الثورة الصناعية الرابعة تعني الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا في عمليات التصنيع وتفعيل "إنترنت الأشياء" و"الحوسبة السحابية" و"الذكاء الاصطناعي" والروبوت للتحول إلى ما يسمى "المصنع الذكي".

لقد كانت الثورة الصناعية الأولى تعتمد على بخار الماء والكيمياويات في توليد الطاقة، أما الثورة الصناعية الثانية فكان أساسها استخدام الكهرباء والفولاذ والاتصالات بعيدة المدى، والثورة الصناعية الثالثة هي التي شهدت الحواسيب الأولى والهواتف النقالة والإنترنت، أما هذه الثورة فهي تركز على تحويل الآلة إلى آلة ذكية يمكنها التوقع أو التنبؤ أو اتخاذ القرار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والتعلم العميق والشبكات الاصطناعية وعلم البيانات، مما سيمكن الآلة من القيام بدور الإنسان في كثير من الحالات وإلى التداخل بين الإنسان والآلة في العمليات مثل تقنيات التداخل بين دماغ الإنسان والحاسوب أو الروبوت أو الماكنة. ويمكننا اعتبار أي ابتكار لم يكن موجوداً خلال الثورة الصناعية الثالثة هو مما يصنف تحت إطار الثورة الصناعية الرابعة مثل التعديل الجيني والطباعة ثلاثية الأبعاد، والمواد الجديدة مثل الجرافين والمايكرولاتس والنانوتكنولوجي، بالإضافة لتقنيات تخزين البيانات وتحويل الأموال مثل البلوكتشين. 

ستنقل هذه الثورة العالم إلى حقبة مختلفة مثلما فعلت من قبلها الكهرباء والإلكترونيات، وسنشهد طفرة كبيرة في العالم من حولنا.

 تكمن أهمية الثورة الصناعية الرابعة لدولنا بأنها ستمثل عصب الاقتصاد في المستقبل حيث لن يكون للنفط الثقل الاقتصادي كما هو معروف الآن، مما يعرض اقتصادات الدول النفطية لصدمة واضحة إن لم يتم اعتماد استراتيجية سريعة للدخول بقوة في الثورة الصناعية الرابعة؛ وإن كانت بعض الدول الإسلامية بدأت بالفعل التوجه نحو اعتماد التكنولوجيا وخاصة الدول الخليجية، إلا أننا لم ندخل حتى الآن في مرحلة الابتكار التكنولوجي بفاعلية. وهذا ما يتطلب مهارات جديدة ومناهج دراسية متطورة وثقافة تعليمية مختلفة. 

لا تكمن أهمية اعتماد الثورة الصناعية الرابعة في العوامل الاقتصادية فحسب، بل من شأنها تقليل الفجوة الحضارية التي تعيشها الدول الإسلامية غالباً بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة، وبعكس ذلك فإن الفجوة الحضارية في المستقبل ستزداد أضعافاً مضاعفة إن لم يتم الدخول في عصر الثورة الرابعة بقوة؛ على سبيل المثال، حين تتمكن تقنيات الذكاء الاصطناعي من اكتشاف الأمراض ومعالجتها من خلال الجينات الوراثية حتى قبل حدوثها فإن ذلك يعني أن معدل عمر الإنسان في الدول التكنولوجية سيبلغ حسب التقديرات (150) عاماً، وسيبقى عمر الإنسان في الدول النامية مابين (60-70) عاماً؛ وهذا وحده مؤشر خطير على الفجوة الحضارية التي ستزداد اتساعا إن لم يتم اتخاذ الأمر على محمل الجد.

الإيجابيات..

من الإيجابيات أن "الثورة الصناعية الرابعة" توفر فرصاً واسعة للمجتمعات البشرية كي تحقق معدلات عالية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية عموماً، بتخفيضها لتكاليف الإنتاج، وبالتالي تأمين خدمات ووسائل نقل واتصال تجمع بين الكفاءة العالية وثمن أقل… ومن الإيجابيات الأخرى أيضاً المساهمة في رعاية صحية أفضل للإنسان حيث ويستفيد أكثر من 350 مليون مريض في جميع أنحاء العالم من الأدوية المصنعة بالتكنولوجيا الحيوية. حيث تمثل التكنولوجيا الحيوية في مجال الرعاية الصحية أكثر من (50 ٪) من جميع الأدوية. ويقود هذا العمل الكبير في مجال الرعاية الصحية الحيوية أكثر من (1700) شركة تبلغ قيمتها السوقية أكثر من (17) بليون يورو في أوروبا وحدها. ستساهم الثورة في تقليل الجهد الذي يقوم به البشر وفي زيادة قدرات البشر العقلية وزيادة متوسط أعمارهم وتسهيل حصولهم على الخدمات المختلفة. ومن مظاهرها أيضا استبدال الوقود الأحفوري بوقود أكثر استدامة وحفاظا على البيئة. وزيادة كمية المواد الغذائية وتضمينها قيمة غذائية أفضل.

التحديات..

