في المقال السابق تحدثنا عن لماذا قد تكون نظريات العلاقات الدولية غير كافية لتحليل الظاهرة السياسية؟  ونستمر في الإجابة عن السؤال بالحديث عن مفاهيم القيادة والتسيير في مجال العلاقات الدولية. 

تدخل دراسات علم القيادة والتسيير (Leadership And Management) في مجال إدارة الأعمال والاقتصاد وترتبط بالعوامل النفسية والعصبية في علم النفس، ومنها ما هو مرتبط بعلم الاجتماع وتحليل الواقع المجتمعي (والثقافي) الذي ينعكس على سلوك الأفراد ويساهم في بلورة شخصيتهم أحيانا.

 أما في مجال العلوم السياسية فيشار عادة لمفهوم الإدارة بدلا من القيادة أو ما يعرف بالتسيير الإداري، وهناك اختلاف لأن التسيير (التنظيم) الإداري وإن كان في حقل العلوم السياسية فهو يرتبط بمقاربات يطغى عليها الجانب الاقتصادي أكثر منه سياسي، على غرار المقاربة التقليدية للإدارة والتسيير والتي تُظهر إسهامات "فريدريك تايلورF . Taylor" في كتابه الصادر سنة 1911 والذي يحمل عنوان: مبادئ الإدارة العلمية « The Principles of Scientific Management » والمعروف بأب الإدارة العملية، وإسهامات كل من "هنري فايلول H.Fayol " وفكرة التنظيم الإداري، و"ماكس ويبر M.Wyber" وإدخال مفهوم البيروقراطية في النموذج المثالي للتنظيم الإداري. 

واقع الأمر أن الدارس للمقاربات التفسيرية للتنظيم الإداري وإن ارتبطت بحقل العلوم السياسية "ولو أنها نظرية أكثر منه في واقعية "استمرت في التطور وإدخال متغيرات أخرى منها مفاهيم التنمية المستدامة والحكم الراشد "الحاكمية" وغيرها من المفاهيم التي تهدف لتحقيق الكفاءة، الالتزام، وتوازن بين المادة والإنسان .

 لكن كيف يمكن إسقاط هذه المقاربات الإدارية التنظيمية على الظاهرة السياسية في جانبها الأمني والاستراتيجي؟ لو فعلنا وطرحنا مفهوم البيروقراطية في التسيير الحكومي مثلا سيتم النظر إليها من زاوية الفعالية والإنتاجية، وكيف تصنع السياسات وتنفذ القرارات وردود الفعل عنها وكل ذلك في جانب نظري يتم إسقاطه على هذا الهيكل الحكومي.

بالعودة إلى مصطلحات القيادة والتسيير وحاولنا بناء تصوراتنا لقرارات الحكومية أو رئيس الجمهورية أو أي شخصية رسمية في الدولة وفسرناها وفقا لمفاهيم القيادة والتسيير في مجال التنمية البشرية وكل ما له علاقة بتطوير الذات لاختلفت التوجهات وطريقة التحليل بشكل كلي، وهنا وينتقل السؤال من كيف يمكن دراسة الظاهرة السياسية في الحالة الفرنسية التي تُعبر عن مظاهرات السترات الصفراء ورفضها لقرارات الرئيس الفرنسي ماكرون، إلى البحث عن إجابة للسؤال القائل: لماذا فشل الرئيس الفرنسي في إدارة مرحلته الرئاسية خاصة في بدايتها، في حين اتسمت مرحلة ساركوزي بالاستقرار (مرحلة الرئيس هولاند بينهما لم تعرف تحولات كبيرة) في وقت سابق؟ وهنا إذا ما أخدنا بعين الاعتبار أن نفس النهج السياسي و الوضع العام في فرنسا لم يشهد تغيرات كبيرة بين الفترتين!

بداية يرتبط مصطلح القيادة عادة بمجال التنمية البشرية وإدارة الأعمال ويعبر عن قدرة الشخص على التأثير في مجموعة أخرى والرفع من قدراتها الانتاجية والإبداعية على مستويات مختلفة، هذه المجموعة قد تكون في شكل شخص، مجموعات بشرية، مؤسسات، منظمات وحتى دول. 

يتميز أسلوب القيادة بوجود شخصيات قيادية قادرة على التغيير وتعمل على زيادة نسبة الإدراك، توجيه الأسواق ورفع مستوى كفاءة الهيئات (سواء منظمات أو مؤسسات أو مراكز ...)، وبالأخص أهمية تحمل المسؤوليات، وتطرح نظريات القيادة سمات الشخصية القيادية وتجادل فيما كانت هذه السمات موروثة جينيا أو مكتسبة مع مرور الزمن.

إذا ما كانت السمات القيادية مكتسبة مع مرور الزمن فإن لعامل العلم والتمكين والخبرة وأهمها المسؤولية دورا أساسيا في تفسير ضمان استقرار و/أو نجاح بعض القادة السياسيين في إدارة شؤون الدولة ودفعها نحو التقدم، وفي حالة ما فشل القائد في اكتساب هذه العوامل الأربعة فإن مصيره قد يكون الفشل كقائد للدولة قبل أن يكون فشل سياسيا.

