، ومئات الآلاف من أنصاف المثقفين والمتعلمين وهذه من أخطر العمليات التي علينا الانتباه لها، فالصِناعة الثقيلة هي صناعة النهوض الحضاري، وأعقد صناعة هي صناعة الفكر وليس الالكترونيك كما يعتقد البعض ولا الهندسة النووية كل ذلك ممكن، وأخطر العمليات هي أن تنتج الأفكار الرافعة للنهوض الحضاري وهذه ليست دائما متوفرة، والجميع يرى أننا منذ قرنين ونحن نترنح ولم نستطيع أن ننهض، لماذا؟ لأننا لم ننتج بعد نظرية النهوض الحضاري الراشدة.
ونحن لم نقم بالتنظير السليم بعد، النظرية من أخطر العمليات وهي إبداع كبير يتطلب الصف الأول في النخبة ألا وهو المفكر أو ما أسميه بالفيلسوف الفقيه الذي يقودنا إلى أساسيات العلم الإسلامي، التي هي أبواب ثلاثة وهي العلم الشرعي والعلم الإنساني، والعلم المادي.
يجب أن يكون عند هذا المفكر الحد الأدنى من أصول قواعد العلم الشرعي الذي من خلاله يَفقه النص، وأيضا الفقه وأصوله وغيرها من العلوم التي بها يفْقه النص، ويجب أن يكون عنده الحد الأدنى من العلم الإنساني وعلم التاريخ وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد وفلسفة المستقبل وعلم التاريخ.
أنا أتوجه إليكم بسؤال هل يمكن لنا أن ننهض وعلماؤنا ومفكرونا لا يفقهون شيئا عن الحضارة، وعن علوم السياسة والاقتصاد والتاريخ وفلسفة المستقبل وعلم المستقبل بل أنك تتبنى علم المستقبل، وإذا كان أي أحد على دراية بهذه الأمور يقولون عنه إنه يريد أن يتنبأ، مع أن التنبؤ بالسنن في تقديري يعد من أهم القضايا التي علينا أن ننتبه إليها، وأقول لكم بأننا في حاجة إلى إصلاح العقيدة، نحن نعبد الله فقط بالشعائر، ولهذا لم ينصرنا الله، نقيم حوالي مليون جمعة في العالم الإسلامي وفي كل جمعة ندعو اللهم لمَ شملنا ودمر عدونا هل استجاب الله لنا؟ لم يستجب.
(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) [سورة محمد الآية: 7]، نحن لم ننصر الله لأننا ما زلنا نعبده بالشعائر فقط، لكن لم نعبده بالسنن. بمعنى آخر فك مغالق السنن في المجرة والذَرة والخلية وقوانين علم الاجتماع، وعلم التاريخ وحركة التاريخ والسنن التاريخية، يجب أن نفهم هذه السنن ثم نقوم بالتسخير الراشد لها، عندها نعبد الله ولذا فالذين ينتصرون، هُم الذين يعبدون الله بالسنن حتى وإن كانوا كفارا، لماذا؟ لأنهم ينضبطون للسنة التي آتت بها إرادة الله التكوينية.
العبادة بالشعائر وربطها بالسنن كفيلة بتحقيق النصرة والنهوض
حينما نعبد الله بالشعائر ونضيف إليها عبادة الله بالسنن في تقديري والله أعلم بأن الله سينصرنا لا محالة، ووضعه لنا ضوابط في القرآن (إن تنصروا الله ينصركم) في هذه الحالة حتما سينصرنا الله، نحن لم نبني نظرية، عندنا مفهوم التسخير والإحسان، الزوجية والطاقة، أين هي نظريات مفهوم التسخير؟ وبالتالي نحن لم ننتج شيئا، ما زلنا نعيش على التراث، وهذا لا وجود له في التراث، وما زلنا نعيش على التفسير القديم للقرآن، وهذا لم يعد ينفع إلا بعشرة أو عشرين بالمئة وندعو الله، لن يستجيب لنا.
في تقديري هذا خلل عقدي ولذا علينا مراجعة وإعادة تعريف العقيدة لنجمع ما بين العبادة بالشعائر والعبادة بالسنن، عندها سينصرنا الله، لكن إن بقينا بهذا الوعي وهذه العقيدة هكذا، بهذه الطريقة فإن الله لن ينصرنا أبدا.