بحسب شركة ماكينزي الاستشارية فإن نصف الأعمال المقامة حالياً يمكن استبدالها بأعمال تقوم بها المكائن الذكية مما يعني توفير (16) تريليون دولار من الرواتب التي يتم دفعها حالياً. وهذا يعني أن ما يقارب نصف العمال سيفقدون وظائفهم التقليدية مما يؤدي إلى تضاعف نسب البطالة بشكل ملحوظ، وسيؤدي ذلك أيضا إلى زيادة الفارق الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وبين العمال الذين يمتلكون المهارات المناسبة وأولئك الذين يفتقرون لها. لكنها في نفس الوقت ستخلق مئات الآلاف من الوظائف في مجال الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات و الأمن السيبراني والتجارة الإلكترونية والروبوتات.

ولكي تنجح الثورة الصناعية فإنها تشترط إعادة هيكلة اقتصادية شاملة، تلحق بها بالضرورة هيكلة اجتماعية وسياسية، وذلك تتطلب بنية اقتصادية واجتماعية وسياسية متطورة، بما يتواءم مع المضمون الجديد. إضافة إلى أن أكثر التحديات التي تواجهها الشركات حول القضايا الداخلية مثل الثقافة، والتنظيم، والقيادة، والمهارات.

أهم مظاهر الثورة الصناعية الرابعة:
  • إنترنت الأشياء: حيث يتم ربط الأجهزة المختلفة بالإنترنت كأجهزة التكييف والثلاجات والغسالات والمصابيح والستائر والأبواب وغيرها من الأجهزة المختلفة، حيث يصبح لكل جهاز عنوان محدد يتواصل به مع الأشخاص المعنيين، فيمكن للمصابيح أن تفتح تلقائياً بمجرد الدخول للمنزل وتغلق بمجر الخروج أو النوم، ويمكن للثلاجة أن ترسل تنبيها لصاحبها بنقص مادة معينة عن طريق إرسال رسالة على تطيبق على الجوال، بل حتى أن يتواصل جهاز مع جهاز آخر من دون تدخل الإنسان فمثلاً ترسل ثلاجة المنزل إشارة إلى هاتفك عن المحتويات المطلوبة والتي تم نفاذها، ثم يرسل هاتفك مباشرة رسالة إلى السوبر ماركت الذي سيمكنه من إرسال الطلبية لمنزلك تلقائياً من غير تدخلك، ومن الأمثلة الأخرى، حلول النقل الذكيّة لتسريع تدفق حركة المرور، مما يؤدي إلى توفير استهلاك الوقود، وإعطاء الأولوية في المواعيد لإصلاح المركبات وإنقاذ الأرواح. وشبكات الكهرباء الذكيّة الأكثر كفاءةً في وصل الموارد المتجددة، وتحسين مصداقيّة النظام وإلزام العملاء باستهلاك أقل. و أجهزة حسّاسات المراقبة التشخيصيّة والتنبؤية، وانتظار مشاكل الصيانة وحالات نفاذ المخزون على المدى القريب، وكذلك تحديد مواعيد لطاقم الصيانة من أجل إصلاح المعدّات وتلبية الاحتياجات الإقليمية. و بناء الشبكات المعتمدة على البيانات في البنية التحتيّة للمدن الذكيّة، مما يسهل على مجالس البلديّات في إدارة تصريف البيانات وتطبيق القانون، وغيرها من البرامج بكفاءة أكبر. إضافة إلى نظام الأمن المنزلي الخاص بك، والذي يُتيح لك بالفعل التحكم عن بعد بالأقفال، ونظام الحرارة في المنزل، وكذلك يمكن تبريد المنزل وفتح النوافذ، كما تريد.
  • الطائرات المسيرة الذكية: حين تود شراء بضائع من السوق سيمكنك ذلك وأنت في داخل منزلك وستصلك البضائع عن طريق الطائرات المسيرة (الدرونز) التي سيمكنها التعرف على موقعك والوصول إليك، وستسيطر هذه الطائرات المسيرة على كثير من العمليات مثل أطفاء الحرائق، تنظيم المرور، مكافحة الجريمة، ورش المحاصيل الزراعية وتفقد الحقول الكبيرة وتصويرها والتصوير السينمائي ومتابعة المباريات وتصويرها.
  • البيانات الضخمة: تشير التقديرات إلى أن العالم يولد يوميا ما يقارب (2.5) مليار كيكابايت يوميا من البيانات. حيث يتم جمعها من مواقع الإنترنت والشبكات الاجتماعية مثل تويتر وفيس بوك وتطبيقات الواتس آب والفايبر وغيرها فمثلا يتم رفع (10) مليون صورة على فيسبوك كل ساعة، و (10) آلاف ساعة فيديو يتم تحميلها يوميا على يوتيوب. هذه البيانات الضخمة سيتم تحليلها والتوصل لاستناجات وتحليلات هائلة ستساهم كثير في تسهيل كثير من المهام وتقليل أسعارها، فمثلاً في قطاع العقارات والبناء سيوفر تحليل البيانات الضخمة (200) مليار دولار.
  • أجهزة الواقع الافتراضي: وهي أجهزة يتم ارتداؤها للقيام بزيارات افتراضية لأماكن مختلفة من العالم كالمتاحف والأسواق والمعالم التاريخية ومواقع الشركات الكبرى والبحار والغابات والكهوف، كل ذلك تقوم بزيارته افتراضياً وأنت جالس في بيتك من خلال عمل محاكاة لتلك الأماكن عن طريق أجهزة الواقع الافتراضي. وجدت شركة توماس كوك للطيران أن عدد الحجوزات لزيارة مدينة نيويورك قد زادت بنسبة (190)% بعدما أتاحت للعملاء زيارة المدينة عن طريق أجهزة الواقع الافتراضي.
  • الذكاء الاصطناعي: وهي الأجهزة التي ستقوم بمهامها من غير استلام تعليمات من الإنسان وستتعلم من خبرتها وتطور من أدائها مع الوقت، وستستخدم في كل مجال كالقانون والطب والاستشارات والإعلانات وعمليات التصنيع، فسيتمكن تطبيق على الحاسوب بتشخيص خلل في جسم مريض ما بنسبة دقة قد تفوق حتى أفضل الأطباء بل ويتم العمل على روبوتات ذكية تقوم بالعمليات الجراحية بنفسها من دون تدخل أطباء، وسيعطي تطبيق آخر استشارة بدقة تصل إلى (95%) حول مشكلة نفسية تعترض شخصا ما يسأل ذلك التطبيق حول مشكلته. وسيتوقع تطبيق آخر حالة الطقس أو أسعار المنازل في مكان ما أو أسعار الأسهم، بل وستقوم المكائن الذكية بالعزف على الموسيقى وكتابة الروايات ورسم اللوحات الفنية، ومكائن أخرى ستقوم بأعمال البناء وفق خرائط معينة بسرعة أكبر ودقة أفضل مما يقوم به الإنسان.
ما أهمية الثورة الصناعية الرابعة لأمتنا؟

