أهم خمس أفكار طرحها المفكر الجزائري مالك بن نبي هي: فكرة (علاقة الحق بالواجب) و(المعرفة التاريخية) (نهاية القوة) و(عالم الأفكار والأشياء) و(القابلية للاستعمار). 

فهو يرى أن من يقوم بواجبه تنشق له السماء ويأتيه حقه، فالحقوق لا تؤخذ ولا تعطى بل هي ثمرة طبيعية للقيام بالواجب، وهو أول ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه، وكانوا رضوان الله عليهم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، وأن الحركات السياسية ضللت الشعوب بمنطق سقيم بالمطالبة بالحقوق، وأن ثلاث معادلات تحكم علاقات الواجبات والحقوق، ففي التساوي يحافظ المجتمع على خط السواء، وفي حال فائض الواجبات يحلق ويصعد، وهو ما رأيناه في المجتمع الألماني، وعندما تزداد وتيرة المطالبة بالحقوق يكب المجتمع على وجهه في ليل التاريخ.

وعن (المعرفة التاريخية) حلل بن نبي حركة المجتمع الإسلامي، أنه في دورة ذات أربع مراحل: الروح والعقل والغريزة والانبعاث. وأنه توقف مع معركة صفين عام (32هـ / 653م) فكانت أعظم من معركة عسكرية، حيث تزحزح مفهوم القيم في المجتمع الإسلامي كما عبر عنها (عقيل ابن أبي طالب) أن صلاته خلف علي أقوم لدينه، وأن تعاونه مع معاوية أنفع لمعاشه، وكان هذا إيذانا بانشقاق الضمير الإسلامي بين الواقع والمثال، وكل ذيول هذه الكارثة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم بتعانق الجبت والطاغوت.

قال بن نبي ثم كانت(لحظة) ابن خلدون حيث انكسر مخطط الحضارة الإسلامية حتى انطفأت. ولذا فهو كتب كل شيء وفسر كل شيء في نقطة الانبعاث الحضارية، بما فيها الغناء والموسيقى، حينما سئل عن الحرام والحلال فيها فقال: أنا أنظر للمسألة من زاوية الحضارة؛ فحين تنحط الحضارة تخرج نغما سقيما، وحين تنهض الروح يخرج اللحن أعذب ما يكون.

وفي هذه النقطة اشتبك مع الأصوليين الذين ينفون سمة الحضارة عن أي مجتمع ما لم يكن إسلامياً، وهو ما تورط فيه (سيد قطب) حينما خرج بكتاب له بعنوان نحو حضارة إسلامية. ثم غيّر العنوان إلى نحو مجتمع إسلامي، وقال في تبرير التغيير إن كلمة إسلامي تعني تلقائيا الحضارة، مما دفع مالك بن نبي للتعليق عليها: أنها آليات غير ذكية للتعويض النفسي.

وأبدع الرجل في فهمه أن القوة ألغت القوة وعلى نحو مبكر، وهو الذي وصلت إليه أوروبا بعد أن جربت كل أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية وأعلنت العودة للإنسان بدون قوة، وهو ما نراه في الاتحاد الأوروبي وتوقف الحروب في الشمال، وبقائها حيث العبودية للقوة كما هو في العالم العربي، والعراق لم يتغير فيه شيء ولم يتحرر بل استبدل صدام المصدوم بألف صدام حتى حين، كما ترك إبراهيم كبيرهم لعلهم إليه يرجعون. والتحرر داخلي، وهو درس يجب أن تفهمه الشعوب العربية من مصرع صدام وأشباهه، ولكن فهم هذا الشيء أصعب من قطع الأنف بالمنشار بدون تخدير. 

ويصاب الإنسان بالصدمة حين يعلم أن العرب أنفقوا في نصف القرن الماضي على شراء أسلحة نصف تريليون دولار، وكيف استمرت الحرب بين إيران والعراق لمدة أطول من الحرب العالمية الثانية؟، فهذه الحرب لم يشهدها مالك بن نبي، ولكن شهد حرب 1967م. وهذا الذي جعله يقول: "يخطئ المسلم في تقديره عندما يعتقد أن الذي ينقصه هو الصاروخ أو على الأقل البندقية ويتوهم أن هذا هو واجبه العاجل إلى أن يقول: وسنظل نكرر ونلح في تكرارنا أن أزمة العالم الإسلامي ليست أزمة وسائل وإنما أزمة أفكار".