الله هنا من موقع الرب، الله هو الذي خلق السنن، وبالتالي الرب عادل بين كل البشر، لا يفرق بين كافر ومؤمن، ومن يشغل ويسخر ما خلق الرب ينتصر في التاريخ والحضارة، نحن عطلنا الرب نعبد الله فقط، وهذا في تقديري خلل، ولهذا ندعو إلى تعريف جديد للعقيدة في القرن الواحد والعشرين، وأدعو إلى نظرية جديدة في الإنسان، إرادة الله الإنسية لم تأتي في التراث وهذا ما اكتشفته باجتهاد خاص، كانت إرادة الله التشريعية والتكوينية ولكن إرادة الله الإنسية لم تأتي في التراث، وهذا خلل خطير في التراث فتغْييب هذا الكائن العظيم الذي اسمه آدم، وما كان الله ليسْتخلفه في الأرض لو لم يكن يمتلك طاقات جبارة في هذا الكون، أنا أقول أن الإنسان أقوى من الجن والله أعلم، لو لم يكن أقوى منه لما استخلفه الله في الأرض، هذا الإنسان عظيم لكنه مهشم في العقيدة، نحن نؤمن بالعقيدة وبأرْكان الإيمان، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والخير والشر والقدر، ولكن أليس الاستخلاف في الأرض ركن عقدي، نعم أنا أقول ذلك لكن هذا الركن غائب وبالتالي تم إهمال هذا الكائن المستخلف في الأرض، لذا نقول أن الصفوة المثقفة في العالم الإسلامي مطالبة بصياغة نظرية في الإنسان، يجب أن ننتج نظرية في الآدمية، أنتج الغرب نظرية في الإنسانية وعندهم أكثر من نظرية في الانسان، فيها اعوجاجات وانحرافات، لا بد من أن ننتج نظرية في الآدمية وليست الإنسانية.
كنت في محاضرة في فرنسا أرادوا ترجمة الإنسانية ب "l'humanité" الآدمِية، رفضت وقلت لهم لا، نترجم الإنسانية بالآدمية "l'adamité" أعمق كثيرا من "l'humanité" وهذا لا يوجد إلا في هذا الدين العملاق الإسلام فقط، لكن هل ندرك نحن هذا الإنسان العجيب؟ هل وضعنا له نظرية حتى يقود الاستخلاف بحق؟ لا، ولهذا ندعو إلى نظرية في العقيدة وأدعو إلى نظرية في الآدمية والقرآن يقطر آدمية.
الفرق النوعي بين الآدمية والإنسانية هو أعمق ما يمتاز به الإسلام عن فلسفة الحداثة الغربية، يجب إذن أن نبني نظرية في الإنسان الذي هو المستخلف في الأرض والقائد لهذا الكون، الله استخلفه ليقود الكون أعطاه العقل والحرية والنطق.
باختصار أقول الإنسان كائن اجتماعي ذو طاقة مزدوجة موجبة سالبة، هو كائن ناطق عاقل حر فنان مستخلف في الأرض، ومسؤول في الدارين الدنيا والآخرة، لا بد أن ننوع الاجتهاد في هذه النظرية حتى ننتج بعد عقدين أو ثلاثة نظرية حقيقية تعطينا حقوق إنسان راشدة غير منقوصة، في الغرب حقوق الإنسان موجودة على فلسفة تعتبر هذا الكائن حيوان ناطق ذكي وهذا يؤدي إلى تحوير وتشويه في الفكر.
ديننا الإسلام لم يسم الإنسان حيوان، ولا وجود لآية تذكر أنه حيوان، بل هو كائن عظيم اسمه آدم، نحن في حاجة إلى نظرية في العقيدة ونظرية في الإنسان ونظرية في الدولة، والدولة هي أداة الاستخلاف في الأرض، وامتلاك نظرية في الدولة هو من أقوى أدوات الاستخلاف. هناك من اجتهد، أصاب ولكن هناك أخطاء فادحة وقاتلة لأننا لا نمتلك نظرية في الدولة، والمؤرخون يؤكدون أن الخط الفاصل ما بين ما قبل التاريخ والتاريخ، هو بناء الدولة التي هي أسمى إنتاج حضاري أنتجته البشرية، الذي أدخلها عصر التاريخ وأخرجها من عصر ما قبل التاريخ الذي عندنا هو الجاهلية وغيرها.
