يعرف عن العقل البشري أنه عقل مبني على نظام محكم ألا وهو السببية، الأمر الذي ساعده على الاستدلال على الكثير من القوانين، وحل الكثير من المعضلات التي واجهته في حياته، فمبدأ السبيبة يعد من أهم و أكبر القوانين التي ترتكز عليها مختلف العلوم، هذا القانون ينطبق أيضا على سلوك الفرد اليومي فلا وجود لفعل بدون سبب يحركه، وأي خلل في ميزان السبيبة يولد خللا في النتائج والانعكاسات، لذلك كان من أعظم ما أرشد إليه الإسلام هو العمل بهذا المبدأ الكوني وجعله قاعدة حياتية لا غنى للمؤمن عنها.
فالإنسان لم يخلق عبثا، إنما خلق من أجل التعمير، فالأمم والحضارات السابقة لم تكن لترسي وجودها إلا باعتمادها كل أسباب التحضر والإعمار.. سنأخذكم من خلال هذا التقرير في جولة حول أهم الأسئلة التي تتعلق بالسنن الكونية والتي طرحت في الحلقة الثالثة من برنامج بيان للناس.

الرسول صلى الله عليه وسلم وإدارة الدولة 

كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع السنن الكونية في إدارة الدولة؟

 د. علي الصلابي: تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع سُنن عديدة، فإن الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتعامل مع سنة الابتلاء، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة التدافع ومع سنة التمكين، تعامل معها في حالة الانفراد. ومن خلال هذه السنن وصل إلى الدولة، وأيضًا سنة الأخذ بالحيطة والحذر، واستخدم التغيير من البداية.


واستمرت هذه السنن حتى في وجود الدولة، فكان يغذي الناس بقيمة التوحيد والعبادة لله، وخطورة الشرك. وسنة الأخذ بالأسباب كانت في الفترة المكية على مستوى الجماعة في دار الأرقم.

 وكان القرآن المكي يوجه في هذا المعنى، وفي الفترة المدنية تغير وأصبح مؤسسة أمنية، وهذه المؤسسة لها أشخاصها مثل العباس عندما كان في مكة يجمع المعلومات، فتحولت من الأفراد إلى نواء مؤسسة في الجانب الأمني، أيضًا فيما يتعلق بالبناء والأخوة، سبب من الأسباب في قوة الدولة، وفيما يتعلق بالدستور في حقوق المواطنين، وكذلك المسجد وحركة السرايا والسوق الاقتصادي الّذي بناه بقواعد إسلامية، حتى استطاع أن يقنع القبائل التي تجاور المدينة به، وكانت ضربة اقتصادية لسوق بنو قينقاع، الذي كان مسيطرا على المدينة.
 أما فيما يتعلق بشروط التمكين التي ذكرها الله (وأن تطيعوه تهتدوا) والشيخ الطاهر بن عاشور قال: "سر التمكين في طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) فتعامل صلى الله عليه وسلم بكيفية أخذ المسار الطبيعي، في الأعمال الصالحة بمفهومها الواسع والاقتصادي والسياسي، ومحاربة الشرك بأنواعه، وعدم الخوف من البشر، وفي آية: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
 فتعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنة التمكين؛ بتنفيذ الشروط والأخذ بالأسباب من خلال الآيات القرآنية، والنموذج كان حاضرا في قصص الأنبياء، فقصص الأنبياء تعتبر مرجعية للرسول -صلى الله عليه وسلم- في إقامة الدولة وإدارتها، وبالتالي تظهر إدارة سيدنا سليمان، عندما كان لديه مرجعية قوية في إدارة الدولة والضبط والربط، من خلال ذي القرنين.

