لدى بحثي في موضوع الهوية وعلى اختلاف هويات الكتّاب الذين قرأت لهم، سواء كانوا مسلمين أم علمانيين أم أوربيين، وجدت أن كل من كتب بالهوية أجمع على أنه: لا وجود لشعب بدون هوية.

فكل شعب لا يحافظ على هويته، ولا يعزز عناصرها، فهو شعب مهدد بالانقراض، فالشعب الفلسطيني المبارك مثلًا لو أن شبّانه اختاروا جنسية الكيان الصهيوني وأخذوا يعتزون بها، وابتعدوا عن عروبتهم وعن عرقهم وعن دينهم، فهذا الشعب مهدد بالزوال.

فلسطينيو الــ (48)

وهنا أتحدث عن الفلسطينيين القاطنين على أرض فلسطين المحتلة، والذين شاعت تسميتهم بـعرب الــ (48) أو عرب الداخل أو فلسطينيو الــ (48)، فهؤلاء وجدوا أنفسهم داخل خط يسمى الخط الأخضر هو خط هدنة (1948)، ويملكون الجنسية الإسرائيلية، وفي وسائل الإعلام الإسرائيلية يشار إليهم بمصطلحَي"عرب إسرائيل" أو"الوسط العربي"، كما يستخدم للدلالة عليهم أحيانًا مصطلح "أبناء الأقليات".

هؤلاء العرب وذريتهم هم الذين بقوا في قراهم وبلداتهم بعد حرب عام (1948)، أو ممن طردوا من بيوتهم وقراهم ولكنهم ظلوا ضمن الحدود التي أصبحت فيما بعد خاضعة للكيان الصهيوني.

إنهم أهلها ورجالها

هؤلاء أجبروا على ما هم عليه اليوم، بل لعل جنسية الكيان الصهيوني التي مُنِحوها تكون لهم عوناً ولممتلكاتهم أمناً نوعاً ما، ولو نظرنا لفلسطينيي الــ (48)، لوجدنا أنهم هم المرابطون في المسجد الأقصى، وهم من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية من الداخل، وهم من يحافظون على إسلامية الأرض، والوقوف سداً منيعاً أمام محاولات تهويد الأرض، وهم مَن سالت دماؤهم أيام نكبة 1948، وهم المشاركون في المظاهرات الرافضة لتغيير معالم الأرض والإنسان، وهم من يتحمل يومياً آثار التمييز العنصري الذي يمارسه الكيان الصهيوني ضدهم.

مثل هكذا شعب لا تضيع هويته ولو تجنّس بجنسية الكيان الصهيوني، أما من اختار هذه الجنسية فخراً وتركاً لأرضه وأهله فبهذا وأمثاله تضيع الهويات وتزول الشعوب.

رومان المشرق

قرأت التاريخ وتأملت في أحداثه، وتعلمت منه أنّ الشعوب لا تزول بموت أهلها، بل تزول بفقدان هويتها.

فالدولة الرومانية في المشرق – مثلاً - والتي كانت عاصمتها السياسية دمشق والدينية القدس، عندما جاءها الفتح الإسلامي في عام 13 للهجرة، بقيادة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح، صُبغت البلد بالصبغة الإسلامية، أين هم رومان المشرق؟ هل ماتوا جميعاً؟ هل غادروا جميعاً تلك الأرض؟

 طبعاً لا، بل دخلوا في هويتها الجديدة، الهوية العربية الإسلامية وانصهروا فيها، وبذلك زالت عنهم هويتهم الرومانية، إلى أن وصلوا لأيام لا يعرفون أصولهم الرومانية، فشعب دمشق الروماني لم يَزُل بموت الرومان، بل زال بفقدان هويته الرومانية.

الهوية الجديدة للأسبان

في المغرب مثلًا نجد أسماء يعود أصلها لأهل الأندلس- النصارى- وهي أسماء تأثرت باللغة القشتالية، فنجد بين أسمائهم ابن زيدون وابن خلدون، وابن حفصون وابن فركون، وابن وهبون وابن عبدون، كلها شخصيات أندلسية شهيرة قاسمها المشترك هو المقطع "ون" في آخرها، وهذا المقطع يستخدم لديهم للتعظيم.

يقول المؤرخ "أحمد الرازي" في حديثه عن ابن حفصون: "فولد عمر بن جعفر حفصًا، المعروف بـ حفصون ــ أريد به التكبير ــ"، إذاً "ون" هنا كانت في لغتهم للتعظيم.