الدولة ونظرية الدولة أصبحت اليوم ضرورة حضارية كبرى لنتدبر فيها من خلال النص القرآني فالجِهاز المفاهيمي والسياسي في النص القرآني عميق، ويمكن لنا من خلاله أن نقوم بوضع خريطة للجهاز المفاهيمي السياسي اليوم، ونقوم بالتفعيل له من خلال ما أنتجته الحضارة الغربية في هذا المجال، وهي متفوقة طبعا، وأسمى آلة أنتجتها البشرية لإدارة السلطة هي الديموقراطية الغربية، ولا وجود الآن لأي إنتاج غير الديموقراطية وهو أسمى ما أنتجته الحضارة الغربية في مجال الفقه السياسي.
نحن في حاجة إلى نظرية في الدولة، أية دولة أريد، هل هي دينية، علمانية، إسلامية، وهذا يتطلب منا مراجعة التاريخ الإسلامي من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتطلب منا أيضا جهدا كبيرا وتدبرا وتفكرا في النص، وفي الحاضر، وفي التاريخ لكي ننتج نظرية في الدولة.
أنا أقول والله إن نواة الدولة المدنية كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقول لكم بأن الصحيفة هي من أسمى الإنتاج السياسي وليس الديني في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن دينا بل كان إنتاجا مدنيا يحل إشكالية نظام الدولة، كيف تتفاعل الساكنة والإقليم مع الجهاز المنظم للساكنة والإقليم، ألا وهي الدولة والسلطة الحكومية، وفي تقديري أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بمرجعية إسلامية، فقط علينا أن نعيد ونراجع هذه القضايا في التاريخ، وهذا وعي تاريخي متقدم لأن الوعي بالمستقبل يتطلب الوعي بالماضي أيضا، وأن نمتلك أدوات المستقبل الذي أتكلم عليه وهو وجهتي يشدني إليه الأصول الذي هو الوحي اليقين لكن يشدني استخلاف راشد. أنا أشتغل لأمرين أمر ذاتي هو أريد أن أقدم ولو مثقال ذرة من المعرفة لنهوض أمتي وأيضا مثقال ذرة لأفوز بالجنة لأنني أشتغل للمستقبل.. حتى الجنة والحضارة في المستقبل.
أنا لست سلفيا، أنا أصولي والغربيون أيضا أصوليون طلقوا العصر الوسيط المنحط وانتقلوا إلى الأصول في أثينا وروما، ونحن أيضا في تقديري بأن عصر التدوين الإسلامي الثاني يتطلب منا العودة إلى مكة والمدينة الأصل، وليس السلف طبعا نستفيد منه ولكن أنا أريد أن أكون أحسن من السلف عشرات المرات، فأنا أمتلك من المناهج والثورة المعرفية ما لم يمتلكه ابن تيمية وابن القيم وابن خلدون ولو واحد بالمئة، لم يمتلكوا ما أمتلكه أنا اليوم، ومع ذلك ما زلت مشلولا وهذه من أخطر المعطلات للنهوض الحضاري في العقود المقبلة خلال هذا القرن.
في نظري أنه مطلوب اليوم أن ننتج نظرية للدولة، نظرية جديدة في العقيدة، أي تصور للوجود جديد ينطلق من أصل الإيمان الذي هو الوحي وأن نبني نظرية في الإنسان، ونظرية في الدولة، ونظرية في السلطان وأخرى في العمران، وهذه هي القضايا التي هي موضوع عصر التدوين الإسلامي الثاني ومدخله هو إصلاح طرائق التفكير عند الصفوة التي ستنتج رسالة العصر والمعرفة في عصر التدوين الإسلامي الثاني في موجتها الثانية، والتي هي أجوبة عن إشكاليات القرن الواحد والعشرين، وليس أجوبة عن إشكاليات لم تعد تهمنا كانت مهمة في العصور الماضية، ومن هنا نقول أننا في حاجة إلى إصلاح طرائق التفكير لكن كيف؟
لا بد من نقد للجهاز المفاهيمي الذي به يفكر الصف الأول من المثقفين، ثم أن يكون لهذا الجهاز المفاهيمي الجديد مرجعية تحكمه وتوجهه، وهذه المرجعية تحكمها ثلاث مجالات كبرى وهي يقينيات تتمثل في الوحي اليقين، والعلم اليقين، والمنطق اليقين. هذه هي المرجعيات الكبرى للإصلاح الفكري.