سنن تبني وأخرى تهدم 

هناك سنن كونية تُنجح الدولة، وهناك سنن كونية هادمة للدولة، فكيف نمنع الظلم من الحاكم وكيف نحافظ على الشعب من الظلم والاستبداد؟
د. علي القره ياغي:
كلما نظرنا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، كلما ازدادت قناعتنا وإيماننا بعظمة هذا الدين وجماله، وأنه فعلًا دين يبني ولا يَهدم، ومن هنا فإن هذا القرآن الّذي يركز على قضايا العقيدة والعبودية الخالصة لله، لكنه يعلم الإنسان كيف يعمرُ الكون، وهذا الأساس في كيفية استعمال الإنسان للكون، فتعميرُ الأرض قضية إسلامية كونية، ومن هذا المنطلق وجه القرآن الإنسان المسلم إلى الأخذ بالأسباب، ويعلم الإنسان كيف يبني ويعمر، ولذلك للحضارة سنن، وهذه السنن تكون على ثلاثة أقسام:

  • سنن تتعلقُ بتعمير الكون.
  • سنن تتعلقُ بالتاريخ.
  • سنة الله في الفجر، بأن الفجر يأتي بعد الظلام.
  • ومن سنن الله، هلاك السنن الّتي من قبلنا: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ)، ثُم السنة التي يكتبها الله على نفسه: (إنّ ربكّ لبالمرصَاد)

وأخطر شيء يدمر الحضارة، الظُلم؛ الظلم المادي والظلم في الحقوق والواجبات، والظُلم في الإدارة، حتى القرآن حصر الهلاك، فقد حصره في الظُلم.

كيف نتخلص كأفراد من الظُلم؟
هناك واجب فردي وواجب إداري وجماعي، ولذلك يجب على المجتمع الإسلامي أن يقوم على المؤسسات والعمل الجماعي لا الفردي، ولما تحدث القرآن عن الدولة تحدث عن مؤسسة الدولة: (وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، ولما تحدث عن الزكاة تحدث عن الجمع (والعاملينَ عَليها)، ولما تحدث عن الوقف، ومؤسسات الوقف، هي المؤسسات العامة والرقابية.
فيجب على هذه المؤسسات أن تقوم بحماية هذا المجتمع، فكيف للدولة أن تتحضر دون السنن، بل إن الإسلام لا يكتفي بالعمل العادي وإنما يوجه الدولة إلى الأحسن، وأن الله يوجهنا إلى الأحسن المطلق في كل شيء: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وكما يقول العلماء: أحسنُ عمل نكرة، والنكرةٌ محددة، وبالتالي يجب أن يكون عمل اليوم مختلفًا عن الآخر، والغد يكون مختلفًا، حتى تتكون عقلية ديناميكية متجددة، ولذلك واجبُ الدولة أن توجه الأمة نحو القوة والحضارة وأن تبعد عنها الفساد المالي والإداري حتى تكون هذه الأمة قوية. 

 

السنن بين المثالية والواقع

 كيف نطبق السنن الكونية المثالية على أرض الواقع وفي المجتمعات المعاصرة؟

د. نور الدين الخادمي: السنن تتعلق بالحاكم والمحكوم، وتتعلق أيضًا  بالوعي بهذه السنن والعمل بها واقعياً، فالسنن هي وعي، وكيف لنا أن نعي أن هذه السنن أمر مركوز في الكون وباعتبارها أسبابا تؤدي إلى مسبب، وباعتبارها أيضًا تناسبًا بين الإنسان والتشريع، كل هذا في إطار خلقي إنساني.

وأي أحداثٍ للنهوض في أي دولة، إذا لم يتم تأسيسها على وعيٍ كامل بالسنن الفقهية، لا يمكنها أن تنهض بإنجازٍ أو نهوض على هذا المستوى، وإعمار هذه السنن يكون بالسياسات أو بالإجراءات والقوانين، وكل هذا يمثل الأرضيّة الّتي تطبق عليها السُنن.