 لو نعود للحالة الفرنسية وحالة الاحتقان الشعبي التي تعيشها الدولة منذ سنة 2018 والرافضة لسياسات ماكرون والتي تعبر عنها نتائج سبر الآراء التي أظهرت تراجع شعبيته خلال سنة 2018 بنسبة 23 بالمائة حسب ما نشره موقع فرانس 24 بعنوان: استطلاع تراجع شعبية الرئيس الفرنسي إلى 23% خلال شهر ديسمبر، كما يمكن دراسة فشل الرئيس الفرنسي بعيدا عن قراراته السياسية إلى تصرفاته كمسؤول أول في البلاد من خلال تصريحاته المثيرة والتي تتسبب في كثير من الأحيان بنتائج وخيمة على الدولة الفرنسية منها التصريحات العنصرية أواخر سنة (2020) والمعادية للإسلام والمسلمين وما نتج عنها من حملة مقاطعات للمنتجات الفرنسية والتي أثرت بدورها على الجانب الاقتصادي للدولة، ليعود الرئيس من جديد ويصرح بأن خطابه قد تم فهمه بشكل خاطئ! 

لم تقدم نظريات العلاقات الدولية تفسيرا لحالة ما إذا تم فهم الرئيس بشكل خاطئ، كما لم تسعى لتبرير سلوك الرئيس الفرنسي الذي فُهم بشكل خاطئ إلا في محاولة سابقة للنظرية السلوكية والتي ركزت على تحليل سلوك الفرد وأثره على قرار الفاعل، و لكن ما يعاب على النظرية أنها قدمت فرضياتها لتفسير الواقع كما هو كائن وليس كما يجب أن يكون كحال بعض نظريات العلاقات الدولية الوضعية (الواقعية والليبرالية). 

من جهة أخرى لو قمنا بإسقاط نظريات العلاقات الدولية على حالة الرئيس الفرنسي لتم تفسيرها مثلا وفق منطلقات النظرية البنائية (أهمية المعايير) باستخدام تقنية تحليل الخطاب، وقد يوسع التحليل ليشمل أكثر من نظرية في حقل العلاقات الدولية، ولو بحثنا وطرحنا سؤال لماذا تم فهم الرئيس الفرنسي بشكل خاطئ؟ لكان الجواب أنه لا يمتلك مهارات التواصل الفعالة والقادرة على التأثير في الآخرين، وليست هذه الحالة الوحيدة للرئيس الفرنسي وإنما يُعرف بأنه يتجنب التعامل مع وسائل الإعلام في كثير من المناسبات سواء بسبب تصريحاته أحيانا أو لمواقفه غير الواضحة تماما التي قد يكون أحد أسبابها فقدان الثقة في النفس أو أكثر من ذلك عدم تحمل مسؤولية تصريحاته.

عدم تحمل المسؤولية وفقدان الثقة في النفس لم تقدم كذلك كفرضيات رئيسة لدى مفكري وباحثي نظريات العلاقات الدولية، وإنما مرده لدراسات النفس البشرية واستراتيجيات النجاح والتأثير، التي يشير إليها بعض الباحثين في مجال التنمية البشرية والإدارة والأعمال وقد تبدو بعض الكتب في هذا المجال كمرجعية لتحليل سلوك القادة وتطويره بشكل يتلاءم مع النشاط السياسي.

 وبالعودة إلى خطاب الرئيس الفرنسي يقول سيمون سنيك Simon Sinek وهو مؤثر ومحاضر ومقدم استشارات في مجال ريادة الأعمال والقيادة والتحفيز بأن القائد الناجح بقدر ما ينتظر الدعم والثناء على إنجازاته فإنه بالضرورة مجبر على تحمل مسؤوليته في حالة ما إذا كان سبب المشكلة. 

 

ويعرف سنيك بمحاضراته وخطاباته حول القيادة وكيف يمكن تقديم نتائج إيجابية إذا ما تمكن القائد من تطوير نفسه وأثر ذلك على البيئة المحيطة به، ومحاضرته الشهيرة على منصة TED سنة 2015 بعنوان كيف يلهم القادة العظماء الناس للتحرك؟ واحتل المرتبة الثالثة في قائمة محاضرات المنصة مع أكثر من 40 مليون مشاهدة عبر العالم، هذا الواقع يفرض علينا التوجه لمعرفة مميزات القادة وكيف توليهم القيادة وإدارة المشاريع والأشخاص ولن نجد هذا التصور في حقل العلاقات الدولية ولا العلوم السياسية ككل. (يطول التحليل في موضوع القيادة وتحتاج بدورها إلى مقال آخر، فقط ينبغي التأكيد على أهمية القيادة في تفسير سلوك بعض الرؤساء وصناع القرار وارتباط المفهوم بحقل العلاقات الدولية).