النهضة كلمة يَعرِفها الجميع، لكن يصعب تَعرِيفها؛ فهي سلوك وواقع معيش قبل أن تكون مفهوما أو شعارا، تتحقق بالممارسة والتجريب والتعلم من الأخطاء والتجارب، وليس بالتقليد والتنظير.
إن نقل تجربة نهضوية من بلد متقدم إلى بلد فقير لن يجعل هذا الأخير غنيا أو متقدما، ولا يعني أن هذا البلد أصبح متقدما.
ومن ثمة يمكن عد النهضة عملية تَحول، ينتقل خلالها مجتمع معين من حالة سكون وسلبية إلى حالة إيجابية وأكثر حركية. وذلك بوجود مُحولات أو مُحفزات كالتحديات، والفكر، والقيادة، والعلم والقراءة.
وهذا التحول لا يتم في مرحلة واحدة، بل عبر مراحل متداخلة هي: مرحلة الصراع، ومرحلة التوازن، ومرحلة الإنتاج.
إن الصراع لا مفر منه؛ فالوجود البشري قائم على التضاد وعلى التدافع المستمر، من أجل شرعنة أو توحيد الجهود الداخلية أو قطع الدعم الخارجي وكسب أنصار أو مصالح...
فالحياة الاجتماعية، كما جاء في كتاب مهزلة العقل العربي" لعلي الوردي": "ليست إلا صراعا متواصلا بين المصالح".
لكن المجتمع ينتفع من هذا الصراع الجاري. والتنازع صفة أساس في الطبيعة البشرية، وحتى التعاون ما هو إلا صورة من صور التنازع. فالإنسان يتعاون مع بعض الناس لكي يكون أقدر على التنازع ضد آخرين.
إن التاريخ البشري في الواقع صيرورة وحركة دائبة. والحركة لا تظهر إلا إذا كان فيها تفاعل بين عاملين متعاكسين. والعامل الواحد معناه السكون والجمود. إن التوازن أساس العدل؛ لأن العدل لا يتأتى إلا إذا توازنت وتعادلت قوى الخصوم المتضادة.
والظلم لابد من ظهوره على يد الحاكم، ما لم يكن إزاءه من يراقبه ويعترض عليه.
الصراع بين طرفين أو فكرتين يُنتج الحاجة إلى طريق أو طرف ثالث، وسط متوازن. ولقد جاء في كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) لمالك بن نبي:
"بأن تحرير الطاقة يدمر المجتمع، وأن إلغاءها يعيق سيرورة المجتمع، علاوة على التوسط في الطاقة الذي يساعد في عمارة هذا المجتمع. لذلك يجب على الطاقة الحيوية أن تعمل بالضرورة ضمن هذين الحدين. والسلطة التي تخص الطاقة الحيوية لتحتويها بين هذه الحدود بشكل صارم هي الفكرة. فالفكرة الإسلامية هي التي طوعت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي لضرورات مجتمع متحضر".
إن لكل نهضة فكرة، كما عبر عن ذلك الدكتور "جاسم سلطان" في كتابه (قوانين النهضة).
و الحضارة كما يرى مالك بن نبي "ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ".
وأهم عنصر في الصراع هو القائد، كما أشار إلى ذلك جاسم مطوع، فالمنظومات على إختلاف أنواعها تتبلور في القيادة. وهكذا يمكن إختزال التدافع ليكون بين عقول القادة. لذلك يجب أن يكون للقيادة رؤية واضحة، وإلتزام عال بالهدف والمهارات القيادية. فالقائد الفعال هو الشخص القادر على إدراك حاجات الناس وترجمتها إلى أهداف. ووجود قيادة موحدة وهدف مشترك يوحد المجتمع ويجعله متماسكا وقويا، قادر على الإبتكار والإنتاج. فالمقياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها، كما عبر عن ذلك "مالك بن نبي" في كتابه (شروط النهضة).
ومن البين أن العالم الإسلامي يعمل منذ سنوات على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة.