 فسنة التداول سنة من سنن الله؛ كالتداول في المال والتداول في الحُكم والفرص وبين الأجيال، وعندما نتحدثُ عن التداول في الحُكم -وهو سنة كونية- نتحدثُ عن تداول بين القطاعات وبين الجيل الحالي والقادم في الصناعات، ونتحدثُ عن تداول المال، على أن لا يتم تداوله في لوبيات الفساد، إذا سنة التداول سنة مباركة، وهي كونية من جهة ورعها في الكون، وهي تشريعية من جهة التشريع، وهي إنسانية تكليفية، يتم تحويلها إلى برنامج عمل.
وعندما نتحدث عن القيم الإنسانية والحقوقية ومحاسبة الحاكم واختياره، نتحدث عن مفاهيم نظرية ثُمّ قيم حاكمة ثُمّ بعد ذلك نتحدث عن مبادئ وإجراءات. نظام مرور في أي دولة هو نظام إجراءات وقوانين، وإن لم نفعل هذه السنن في النظري والتطبيق والإجراءات؛ فستقع الحوادث والابتلاءات، إذا الوعي بين الحكام والمحكومين أمر مهم جدًا، الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت غير مسلمة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، فالأصلُ في الدولة المسلمة أنها عادلة، وراشدة وحكيمة وبإدارة جيدة.  

هل للسنن دين؟ 

هناك سنن كونية بين الحضارات نتفق فيها، فكيف نطبق السنن الكونية المشتركة بينها في أرض الواقع، من خلال المنظور الفقهي والديني؟
د. أحمد الريسوني:
السنن بطبيعتها لا دين لها، بل هي لجميع الأديان، وهي دين كوني بطبيعته وليس خاصًا بالمسلمين، سنن الله تعالى من عمل بها والتزم بها نهض، ومن عقل بسنون التقدم تقدم، ومن أخذ بسنن التخلف تخلف، فالسنن ليست غربية ولا شرقية، طرح شكيب أرسلان سؤالا للمفكر العظيم سعيد النورسي: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟


فقال: "العمل في هذا الكون قد يكون من مسلمٍ وأساليبه غير مسلمة، وقد يكون من كافر وأساليبه مسلمة، فمن عمل بالوسائل المسلمة نجا وإن كان كافرًا، فالدولة الكافرة ينصرها الله عندما تكون وسائلها مسلمة، وإذا عمل المسلمون بسنن التخلف سيتخلفون مهما عبدوا ومهما ذكروا الله".

المسلمون فرطوا في السنن وأفرطوا في الدُعاءِ تعويلًا على أن يقوم مقام السُنن، الدُعاء لا يقوم مقام السُنن والسنن لا تقوم مقام الدُعاء، إذن سنن الله يجب أن تكون مسلمة أي وفق ما أراد الله، غير ذلك هي سنن كافرة ولن ننجح ما دمنا نستخدم سننا غير مسلمة.

 ما تعليقك على السنن الكونية المشتركة؟
د. عبد المجيد النجار:
أنا أرى أن أم السنن في إدارة الدولة هي تلك التي عبر عنها ابن خلدون؛ أنه إذا انتشر الاستبداد والظلم في أمة من الأمم، فقد حان خراب العمران والدولة، ولهذا فإن الاستبداد نتيجته انتهاء الدولة وضعفها، وهي سنة معقولة تدرك بالعقل؛ لأن الاستبداد يقمع العقول على أن تفكر وأن تبادر، ويقمع الإرادة النفسية على أن تنطلق في الفعل والإنجاز والإنتاج، وبهذا يؤدي الأمر إلى انهيار الدولة، والّذي يحول دون هذا الاستبداد هو:
 أن يتحقق التمثيل الشعبي في اختيار الدولة برئيسها واختيار المشروع المناسب لها.
المراقبة ومتابعة الأمة والشعب في تصرفات الدولة، وهذا أصل في القرآن: (فاستخف قومه فأطاعوه)، أي انتهاء المراقبة والمتابعة.
فلا بد أن يكون للمجتمع تنظيمات قوية تراقب الّذين يمثلون الدولة وتسددهم وترى هل تم تطبيق المطلوب، وهذا أمر يجب أن ننتبه له في تنظير الدولة الإسلامية. 