- الوحي اليقين: هو أن كل ما يتعارض مع النص القرآني أرفضه في تراثنا وفي تراث الغرب وكثير من الأحاديث والسير التي كتبت تتعارض مع الوحي، لذا يجب رفضها لأنها تعيق نهضتنا في القرن الواحد والعشرين، لأنها تتفتق في الزمان التاريخي المطلق إلى قيام الساعة، وأن نعيد الاعتبار للمعجزة في وضعها العقلي وليس في وضعها الحسي، ولماذا لا يكون رمضان شهر للتدبر للصفوة، وأنا أتكلم عن الصفوة ولا أتكلم عن العامة، فالعامة طبعا سيصلون ويقومون بالشعائر والنوافل، ولكن مهمة المثقف من الصف الأول ليس القيام بالنوافل لليوم، وإنما عليه التدبر في الوحي اليقين ليخرج لنا الجهاز المفاهيمي القادر على إعطاء نظريات مبصرة في العقود المقبلة.
- العلم اليقين: وهو كل ما يتعارض مع العلم اليقين نرفضه في تراثنا وفي تراث الغرب، وعندما تقول معركة العلم هو المادي والإنساني من فيزياء وكيمياء وغيرها، وإنساني من تاريخ وجغرافيا وعلم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، فكل ما يتعارض مع العلم اليقين نرفضه وفي تراثنا الكثير من الأساطير والخرافات مع الأسف، واليوم جيل الشباب متشبع بالعقل وتريد أن تقنعه ببعض القضايا التي يمكن أن تنفره، وهنا أفتح قوس الكنيسة مسؤولة عن موجة الإلحاد في العصر الحديث، لأن أساطيرها وخرافاتها هي التي أدت إلى الكفر بها وإلى الطلاق التام مع الكنيسة ومع الدين كرد فعل متطرف ضد فعل كنسي متطرف، وأنا أتخوف من أن موجة الإلحاد إن لم نقم بإعمال العلم اليقين، والوحي اليقين، والمنطق اليقين كل فيه تناقض أو ما أسميه بقانون عدم التناقض، كل شيئ يتعارض مع المنطق اليقين والعلم اليقين والوحي اليقين يجب أن نرفضه بقوة، عندها سترون بداية الإبداع والمعرفة وبداية تشكل عصر التدوين الإسلام الثاني، وهو لم يبدأ اليوم بل بدأ في القرن التاسع عشر لكن مع الأسف انكسر، وما أسميه بعصر الأنوار الإسلامي مع محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا ومحمد إقبال والكواكبي، وهؤلاء هم عمالقة عصر الأنوار الإسلامي.
ولكن مع الأسف القرن العشرين أدى إلى انكسار عصر الأنوار الإسلامي، جاءت المدرسة النجدية السلفية الوهابية مع صعود آل سعود السلطة سنة 1932 وجاءت المدرسة السلفية الشيعية مع الخميني في إيران، وجاءت المدرسة القومية العربية الاشتراكية مع ناصر، وهذه المدارس الثلاثة في تقديري كسرت عصر الأنوار الإسلامي، وهي من الكوارث وأوقفت إمكانية إنتاج رسالة النهوض الحضاري بشكل راشد.
ولهذا كثير من القضايا عندنا فيها تردد في الفن والموسيقى والتعليم والمرأة، وكل ذلك نتيجة الموجة النجدية السلفية التي اجتاحت العالم أو السلفية الشيعية التي بدأت تجتاح العالم وأيضا التيار القومي العربي الذي اجتاح العالم العربي، ولكن اليوم علينا استئناف عصر الأنوار الإسلامي من جديد، أنا حينما أقرأ لإقبال والكواكبي أعتبرهم عمالقة استطاعوا التوليف الحي مابين الحداثة والإسلام بشكل عجيب، وفيه كثير من الإبداع لكن أين هذا الإبداع؟ الآن ضاع منا خلال قرن بأكمله ولهذا نحن في حاجة إلى قرن جديد.
الإنسان كائن فنان عاقل ناطق حر، ولم يعط الله عز وجل هذه الصفة الفنية إلا للإنسان، لأن الفن هو المخيال، هل يمكن أن ننتج شعرا بدون خيال، لا بد من مخيال، ومدخل الإنتاج العلمي والتكنولوجي منذ القرن التاسع عشر خيال ولهذا فالمخْيال الحضاري تنميه الفنون، وهو أيضا مدخل للثورة العلمية ومدخل للإيمان بالله عز وجل، حينما ترى هذا الكون الذي هو قصر بديع ألا تشعر بأن وراء هذا القصر البديع خالق أبدع، نعم ولهذا نقول بأننا في حاجة إلى نظرية للإنسان تساعدنا على الإبداع، وعلى طرح تلك الموضوعات التي تساعد على نهضة أمتنا في القرن الواحد والعشرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.