العقبة التي تعاني منها أغلب دول أمتنا هي الاعتماد على الاقتصاد الريعي وخاصة الدول النفطية، وفي المستقبل حيث نعلم جميعا أن استخدام الوقود الأحفوري سينحسر، بل حتى أن الوقود نفسه سيتعرض للنفاذ مما يبقي الدول النفطية عاجزة عن سد العجز الذي سيحصل في ميزانيتها والثغرات التي ستظهر في اقتصادها، ففرصتها الأكبر للحفاظ على اقتصادها وتنميته تكمن في تسخير عوائد النفط الحالية لتأسيس قاعدة تكنولوجية قوية تكون محوراً فاعلاً لاقتصادها في المستقبل. لقد تنبهت بعض دول المنطقة بالفعل لأهمية الثورة الرابعة وبدأت بإطلاق المشاريع والمبادرات حيث يرتفع حجم الإنفاق على تقنيات وحلول إنترنت الأشياء في الإمارات بحلول عام 2023، إلى نحو 5.14 مليار درهم (1.4 مليار دولار) وفق دراسة لمؤسسة الأبحاث والاستشارات التكنولوجية العالمية (IDC) التي قدرت إنفاق الدولة في هذا المجال بنحو 2.38 مليار درهم خلال العام 2019.

وأكدت الدراسة أن الإمارات، والمملكة العربية السعودية تتصدران عربياً في حجم الإنفاق على إنترنت الأشياء، حيث يصل حجم إنفاق المملكة على هذه التقنيات الحديثة إلى 3.1 مليار دولار بحلول العام 2023. وتوقعت الدراسة أن يصل الإنفاق على تقنيات إنترنت الأشياء في الشرق الأوسط وأفريقيا إلى ما قيمته 8.47 مليار دولار. لكن لازالت الدول الأخرى بحاجة إلى أن تكون أكثر جدية وتمتلك استراتيجياتها الخاصة تجاه الثورة الصناعية الرابعة.

يقول رائد الأعمال الأردني طلال أبو غزالة (أنه بعد انتهاء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي سيعيشها العالم في الفترة المقبلة، ستبدأ فترة من الازدهار والنمو وستوجد حلولاً لكل شيء بفعل الثورة الصناعية الرابعة).

ختاماً ننهي أيضا بمقولة للأستاذ طلال أبو غزالة (لا يمكن لدولنا العربية حتى وإن اجتمعت أن تصبح دولة عظمى وتنافس الاقتصادات العظمى التي سيبلغ حجمها في 2020 ما يعادل (63) تريليون دولار، لكن يمكننا أن ندخل المنافسة كأفراد؛ فلو ظهر في الأمة العربية واحداً مثل ستيف جوبز أو مارك زوكربيرغ يمكن أن يصبح لنا حينئذ دور عالمي، فكوكل حجمها تريليون دولار وهي عبارة فقط عن برنامج كومبيوتر، هكذا يمكننا أن نصبح دولاً عظمى حين يصبح عندنا مخترع مثل مخترع غوغل، فليس لنا عذر بأن لا نتفوق في عصر المعرفة).