بالتنسيق مع برنامج مؤشر بنسلفانيا المُهتم بقياس مراكز الأبحاث الأكثر تأثيرًا في العالم، نظّم مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات ندوةً فكرية لمناقشة موضوع «مستقبل مراكز الفكر والمشورة السياسيّة في الشرق الأوسط»، وذلك يوم الخميس 5 جمادى الآخر 1441هـ/ 30 يناير2020م في اسطنبول، وبحضور عدة شخصيات ومؤسسات من بينها مؤسسة عمران، وتأتي الندوة في إطار رؤية المركز التي تتمحور حول رفع مستوى الوعي الفكري في المجتمعات العربية.

أشرف أ. عبد الكريم الحبيشي المدير التنفيذي لمركز الفكر الاستراتيجي للدراسات على افتتاح الندوة، لتنطلق أول جلسة بإدارة د. قيس نوري للحديث عن «ضرورة إقامة مجتمع دولي لمراكز الأبحاث الرائدة في تقديم المشورة»، وكانت أول مداخلة بعنوان: «مراكز الأبحاث في الشرق الأوسط.. إلى أين؟» مع د. حسين البتكين باحث في مركز (Sita) وأستاذ في جامعة إسطنبول شهير، حيث أكدّ على أنّ تأسيس مراكز الأبحاث في الغرب قد بدأ منذ أمد خاصةً بأمريكا وبريطانيا، وذلك في الفترة الممتدة ما بين 1820م إلى 1838م، بالمقارنة، اعتبر أنّ مراكز الأبحاث في الشرق حديثة التأسيس، وهذا ما أدى حسب رأيه إلى بروز الكثير من السلبيات في مقدمتها حداثة المعلومات وقلة الخبرة، غير أنّ الميزة الأساسية للمراكز الشرقية أنّها تصدر دراساتها بناءً على المعلومات التي تلتقطها من الداخل، وهذا ما شكل فرقًا وميزةً تُنافس بها المراكز الغربيّة التي تصدر لجمهورها أفكارًا "خادعة" حسب وصفه عن الشرق الأوسط، حيث صورته كمصدرٍ للهجرة والإرهاب، ويؤكد بقوله: "تغيرت اللعبة بفضل مراكز الأبحاث في الشرق التي استطاعت أن تُغيّر هذه النظرة".

الجدير بالذكر أنّ مركز (Sita) مُمَثَل بفروع في كل من برلين واشنطن وأنقرة، وتصدر دراساته بثلاث لغات هي التركية، العربية والإنجليزية ويمتلك 25 باحثا أولًا حسبما جاء في كلمة الباحث د.حسين، والذي أكد في مداخلته بأن المراكز المتخصصة تتمتع بشبكة تواصل ممتدة وواسعة، مما يوفر لها معلومات هائلة يُمكن الاستفادة منها في صُنع القرارات.

قدمت أ. إلهام الحدابي الباحثة في مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات مداخلة عن «مؤشر بنسلفانيا ومراكز التفكير في الشرق الأوسط.. المعايير والتأثير»، تطرقت لمفهوم مراكز الفكر، واستعرضت الخلفية التاريخيّة لمراكز التفكير الغربيّة، وفي خضم شرحها لمؤشر بنسلفانيا أكدت الباحثة أنّه "من أجل معرفة مدى فاعلية وتأثير مراكز التفكير ينبغي أن نعرف الفرق بين مخرجات هذه المراكز وماهية تأثيرها". ثمّ أشارت إلى أن مؤشر بنسلفانيا يعتمد في تقييمه لأداء المراكز البحثية عالميًا على 4 مؤشرات أساسية، يندرج تحتها 28 مؤشر فرعي، وبعد سرد الفروق الأساسية في الخصائص والسمات بين المراكز الغربية والشرقية، تحدثت عن التوزيع العالمي للمراكز وأكثرها تأثيرًا عالميًا وفي الشرق، ونبهت إلى قلة مراكز التفكير في العالم العربيّ، ومحدودية تأثيرها، ما يستدعي حسب رأيها تطوير أداء هذه المراكز لتعميق أثرها في الواقع.

وللحديث عن «أدوار مراكز الفكر والرأي في تقديم المشورة السياسية» قدّم د. حلمي اوزيف الباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط ORSAM)) أستاذ في جامعة اسطنبول مداخلةً أكد فيها على أهمية إشراك مراكز الفكر في صناعة القرار، كما أشار إلى أن التبادل المعرفي يعاني حالةً من الفقر والعوز، والإنتاج المعرفي ما زال حبيسًا في المراكز الجامعية، مُشدِّدا على ضرورة فتح نقاشات وجلسات فكريّة.

تطرق أيضا لمشكلة التمويل وقلة الكوادر الاحترافية في معرض حديثه عن المعوقات التي تُواجه مراكز الأبحاث، وفي هذا السياق أشار: "لا تستطيع المراكز التصريح إلا بموافقة الجهات الداعمة أو الممولة، لذا فقد تحجب الكثير من المعلومات الناتجة عن دراساتها للواقع مخافة سخط تلك الجهات."

واستمر في سرد السلبيات بما وصفه "التماهي مع سياسة الحكومات" وكذا "المشاركة في مشاريع داعمة غير أساسية"، ويقصد بأن يكون مركز الأبحاث مشروعا ثانويًا من مشروع آخر، أخيرًا حذر من الميولات الأيديولوجية التي تغلق فضاءات الحرية، ودعى إلى ضرورة "مقارنة أنفسنا بأقراننا في مراكز الأبحاث" وليس بالغرب، وحسب وصفه فإن طريقة عملهم تخدم مصالح دولهم ومؤسساتهم ومنظماتهم، وبالتالي تقليدهم يُنتج دراسات على نمطهم!

 تحدث د. جمال نصار أستاذ في جامعة صباح الدين زعيم عن «أدوار مراكز الفكر والرأي في دوائر الاستقطاب وضروريات المحافظة على المصداقية»، أشاد بدور مراكز الفكر في التنبؤ بما سيحدث في البلدان، والقدرة على التدخل السريع والعاجل لمعالجة المشكلات الآنيّة، عكس المراكز البحثية الجامعيّة التي تشتغل كسوقٍ للأفكار وتعمل على المدى البعيد. ووصف د. جمال نصار قوة تأثير مراكز الفكر في كونها تُقدم أسبابا يُمكن من خلالها التنبؤ بالنتائج ومعرفة مقدماتها بشكل قطعيّ، لذا أكد على ضرورة أن يُعطي صناع القرار المراكزَ حقها لما لها من تأثير، داعيا إلى توفير الحرية في كلّ مراكز الأبحاث، "يكون السياسي تابعًا لمركز الأبحاث لا العكس"، وفي هذا المجال أشار إلى الدور الكبير الذي تلعبه تلك المراكز في تسهيل اللقاءات الدبلوماسية والدولية، وفتح علاقات وبناء جسور بين الدول أو فتح حروب فكرية.