بين العقوبة والابتلاء.. الهزائم عبرة  

وقعت الإشارة فيما يتعلقُ بالسنن الكونية في إدارة الدولة إلى الابتلاء، بحيثُ أن الشعوب والرؤساء كثيرًا ما يقعون في المشاكل، فتصبح هذه الأمور من الابتلاءات باعتبارها سننا من السنن الكونية، فكيف نفرق بين ما هو ابتلاء وبين ما يمكن أن يكون تقصيرًا وعدم مراعاة  في تلك التصرفات التي انتهت إلى هذه الأزمات؟

د. علي القرة ياغي: سنن الله لا تُحابي أحدًا، فمن أخذ بها فإنه يحقق نتائجه المطلوبة، ومن لم يأخذ بها يتخلفُ، فتلك سنة الله، عندما يقوم الشخص أو الجماعة أو الدولة بكل الأسباب المتاحة وتأخذ بهذه السنن بقدر إمكانها ثمّ بعد ذلك تقع مصيبة أو ما شابه، كانت قدرة هذه الأمة أقل من الأمم الأخرى، حينها يكون هذا ابتلاءً من الله وامتحانا، ويكون هذا الامتحان -وإن كان بمحنة-، خطوة نحو المنحة، ولهذا يقول الله: (تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
ولا ينبغي للأمة المسلمة أو للجماعة المسلمة أن توكل هذه الأمور، فهذا يكون تواكلًا، فالفرق كبير بين التوكل والتواكل، وعندما نقرأ سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أموره، مثل أمر الهجرة، نجده قد أخذ بجميع الأسباب، وبعد ذلك اعتمد على الله، وفي غزوة بدر أخذ بكل الأسباب المتاحة، مع أنهم كانوا قلة.


تكون الأمة مقصرة إذا لم تأخذ بسنن الله الكونية، على حسب قدرتها، ثُم بعد ذلك إذا وقعت واقعة لأي خلل آخر، فحينها يكون هناك ابتلاء.

وعندما لا يلتزم البعض بتلك السنن، تكون العقوبة التي هي تنبيه لهم، ليتم مراجعة الأمر، فمع الاختلاف بين العقوبة والابتلاء نوعٌ من الاشتراك في معنى (التنبيه والمراجعة)، فالتنبيه هو موجود بالنسبة للجماعة، فإذا وقعت في مصيبة وراجعت نفسها وأرجعت الأمور إلى نفسها، كما حدث في غزوة أحد عندما وقعت المصيبة على الرسول وصحبه الكرام، فالله قال عندها: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فعندما لم يلتزم الرماة الّذين هم على الجبل بوصية الرسول؛ وقعت المصيبة، فهذا أيضًا مخالفة لأمر النبي ولسنة الله في الانتصار بالحروب.
 ولذلك عاقب الله بعض الأمم السابقة حينما لم يستفيدوا من الدروس، فقال الله: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)، فقال العلماء مرة أو مرتين هذا عدد وليس له مفهوم، وقد يكون أكثر من ذلك، أي لا يرجعون إلى الدروس التي تدل على الأخذ بالأسباب ولا يرجعون إلى العقل، والنظر إلى التاريخ وأسباب الهزائم وأسباب النصر، فعند المصيبة يجب على الأمة أن ترجع إلى الكتاب وسنن الله، والابتلاء يكون بالخير والشر.
يقول ابن خلدون:"مصير الأمم المستبدة والحكام المستبدين إلى الزوال، وهذا يكون تدميرا للعمران"، كبعض رؤساء العرب عندما يستبد بتاريخ رئاسته فيؤخر الحضارة، فقراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- للإنسان وللكون، في ظل الكرامة والربوبية.
فعلينا أن ننظر في الفكر الإسلامي على أن نأخذ من الهزائم العبرة وأن نقيمها التقييم الصحيح وأن ننظر إلى الأسباب التي أدت إلى ذلك لنصل إلى النتائج الصحيحة، فيكون هذا تقييما ذاتيا، فالأحاديث الصحيحة والآثار تدل على أن المؤمن عند الابتلاء يعود إلى السنن والقرآن، فالإنسان إذا لم يراجع نفسه يخرج من إطار التحضر.