إن طريق النهضة طريق طويل وشاق، ونحن مازلنا في بدايته بوصفنا مجتمعات عربية إسلامية. فمؤشرات تخلفنا أكثر من المؤشرات التي تدل على تقدمنا.
إن مجتمعاتنا بتعبير "مالك بن نبي":
"ما تزال في طور الطفولة العلمية، فهي تبحث عن عالم الأشياء، ولا تبحث عن عالم المعرفة في الأشياء. إن القراءة مشكلتنا الرئيسة، فالكتاب يشكو في عالمنا العربي من الهجران. والشعب الذي لا يقرأ، لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا أن يعرف غيره. والبلدان التي تعاني من الأمية تعاني من نقص فى فاعلية الإنسان".
لكن كلمة اقرأ كما يراها كثير من الكتاب والمفكرين، قادرة على إيقاظنا، وتحفيزنا لنعود لسيرتنا. والمتابع للتاريخ الحضاري في الإسلام يلحظ بوضوح أنه كان مقترنا دائما بالقراءة، وحب العلم والشغف بالمعرفة، وكثرة العلماء والباحثين في ميادينها المختلفة، مما لا يدع مجالا لأي شك في أن الولع بالمزيد من الاطلاع، وإصطحاب الكتاب هو أحد الحلول المهمة للأزمة الحضارية التي تعاني منها الحضارة الإسلامية.
إن القارئين في العالم تاريخيا وجغرافيا هم الأكرمون، فالنص القرآني يحض على القراءة، ويعقب الأمر بأن الرب أكرم. فصار هنا إجتماع بين القراءة وكرم الرب.
وحين ننظر إلى العالم جغرافيا سنرى هذا الإقتران متلازما، أي أن الذين ينالون كرم الرب وغناه هم القراء أو أكثر الناس قراءة في العالم. والبلدان التي تعاني من الأمية تعاني من نقص فى فاعلية الإنسان.
والمجتمع العربي كذلك أنهكه الفقر والبطالة؛ فقد أدى فشل التنمية وتفاقم المديونية الخارجية والتزايد السكاني، وحالة الإنهاك الإقتصادي إلى إرتفاع نسبة البطالة بين المتعلمين والمهنيين. إن البطالة هي إنعكاس لمشكلة أكبر هي مشكلة التخلف. والتخلف في النهاية هو ثمرة إستغلال وإستعباد، كما يقول "مصطفى حجازي" في كتابه (سيكولوجية التخلف).
فالتخلف يتجاوز مسألة التكنولوجيا والإنتاج ليتمحور حول قيمة الحياة الإنسانية والكرامة البشرية. ومن ملامح هذا التخلف التخبط الذهني، والفوضى، والعشوائية، وسوء التخطيط. فسيرنا نحو الحضارة فوضويا يستغله الرجل الوحيد أو يظلله الشيء الوحيد كما عبر عن ذلك مالك بن نبي.
لقد أدت التحديات والمخاطر التي تحيط بمجتمعاتنا إلى تفكيكها إلى أجزاء متصارعة. وهذا التفكك قد يستمر في ظل غياب قيادة فعالة، قادرة على إستثمار هذا التدافع
وتحويله إلى طاقة إيجابية وبناءة (هناك أزمة قيادة).
ولكن هذا الصراع أو التدافع الذي تتسم به مجتمعاتنا لا يمكن أن يؤدي في النهاية إلا إلى توازن أو نظام جديد؛ فالحياة تجدد ذاتها عبر تعاقب حالة الفوضى أو الصراع و حالة النظام (أو التوازن).
إن المشكلة ليست في وجود حالة من الصراع، بل في عدم الوعي بهذه الحالة وفي التفسير الخاطئ لها. فعدم الوعي بالصراع قد يطيل أمده.
إن الشعوب العربية مريضة بشكل مزمن في وعيها، ونتيجة لذلك بدت مظاهر التخلف التي نعيشها عبر الصراعات. لذلك فإن معركتنا الكبرى هي معركة الوعي، إنها أهم المعارك في تاريخ البشرية. فالتحولات الكبرى لم تحدث إلا بعد معركة وعي طويلة.