يقول محمد إقبال شاعر وفيلسوف الإسلام: "أعطني القوة لأقول لا، وأعطني العقل لأعرف كيف أقولها، وأعطني الكفاية لأعرف متى أقولها."
إننا على مشارف لحظة تاريخية فارقة، فيها قد تقصم دورة إخضاع لأمتنا ساحقة، فلن يكون فوز أردوغان بعهدة جديدة مجرد تجديد عهد بمن إنجازاته قد ناطحت السماء، وزاحمت الشمس في الجلاء، بل هو بسط لأجنحة السيادة كي تحلق أمتنا في فضاءات النهضة والريادة، ذلك أن مايحرك أية سياسة عالمية هو ماتملكه من توجهات إيديولوجية، وقد طفا اليوم على سطح الإيديولوجية في تركيا ما طفا على سطح الإيديولوجية العالمية، لنجد أنه في نهاية الانتخابات لن يتحدد الفوز بأحد المتنافسين رجب طيب أردوغان أو كليجدار أوغلو فحسب؛ بل بفوز إما للهوية الإسلامية أم للهوية العلمانية، وبفوز إما للذين هربوا من ويلات حروب أحرقت دولهم، وطغاة تحكموا في رقابهم، فلم يعودوا آمنين في سربهم ولا في مهجرهم، أو بفوز لمن نالوهم بتهديداتهم ممن تشدّقوا فأحسنوا التشدق زيفًا بالحرية والإنسانية.
في انتخابات القرن التركية يمر قرن على معاهدة لوزان التي تم توقيعها في مدينة لوزان السويسرية في 24 يوليو عام 1923 بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وتركيا، هذه المعاهدة التي قامت على أسس نظرية غاية في الأهمية، إذ تمثلت في وضع حدود لتركيا على أسس عرقية بدلا من أسس دينية قامت عليها الدولة العثمانية، وترتب على ذلك تحول كبير في مبادئ الصراع، من رغبة في حماية الدول الإسلامية وضمها إلى رغبة في ضم آسيا الوسطى وأذربيجان وتركستان الشرقية لتكوين تركستان الكبرى على أسس عرقية.
جاء كل ذلك على أنقاض الثورة الأولى في أوروبا وهي الثورة البروتستانتية التي لازالت مخرجاتها تحكم العالم الى اليوم، حيث قامت على أساسين:
الأساس الأول: تقسيم أوروبا المسيحية الموحدة لتصبح أوروبا كاثوليكية وأوروبا بروتستانتية
الأساس الثاني: مركزية اليهود في المذهب البروتستانتي.
فاليهود انضموا إلى الديانة المسيحية وتظاهروا بانتمائهم إلى التوراة لأن الإنجيل فيه تحريف كبير ومن مبادئه إنشاء وطن لليهود في فلسطين لينزل المسيح عليه السلام، وهذا لم يكن في المذهب النصراني إنما أدخلوه للمذهب البروتستانتي، وقد اضطهد البروتستانت فانتقلوا إلى إنجلترا ثم اضطهدوا أكثر فذهبوا إلى أمريكا، ولهذا فأمريكا دومًا مساندة للاحتلال الإسرائيلي.
وأما الكاثوليك فيقولون إن اليهود هم من قتلوا المسيح عيسى عليه السلام.
على هذه القواعد الإيديولوجية هدم صرح الخلافة العثمانية وقامت دولة تركية على أسس قومية، ولإعادة بناء ذلك الصرح العظيم ماعلينا سوى إعادة بناء قواعده الإيديولوجية.
وإننا نرى في حزب العدالة والتنمية بذور غراسها، فلأول مرة منذ انهيار الدولة العثمانية، قام هذا الحزب بإخضاع الأحزاب والمؤسسات العلمانية المسيطرة في تركيا، وصار هو الحزب الذي لم تعد له كبير معارضة سياسية، رغم رغبته في التوجه نحو العالم الإسلامي، فبعد أن فشلت تركيا في الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، ومع انطلاق الثورات العربية تبنت رؤية الشعوب العربية في ضرورة تغيير أنظمة الحكم، بهدف تمكين التيارات السياسية الإسلامية كالإخوان المسلمين من السلطة.
وهذا ما أعلنه صراحة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكتوبر 2018 حين قال: "تركيا هي الدولة الوحيدة التي تصلح لزعامة العالم الإسلامي"
فصارت تركيا تلعب أدوارا دبلوماسية للوساطة في الخلافات البينية بين الدول الإسلامية، وإن يرى البعض اليوم أن سياسة أردوغان بتصفير العلاقات والانفتاح على الجميع نأى به بعيدا، وألحقه بقطيع التطبيع. في حين أردوغان تبنى مبدأ البراغماتية التي لاتحقق للأعداء غاية، وترى أن الانحناء أمام العواصف ذكاء، والبحث عن ثغرات للنجاة من المحاصرة والضغوط خيرًا من السقوط.
