معلوم أن الله يفرض العبادات على عباده من أجل مقاصد دنيوية وأخروية، علمنا بعضها وغاب عنا البعض الاخر، ومع انشغال الناس بهذه العبادات زمانا ومكانا بل وجماعات وإرثا، فقد أضحت عند الكثير منهم مجرد عادات يومية أو سنوية أو مكانية. 

ولذلك فلا ضير حين نرى مؤمنين يقومون بالعبادات ويحرصون عليها كل الحرص، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. 

إن المقام مقام شهر فضيل؛ شهر الصيام؛ شهر رمضان، يدفع إلى التوقف وقفات تأملية في بعض التصرفات التي ترشح في المجتمع الرمضاني إن صح هذا الإطلاق.

إن نزولا إلى شوارع المسلمين وإداراتهم وباقي أماكن تواجدهم تطلعك على كثير من التصرفات التي يقف أمامها المراقب حائرا؛ فكلنا لا شك سمع قولهم (سآخذ عطلتي في رمضان) أو قول الآخر (ابتعد عني إني صائم) بل نعرف أشخاصا يقضون يومهم أغلبه في النوم.

لقد أضحى رمضان في مجتمعنا علامة على الكسل، بل يتعطل فيه الإنتاج في كثير من الشركات والإدارات التي تقدم خدمات عمومية أو خاصة للناس؛ فكلما زار الشخص إحداها وجدها موصدة مقفلة أبوابها، وإن وجد موظفا أو موظفين فلن ينال بغيته إلا بشق الأنفس... وأغلبهم متحجج بشهر الصيام الذي عطلوا مقاصده قصدا أو عن غير قصد.

هذا جانب من كشف حال كثير من أفراد الأمة في رمضان. فهل هكذا فرض رمضان؟

ما هكذا فرض رمضان!!

ما فرض رمضان لكي نقضي اليوم أغلبه في النوم؛ ألم يعلم هذا النائم أنه ضيع الصلوات؟ ألم يعلم أنها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا؟ ألم يعلم أن الله جعل النهار معاشا في الأصل والليل سباتا إلا من بعض الأعمال التي لابد منها فيه، كقيام ليل، أو طلب علم، أو حراسة ثغر… ألم يعلم هذا النائم نهارا أنه يغير سنن الله في الكون؟ وبذلك يحيق الضرر به وبغيره.

ما فرض رمضان كي نعلق كسلنا عليه؛ فقد تناهى إلى أسماع أغلبنا "أنا صائم" حين تكلف أحدهم بمهمة كان يقوم بها بشكل عاد خارج رمضان، قصده بتلك الجملة خفف عني في هذا الشهر فلا أقوى على ذلك، ولم يعلم أن ذلك التعب الذي يسري في عروقه في رمضان مرده في الغالب إلى الجانب النفسي، والعادات القولية السيئة التي تشبعناها في هذا الشهر الفضيل. 

ما فرض رمضان كي نعطل الإنتاج؛ بل الأصل أن يزداد الإنتاج نظرا لعدم انشغال الإنسان بالأكل والشرب في نهاره؛ ما فرض رمضان لتخفيف ساعات العمل وتعطيل الإنتاج؛ ألم يكن تاريخنا الإسلامي حافلا بالعطاء والأحداث الكبرى خصوصا في رمضان، وما غزوة بدر الكبرى عنا ببعيد.

ما فرض رمضان كي نأخذ الإجازة فيه وننعم بالراحة؛ وقد سمعنا مرارا وتكرارا هذا عمال بعض الشركات والأعمال الحرة الخاصة؛ يقول إجازتي/ عطلتي في شهر رمضان أو جزء منه. لو كل الناس أخذت إجازة في رمضان بدعوى التفرغ للعبادة بمعناها الضيق لتعطلت مصالح الأنام، بل العبادات ومنها الصيام فرضت لتحقيق العبودية لله رأسا ثم تحقيق مقاصد إعمار الأرض والاستخلاف فيها ثانيا؛ فعلى سبيل المثال؛ لماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر كرما وجودا في رمضان؟ كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» (1) أليس لتحقيق مصالح العباد؟ لماذا يحث على إفطار الصائم ويجعل له ثوابا عظيما، ويدعو إلى البذل والعطاء فيه؛ كما في حديث: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا، أَوْ جَهَّزَ حَاجًّا، أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْر أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ"، أليس من باب تحقيق مصالح العباد وخدمتهم؟ 

 

ما فرض رمضان كي نتسابق على المأكولات والمشروبات نكدسها...

ما فرض رمضان كي نبذر، وإنما رمضان رغم كونه شهر الكرم والجود؛ إلا أن ثمة فاصلا بين الكرم والجود والتبذير في هذا الشهر الفضيل، فاقتناء المقتنيات التي تفوق حاجة الإنسان والتهافت عليها قبيل رمضان بشكل كبير، يحدث مشكلة اقتصادية، إذ يكثر الطلب على بضائع بعينها كالطماطم، فيفوق العرض الطلب فيرتفع ثمنها، فلا يجد الصائم المسكين يدا لشرائها، رغم توفرها، فذنب هذا الفقير النبيل الذي يسارع الزمن والمكان لتوفير لقمة عيش له ولمن يعول ذنب راجع إلى هؤلاء الذي يقتنون بضائع من أجل الادخار لرمضان. والحق الذي أدين الله به، أني لا أدخر عادة شيئا لرمضان، وهذا هو الأصل. لو وصلنا استهلاكنا المعهود قبل رمضان، لما تركنا فرصة للمضاربين ليتلاعبوا بالأسعار فيه. 