 أمـا الآن فلو سألت رجلًا مغربياً عن أصل اسمه المنتهي بهذا المقطع الصوتي، ما دلالته؟ ماذا يفيد؟ لن يعرف، لماذا لن يعرف؟ لأن هذا المقطع كان يستخدمه نصراني إسباني زالت هويته بزوال عناصرها، وانتقلت إلى هوية عربية إسلامية، فانتمى للعرب بلسانه وللمسلمين بدينه، وحضارته تحولت، واهتمامه بالتاريخ تغير، وعاداته تأثرت بما هو جديد، هل الشعب زال؟ لا.. ما الذي حدث إذاً؟ تغيرت عناصر هويته، فما عاد يعرف أصل اسمه، ولا لأي لغة ينتسب. 

الهوية الأمازيغية

في المغرب العربي هناك شعب عزيز كريم هم الأمازيغ، هذا الشعب للأسف يُطلق عليه البعض كلمة البربر، وهي تسمية مذمومة لديهم، كان قد أطلقها عليهم النصارى لجسارتهم وشدتهم في المعارك.

وإذا نظرنا إلى الشعب الأمازيغي هذا، نجد أنه من الشعوب الضاربة في التاريخ، ممتد على جغرافيا لا بأس بها في أقطارنا العربية ناحية المغرب، يدين بديننا الإسلامي، ومنه خرج صاحب الفتوحات الإسلامية طارق بن زياد، وإليه ينتمي العالم عباس بن فرناس، والنحوي الشهير ابن آجروم الصنهاجي.

 والكثير الكثير من مشاهير تاريخنا وحضارتنا الإسلامية، وهناك كثير من قيادات في الحركة الإسلامية في المغرب أصولهم أمازيغية، إذًا هم جزء أصيل من أمتنا الإسلامية.

 ولكن هؤلاء لهم لغتهم الأمازيغية ولهم عاداتهم، ولهم ما يميزهم عن العرب، فكانت لهم صبغتهم الخاصة ببعض عناصر هويتهم، وكان لنا ولهم اشتراك في عناصر أخرى كالدين والجغرافيا والتاريخ والحضارة. 

الهوية الكردية

وفي المشرق أيضاً هناك الأكراد أصحاب الأصول الشريفة، الذين خرج من بينهم أبطال وقادة أمثال"صلاح الدين الأيوبي"، هؤلاء الكرام نتشارك معهم أيضاً في بعض عناصر هويتنا، ونختلف عنهم في عناصر أخرى.

يرى البروفسور صموئيل هنتغتون أن "الناس يعرفون أنفسهم من خلال النسب والدين واللغة والتاريخ والقيم والعادات والمؤسسات الاجتماعية.."، وبالنسبة للأكراد فإن عنصرا الدين واللغة هما أكثر ما ساهم في الحفاظ على الهوية الكردية من الزوال، فالدين الإسلامي هو دين الغالبية الساحقة للأكراد، وأغلبهم من السنة الشافعيّة، فيأتي ليمنح الهوية أبعادها الحياتية.

فالأكراد لهم هوية كردية خاصة بهم، رغم توزع جغرافيتهم في أربع دول هي العراق وإيران وتركيا وسوريا، ومع ذلك تجمعنا معهم هوية أشمل وأوسع هي الهوية الإسلامية.

تصادم أم تكامل؟

أصبح من المسلّم به وجود هويات مختلفة، لكن هل هذا الاختلاف هو عامل تصادم؟ أم أنه تنوع وتكامل؟

الناظر الباحث في هذا التنوع والتعدد في الهويات، يعلم تماماً ما لهما من جمال وثراء، وخاصة عندما نتخيل أن البشرية كلها جنس واحد، ولغة واحدة، قومية واحدة، لون واحد، وفلكلور واحد، عادات واحدة، كم سيكون مظهر الدنيا مملًا، وتعامل الناس فيما بينهم كئيباً شاحباً.

ومن حكمة الله تعالى أن خلق البشر مختلفين، قال الله تعالى:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.... (119)) سورة هود.

التنوع من أهداف الخلق

قال الله تعالى:(يَــأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/13.

إن هذا التنوع هو مقصد من مقاصد الخلق، وإن الاختلاف والتنوع والتغاير والتكامل سنة من سنن الله التي تحكم حركة الحياة، والله تعالى عندما خلق الخلق، كان قادراً -وما زال – على أن يجعلهم قبيلة واحدة، أمة واحدة، بهوية واحدة، ولكنه شاء أن يجعلهم (شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) لأن هذا التنوع والاختلاف هو الموصل إلى التمايز، والضامن للوصول إلى الخيرية.

تعدد الهويات

تعدد الهويات من حولنا يضفي على حياتنا الكثير من الجمال، ومنه:

  • الإبداع في الحياة.
  • التنوع والتناغم بين الحضارات.
  • يقلل التبعية والخنوع والاستعمار.
  • يزيد في الحرية.