في مشهد المعركة الأخير، ظهر الشهيد بإذن الله يحيى السنوار جالسًا على كرسي مولّيًا ظهره للمسيّرة التي كانت خلفه. كان مصابًا، متسربلًا في دمائه، لكنه ظل مقاتلًا شرسًا. حاول إطلاق النار على المسيرة التي كانت تطارده، ثم انقطع المشهد، لكنه كان كافيًا لنفهم أنه مات وهو يزرع فسيلته الأخيرة لتنبت عزةً وشموخًا بعده.
فسيلة المقاومة والإباء حتى النفس الأخير، والرمق الأخير. لقد أعاد تعريف البطولة من جديد، ليصفع كل جبان، وكل خائر العزيمة، وكل خائف رعديد. كانت خطبته الأخيرة بدمائه رسالة للجميع: “عشت في ميادين الوغى عامًا كاملًا أقاتل مع المقاتلين وأشتبك في الصفوف الأولى، بينما الجميع يبحث عني بأجهزتهم وطائراتهم وجواسيسهم ومسيراتهم وجيوشهم، ولم يصلوا إليّ! هل لأني عبقري فذ؟! أم لأني ساحر أجيد التخفي؟!”.
لن يصلوا إليك
الإجابة في مشهد قصة لوط وقومه. في المشهد الأخير، كانت الملائكة في ضيافة سيدنا لوط عليه السلام، والجماهير الظالمة الفاجرة تحيط بالبيت من كل مكان. أصواتهم ترتفع وضجيج شياطينهم يملأ المكان. كان سيدنا لوط خائفًا على ضيوفه وبناته من أن يقتحموا المكان. الأبواب تُقرع، والضجيج يعلو، والخوف يحيط بالأسرة المؤمنة، إلا زوجته العاصية. لكن ضيوفه يبتسمون له في هدوء قائلين: “إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ” (هود: 81)، فقط بهذه البساطة. اطمئن، لا مسيّرات، ولا طائرات، ولا أجهزة تجسس، ولا كاميرات مراقبة، ولا أي شيء في الكون سيغير ما قرره الله. “لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ”.
تلك هي الحقيقة في أبسط معانيها. خرج سيدنا لوط مع بناته كما أمره الله، وترك قومه يلاقون مصيرهم المحتوم الذي لم يتأخر عليهم.
لن يصلوا إليك
في نفس الفترة الزمنية، كان خليل الرحمن وأبو الأنبياء، إبراهيم عليه السلام، يعيش قصته الأخرى. فقد اجتمع قومه للتخلص منه، لكن لأسباب مختلفة هذه المرة، لأنه حطم أصنامهم وكسر كبرياءهم. أشعلوا نارًا عظيمة لإلقائه فيها، ومن شدة حرارتها لم يتمكنوا من الاقتراب منها فألقوه بالمنجنيق، كما يقول المفسرون. لكن انتظر! هذه المرة لم يقل له ملك “لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ”! لقد وصلوا إليه بالفعل وألقوه في النار، ولكن الله جعل سبب الإحراق بردًا وسلامًا عليه.
هكذا، بمنتهى البساطة، نبيّان معاصران يختار الله لأحدهما ألا يصلوا إليه، والآخر يصلون إليه وينجيه كذلك. فتختفي الأسباب والمسببات، ولا يبقى إلا رب الأرض والسموات، يخلق ما يشاء ويختار، ينجي بالسبب وبلا سبب وبضد السبب. “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” (الأنبياء: 23).
الوصول إلى النبي يحيى
مع نبي ثالث، يحيى عليه السلام، يختار الله أن يصلوا إليه، ويختار له أن يموت وتقطع رأسه وتلقى تحت أقدام بغي من بني إسرائيل. لماذا؟ لا توجد “لماذا” مع الله، فهو وحده من يختار: “وَمَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ” القصص: 68.
لقد عاش السنوار عامًا كاملًا يقاتل ويتعرض للموت عشرات المرات. حتى قبل العدوان الأخير كان معرضًا للاغتيال مرات عديدة. بل صورته الشهيرة على الكرسي في أحد شوارع غزة كملك متوّج، واضعًا ساقًا على ساق، كانت جلسة يتحدى بها الجميع أن يقتلوه، ولم يفعلوا.
الخوف.. أكل قلوبنا
وفي المقابل، نرى كثيرًا من شعوبنا، بل حتى من نخبنا من علماء ومفكرين وكتّاب وأكاديميين ومؤثرين، يخشون بطش سلطان أو انقطاع رزق قد كتبه الله في اللوح المحفوظ منذ قديم الأزل. لقد أكل الخوف قلوبهم، ورضوا بالدون. ولو أدركوا بقلوبهم وعقولهم أن الله وحده من يقرر النهاية، لما تخاذلوا عن نصرة غزة وفلسطين.
لقد مات السنوار رافعًا رأسه، بينما عشنا نحن منكسي الرؤوس ضعفًا وخذلانًا وتبلدًا. فإذا أردتم لأنفسكم ودينكم وأمتكم عزًا ونصرًا، فتحققوا بقلوبكم أن الله وحده من يقرر: “لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ” أو يصلوا إليك. إنه الله أيّها السادة، جبار السماوات والأرض.