فلنتبّه إلى مثل هذه التصرفات التي تبدو غير ذات شأن، ولكنها ذات بال كبير، فكثرة الطلب في رمضان قد تستدعي أيضا استنزاف المخزون والاضطرار إلى الاستيراد الخارجي وهو ما يزيد من إثقال ميزانية الدولة وإغناء الأغنياء وإفقار الفقراء. فلا تكن بتصرفاتك الساذجة البسيطة عونا لأولئك على هؤلاء. بل من مقاصد الصيام في هذا المجال إذاقة الغني من فقر الفقير، كي يرق لحاله ويعطف عليه طيلة الشهر الفضيل، وبعده.

نعم، النفس تحب جيد الطعام وشهيه بعد ساعات من الصيام، وهذا من حقها، فبين يدينا الحديث: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ" (2) فجعل الأكل من حق النفس وأباحه لها… لكن لا بد من ضابط عدم التبذير أو تكديس الحاجات حتى يحدث ذلك الرواج الاقتصادي المرتبك ...

ما فرض رمضان كي نعتبر التراويح رياضة لتخفيف الثقل الناجم عن كثرة الأكل (الحريرة)... فقد خسر من جاء المسجد قاصدا التخفيف عن النفس من كثرة الأكل، وإنما شرعت التراويح لقيام الليل وإحيائه بعبادتين جليلتين: الصلاة والقراءة القرآن. فالمؤمن يقوم رمضان إيمانا واحتسابا؛ كما في الحديث: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (3). فلنجدد النية ولنعقد العزم على إحياء صلاة التراويح من أجل هذه الجائزة العظيمة لا من أجل إراحة المعدة بحركات يحسبها البعض رياضة. نعم لا قد نشك في أن هذه الحركات الخاصة بالصلاة ذات مفعول رياضي كبير كما أثبتت ذلك بعض الدراسات، لكن هذا المقصد مقصد تبعي وليس أصلي، فلنتنبه.

 

ما فرض رمضان كي يزداد غضبنا خصوصا أولئك الذين ابتلوا بالتدخين وتعاطي أنواع المخدرات، ما إن تكلم أحدهم حتى ينتفض في وجهك بحجة أنه (مقطوع) أو (مرمضن) بعبارة المغاربة. بل فرض لتغيير هذه العادات والمعاصي إلى عادات حسنة؛ فكيف استطعت أن تقضي اليوم كله دون تعاطيها ولم تستطع بعد أن تتخذ أيام رمضان حافزا نفسيا لكي تتغلب عليها. أليس في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموطأ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِماً، فَلاَ يَرْفَثْ، وَلاَ يَجْهَلْ. فَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ، أَوْ شَاتَمَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» (4). فالصوم يمرن الإنسان على إلجام نفسه عما لا ينبغي، في أفق قيادتها إلى فلاح دنيوي ثم أخروي.

ما فرض رمضان لإتعاب النساء في الطبخ والغسيل وإنما لعبادة الله حق عبادته... فإن كان ولابد، فلابد من التعاون على هذا العمل كي يبقى لهن نصيب من الوقت يخصصنه للعبادة والقيام. وهذا من هدي النبي خراج رمضان فكيف به داخل رمضان، فعائشة رضي الله عنها لما سئلت عن حال النبي في بيته، قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ» (5). ولذلك ليس عيبا أن يساعد الذكور النساء في هذه الأمور، بل قرأت عند أحدهم أن مساعدة الوالدة في مثل هذا داخل في البر بالوالدين. فيكفي إذن من الطعام ما يسد الجوعة، ويشد العود ويسكن النفس.

ما فرض رمضان لكي نصطف طوابير أمام المستشفيات والمصحات وعيادات الأطباء؛ فهذا والله شيء يحزن المتتبع، ترى طلبات الاستشفاء والاستشارات الطبية ترتفع ارتفاعا صاروخيا بدخول رمضان أو أحيانا باقترابه. وذلك مرده في الغالب إلى كثير من العادات الغذائية الخاطئة أثناء الإفطار أو السحور، وهدي النبي في ابتداء فطره معروف، وقد أثبت الطب قديما وحديثا فعالية البدء بالتمر والماء في الإفطار… بل عنون علماؤنا قديما بعض أبواب كتبهم بتوجيهات رمضانية صحية منتقاة من هدي النبوة، مثل صنيع ابن خزيمة: "بَاب اسْتِحْبَاب الْفِطْرِ عَلَى الْمَاءِ إِذَا أَعْوَزَ الصَّائِمَ الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا"، فالآلام والأمراض بتفريط الإنسان لا بسبب الصيام. والحديث النبوي المشهور يصدق ذلك: "الصوم جنة" (6).

فرض رمضان للشعور بحال الفقير...

فرض رمضان لتحقيق التقوى.

فرض رمضان لشكر الله على نعمه.

وهكذا فشهر رمضان شهر بذل وعطاء، شهر إيمان وعبادة، شهر سمو ورفعة، شهر صحة وعافية، شهر إنتاج ونماء، شهر صفاء وسعادة، شهر كل فضيلة، وعدو كل رذيلة. 

وخير ما يجف عليه القلم قول نبينا عليه الصلاة والسلام: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (7)