فالانتماء الهوياتي للإسلام هو مكابدة وجودية وحركة استيعابية، توجه بوصلتها قِبَل المشرق والمغرب بخطاب "يا أيها الناس"بكل ما تحمله من قيم روحية إنسانية.
فلقد بات العالم الإسلامي اليوم مرتعا يرتع فيه الظلم والقهر والاستبداد، والبشر فيه قبل رب العباد يقيمون يومًا للحساب، فُيدخِلون الجحيم كل من ليس لهم قد أناب، وصارت الحرية الفكرية حقًا مسلوبًا، والجبرية واجبًا مطلوبًا، وكأن أسواق النخاسة وتجارة الرقيق تعود بكتم الأصوات وجهر المتملقين بالتصفيق، فإذا كان الإصلاح فكرًا غير مباح فقد كرُبَت أنوار الفهم، ولم يعد من المهم اكتناز الرؤوس للعلم،و سيكون الجهل هو الفلك الذي تدور حوله العقول لتذبل ثم تزول.
فإن كانت الديانات السماوية والبروتوكولات الدولية ترى أنّ حرية التعبير حق مشروع فإن الدين الإسلامي - وهو عقيدة هذه الأمة - قد كانت فيه الديمقراطية كما تدعوها الدول العلمانية مكرّسة في الحكام كما في الرعية، بل واعتبرت الحرية بمثابة الحياة، والرق - ولأنه ضد الحرية - بمثابة الموت، يقول عز وجل: “ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة” فقد ورد في بعض التفاسير لتلك الآية الكريمة أنّ القاتل حين أخرج نفسًا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل أخرى في جملة الأحرار، فكأنّ إطلاقها من قيد الرق هو كإحيائها، فالرقيق ملحَق بالأموات.
إن المشروع الديمقراطي في الإسلام كما يقول المفكر مالك بن نبي في كتابه “القضايا الكبرى”: "هو مشروع تفرزه الممارسة، وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يحيط به".
ولأنّ النماذج الديمقراطية المختلفة بين نماذج أثينا قبل 3000 سنة وتلك الغربية في أوروبا أو الشعبية في الشرق، وحتى الجديدة في الصين، بكل خلفياتها التاريخية والإيديولوجية لا يمكن إسقاطها على النظم العربية، فقد بات لزامًا البحث عن بديل يولَد من رحم الدول الإسلامية لنؤسّس مشروعنا الديمقراطي المستقل.
غير أنّ البذور الأولى لهذا المشروع قد تبدّت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين، حيث إنه عليه الصلاة والسلام يضع لبنات الديمقراطية الحقيقية التي تكرّم الإنسان كانتماء بشري من دون أي نزعة فوقية.
فقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حجة الوداع: "يا أيها الناس إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا التقوى".
فهذا الحديث الشريف يبيّن منهج الإنسان في المشروع الديمقراطي الإسلامي، كما أن هذا الدين الحنيف لم يغفل في تبيين حدود الديمقراطية بين الحاكم والرعية، فبيّن عز وجل ذلك في قوله: "يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر".
فهو نص قرآني يقرّر امتيازات الحكم، إنما جعل لذلك أطرًا تتجلى في كل من امتلكوا ناصية الفهم والعلم لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كالخلفاء الراشدين، فهذا عمر بن الخطاب يوم استلامه للخلافة ومقاليد الحكم راح يبيّن للرعية حدود هذه الطاعة في خطبته، فقال قولته المشهورة: "من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقومني".
كما أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ بآراء الصحابة ومشورتهم، فكما روي عنه - على سبيل المثال لا الحصر - أنه حين حدّد مكان غزوة بدر قام صحابي فاقترح مكانًا بديلًا، فما كان منه عليه أفضل الصلاة والسلام إلا أن أخذ برأيه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، فتحقق فيهم قوله عز وجل: "وأمرهم شورى بينهم".
فالمشروع الديمقراطي الذي تطمح إليه الدول الإسلامية هو مشروع يكون فيه الحاكم هو الهيئة التنفيدية، والرعية أو الشعب هم الهيئة التشريعية، ليكون التكامل الذي تتحقق به غايات اجتماع الرأي السديد بالحكم الرشيد، وهو تصور ينبغي أن ترومه الدول الإسلامية، ولذلك فمطلب هذه الأمة لأجل الرقي والتغيير هو حرية الفكر والتعبير.
فكم تتوق أرواح المسلمين إلى أمجاد الأولين حيث الخلافة الإسلامية الرشيدة، العزة والتمكين.
يقول الشاعر :
نزعنا السرج عن ظهر تعالا ** بعزة أمة كانت مثالا
بها التاريخ سل المجد سيفا ** ﻷجيال تعشقت النضالا
فلا الفرسان ملوا من جهاد**ولا الرايات ملتهم رجالا
سقى الله الزمان جزيل خير**بما بالخير فانا الوصالا
كنا في ملوك الأرض شعبا**ﻷجل الحق نقتلع الجبالا