طالما كانت نقطة البداية عند المسلم هي قلبه وكينونته الإيمانية، ومركزية اعتقاده باليقينيات التي تخالج عقله وقلبه وروحه، فأول بدايات الأفعال هي الإيمان بمدركات الأقوال، وبذلك وجدت العقيدة كأول مصدر يستمد منه المؤمن ثوابته ويتجنب بها غبش الأفكار والمعتقدات الفاسدة.
يقول ابن خلدون: «الهدف من التوحيد ليس مجرد تحقيق الإيمان فقط، فذلك بين العبد وربه، ولكن كمال التوحيد في تحول الإيمان إلى واقع في السلوك التطبيقي للعبد، وبالمقابل تهدف العبادات إلى تحقيق استسلام العبد وانقياده لخالقه، حتى يصفو قلبه من أي أمر يصرفه عن الله تعالى، وبهذا يصبح المرء مسلما حقا، ويكون ربانيا بصدق» بتصرف.
بذلك ينتقل المؤمن من مجرد الاعتقاد إلى منظومة تمزج العمل مع الإيمان على حد سواء، ويستند في رحلته هذه إلى قدوات وسنن يأخذ أثرها من نبي الأمة صلوات ربي وسلامه عليه ثم ممن حوله من الصحابة الطيبين الأكارم ومن تبعهم ليوم الدين، فمشوار العقيدة الذي يبدؤه المسلم في يقينه لا يكتمل إلا بجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة له ومعينا في شؤونه وقضايا حياته.
استطاع المسلم أن يكون صانع حضارة ذات امتداد تاريخي طويل، حضارة بدأت بعقيدة راسخة لتتحول إلى دولة تترامى أطرافها على سطح الأرض، كما استطاع أن يبني من إيمانه صرحا حقيقيا ملموسا اجتمع على مختلف مقومات القوة والتمكين.
لذلك كان المقوم الإيماني أول وأقوى مقوم للحضارة الإسلامية لعمقه وتوغله واشتراكه في مختلف باقي المقومات التي ساعدت المسلم في تشييد صرح حضارته.
الفطرة الإنسانيّة والعقيدة.. تناغمٌ أم تضاد؟
تتناغم الفطرة الإنسانية مع جوهر العقيدة بشكل تام، فالفطرة تنقاد خلف الحواس والمسببات كي تؤول بذلك نحو فهم يتناغم والعقيدة الإسلامية، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [1]
تتميز العقيدة في أصلها بالسهولة والسلاسة مع مشروطية عدم التغيير والمساس بها، فهي على وضوحها لا تحتاج أي إضافة أو نقصان، وأي محاولة لذلك هو في حقيقة الأمر إحداث في الدين، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ.))[2]
كما أنّ العقيدة تتعدى الخرافة بالبرهان والنوازع البشرية بالعقل، فهي مبرهنة عقلية ولا يصح في الإيمان تقليد أعمى إنما دليل واقتناع وإيمان.
العبادة إقامة حضارةٍ وصناعة مدنيّة!
قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[3]
"فالعابد الحقيقي لله تعالى هو من يضيف إلى العبادات المعروفة، عبادة عمارة الأرض، بأن يقيم حضارة ويصنع مدنية، تتفق مع مبادئ الإسلام ولا تتعارض مع أصوله، فالعبادة تدفع المسلم إلى عمارة الأرض وإصلاحها، والمسلم يتقرب إلى الله تعالى بعمارة الأرض، من استثمار لها بالزراعة، وإنتاج المحاصيل، وبناء المصانع، وإنتاج كل ما ينفع البشر، فالعمل والإنتاج في التصور الإسلامي عبادة، فليس من الإسلام ترك العمل بحجة التفرغ للعبادة".
ولذلك لا يكاد يكتمل مفهوم العقيدة والإيمان التام إلا بمعنى العمل والإعمار، فالإعمار في الأرض رسالة المسلم التي يبلغها في الأرض بإتقان وإحسان فيجسد بذلك صورة كاملة عمّا يعتقده، ولأنّ الإسلام دين العمل الدؤوب بخلاف ما سبقه من أديان محرفة والتي رجحت كفة اللاهوت وزهدت في ذلك، فتحول المتدين إلى هيكل لا روح فيه يأتمر وينتهي بما لا يخدم الأرض ولا يعمرها.
الإيمان والعمل الصالح..
«الأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان.»
الإمام الآجري
لا يكاد يصدق إيمان لم تصدق به جارحة ولا عمل يشهد بذلك، فالإيمان لا يكتمل تصديقه إذ لم يصدق به العمل، وكذلك ربط المولى الإيمان بالعمل فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [4]
فالإيمان مقرون بما يتبعه من عمل صالح يبرهنه، ويدلل على حضوره في قلب المؤمن.
الآخرة خير لك من الأولى!
إنّ ما يميز المؤمن عن غيره هو ذلك الرابط الأخروي الذي يلازمه دائما في عمله وحله وترحاله، فسعيه الدائم لا يقتصر على هدف جني ثمار الدنيا إنما نحو التطلع لجزاءه الأخروي الذي يعتبره المؤمن أكبر وأولى بأن ينصب إليه، هذا الامتداد الإيماني يخلق رابطا ميتافيزقيا يقي العبد مطبات الرياء والتخاذل عن فعل الخيرات في الخلوات، فيستقيم بذلك المؤمن في سلوكه سواء كان في الجماعة أو منفردا، ومنه يتولد الإخلاص والتفاني الدائم في العطاء والعمل.
الاستزادة في العلم ترقي في مدارج التقوى!
يقول علي رضي الله عنه: «العلم ضالة المؤمن فخذوه ولو من أيدي المشركين».
فالإيمان في صميمه هو حث على الاستزادة العلمية ليرقى بذلك مدارج ويقوى ويمتن صلبه، لذلك نجد من صور الحث على العلم والربط بينه وبين الأجر ورفع الدرجات الكثير، وكلما ازداد المرء علما ارتفعت درجاته وارتقى ليكون بذلك من ورثة للأنبياء.
والعلم إما أن يكون حقائق علمية ثابتة، أو نظريات علمية لم تثبت بعد، والدين إما أن تكون نصوصه واضحة وصريحة، ولا تحتمل أكثر من معنى، وإما أن تكون نصوصه غير صريحة، بحيث تحتمل أكثر من رأي أو معنى.
-
فإذا كان النص الديني واضحا، وكان العلم نظرية، وهناك تعارض بين النص والنظرية التي لم تثبت بعد، فيجب في هذه الحالة أن نأخذ بالنص، ونترك النظرية.
-
أما إذا كان العلم حقيقة ثابتة علميا، والنص يحتمل أكثر من رأي، ففي هذه الحالة يجب أن نفسر النص في ضوء الحقيقة العلمية.
-
أما إذا كان العلم نظرية والنص غير واضح، نسكت وننتظر.
-
وإذا كان النص واضحا والعلم مؤكدا، ففي هذه الحالة لا يمكن أن يتصادما، وهذه الجملة على بساطتها لا يمكن أن تجدها في أي دين غير الإسلام حيث يتصادم العلم مع النص لديهم!
المصادر
- [1]سورة الروم، الآية 30.
[2] رواه البخاري ومسلمٌ.
[3] سورة هود، الآية 61.
[4] سورة البينة، الآية 7.