وطالما لم يدرك العالم الإسلامي هذه الحقيقة إدراكاً واضحاً فسيظل داؤه عضالاً، واليابان وألمانيا انهزمتا بالحرب وفقدتا عالم أشيائهما، ولكن عالم أفكارهما خلصهما من أن يكونا قابلين للاستعمار، وهذا السحر -سحر الصواريخ والرؤوس النووية- لم يؤثر في اليابان، وهو الذي يستهوينا، ولم ينقذ الاتحاد السوفيتي من الانهيار، الذي كان يملك من الأسلحة النووية ما يدمر العالم كله عدة مرات، وسقط صريع الجنب من غير أن يأتي عدو يغزوه.

والله يقول "ألم تر كيف فعل ربك بعاد"؟، ويمكن أن نقول نحن: ألم تر كيف فعل ربك بهتلر، ونابليون، وشاه إيران، والاتحاد السوفيتي، فهذه الأحداث الجديدة أكبر من الأحداث القديمة قبل نزول القرآن.

فهنا نحن أمام شيء جديد في تاريخ الإنسانية، ولم يحدث مثل الاتحاد الأوربي من قبل، صحيح وجدت إمبراطوريات أوسع، حيث كان البحر المتوسط بحيرة رومانية، ولكن لم يكن على كلمة سواء بينهم، وإنّما كانوا يجدون لذة وسعادة وهم يشاهدون على مدرجاتهم الرومانية كيف يصارع الأسرى البؤساء السباع والضواري؛ فيسعدون برؤية هذا المشهد المأساوي. ولكنهم اليوم يلغون حكم الإعدام، وسيصل الناس إلى إعادة تأهيل الإنسان من جديد، فهو لم يخرج من بطن أمه يحمل أفكاراً، وإنما يخرج من بطن أمه يحمل استعدادا للفجور والتقوى!

 

وفي عالم الأفكار قال إن العالم الثالث ما يحتاجه ليس المادة بل الأفكار وهي فكرة فهمناها مع دخول عصر المعلومات بعد العصر الصناعي وهي التي أشار لها (الفين توفلر) أيضا في آخر مؤلف له، عن النقلة النوعية الجدية في مسير الجنس البشري. وفي فكرته الإبداعية عن (القابلية للاستعمار) صب في نفس قناة الآية القرآنية عن معنى الظلم، وكيف يقع؟ وفي مواجهة الاستعمار الذي وقعت في شبكته معظم دول العالم العربي لم يوجه اللوم بالدرجة الأولى إلى الاستعمار بل القابلية للاستعمار عند الشعوب.

كان آباؤنا يقتلون خلية النحل ليأخذوا العسل. ولكن الإنسان الذي سخر له ما في السماوات وما في الأرض تعلم أن يمسك بالبرق الذي كان صاعقة وينزلها بأمان، ويستخدمها استخدامات لا نهائية كما نعرف في الكهرباء، وتعلم الكثير من قانون الأفلاك، فوضع أقماراً صناعية سريعة وبطيئة تخدم في التواصل. وعلينا أن نكشف قوانين الأفلاك، وقوانين المجتمعات.

إن قوانين الأجرام في الأفلاك ثابتة، وقوانين الجذب والطرد هي التي تحمي الأجرام من التهاوي أو الانفلات، وهذا النظام البديع يقوم على تساوي الجذب والطرد. كذلك قوانين المجتمعات في إبقائها دون التهاوي والانفلات.

كان مالك بن نبي خزان هائل للطاقة الفكرية ولكن لم يستفد الفكر العربي منه حتى الآن تحت نفس آلية القابلية التي تكلم عنها الرجل. وعندما رأيته للمرة الأولى في دمشق شدني إليه عقله المنظم، وكيف يستخدم تعبيراته برشاقة هندسية، وأحياناً يقف ويسحب كلمة مما تحدث بها ثم يضع مكانها الكلمة المناسبة تماماً كمثل من يبني بناية فيتقن وضع الأسس وينتهي بالقطع الجمالية والديكور المناسب.

ولكن هل نستوعب مثل هذا الزخم الفكري؟

قابل مالك بن نبي جودت سعيد فاستغرب من لباسه وما عمم به رأسه؟ قال له جودت سعيد: إنك سيدي تذكر في أحد كتبك أنك اجتمعت برجل في مصر يلبس الطربوش التركي، فقلت عنه إن الحضارة دخلت من قدميه ولم تصل بعد إلى رأسه، وأنا كذلك؟