حين نأخذ جولتنا الفكرية بين مفهومي التربية والتعليم، نجد أننا نغوص في عوالم كبيرة ينبثق منها أفكار وقواعد وحتى مسلمات تحكم هاذين المفهومين، أما إن حددنا أكثر بوصلتنا نحو الوجهة الإسلامية سنجد أنها تضبط لنا هاذين المفهومين بشكل أعمق وأكثر خصوصية للفرد المسلم، ف لتربية مفهومها الخاص والتعليم أيضا، وكذلك نغوص في عالم الإسلام وكيف تعامل مع مفهومي التربية والتعليم في واقعه .
«التربية».. لمن؟ ولماذا؟
كيف نفهم التربية في الإسلام؟
د. عبد المجيد النجار: لا يمكن أن نحدد مفهومًا للتربية إلا إذا حددنا ماذا نبغي ونريد من هذا الإنسان الذي سنربيه، وما هي المهمة التي سنربيه لأجلها؟
المهمة في الإسلام أن يقوم الإنسان بالتعمير في الأرض ببعدها المادي في خيرات الطبيعة، وبعدها المعنوي في ترقية الإنسان نحو الفضيلة والخير، وهذه هي المهمة التي من أجلها خلق الإنسان، فالتربية في مفهومها العام هي إعداد الإنسان ليقوم بهذه المهمة وينجزها، وهذا يتوقف على ثلاثة أمور:
- إعداد الإنسان الفرد: ولكن الإنسان الفرد لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة دون الجماعة.
- وجود الجماعة.
- مسرح البيئة الطبيعية.
فالتربية يجب أن تشمل هذه الأمور حتى يستطيع الإنسان أن يقوم بهذه المهمة، وأن يُعلم الفرد أن يفكر تفكيرًا صحيحًا، وكيف يقوم بالفكرة الصحيحة وأن يربى على المبادرة والفاعلية والابتكار.
وينبغي أن نربي الإنسان على التربية الاجتماعية ليتعاون مع الآخرين وأن يفسح مجالًا لهؤلاء الآخرين، وأن يمتد بنفسه وعقله لمساحات الآخرين، فلا بد أن تكون هناك تربية بيئية وذلك بأن نعطي للإنسان الذي نربيه حقيقة هذه البيئة وطبيعة هذه البيئة وماذا تحتل هذه البيئة في نفسه؟ هل هي أمرٌ مسترذل كما وجد في الفلسفات القديمة، أم هي أمر مقدس في شريعتنا؟
نربي الإنسان أيضًا على أن يتأمل في هذه البيئة وأن يقصدها ليستجري حقائقها، ليتكون تكوينًا بيئيًا واجتماعيًا وجماعيًا، التربية الروحية هي شيء مهم، ولكن ليست بالشكل الوحيد، ويحتاج إلى تربية فكرية، مثل كيفية التعامل مع الآخرين، فأغلب مشاكل اليوم نابعة من سوء التفكير واعوجاج في منهجية التفكير.
التربية الدينية ليست هي التربية!
كيف ندمج بين التربية والتعليم، وكيف نفرق بين المدارس المعاصرة والمدارس القديمة؟
د. علي القرة ياغي: التربية شاملة للفكر الديني والبيئي، المشكلة الكبرى في هذا المفهوم تنبع في الجانب الديني، والاكتفاء بمجموعة من المواد تسمى مواد التربية، وهي الثقافة الإسلامية، وهذا خطأ، فالمواد الشرعية ليست هي التربية.
التربية هي هدف ومقصد لجميع العلوم، لعلم الاجتماع أو علوم الطب، وأن نربطها بأهدافها التربوية، فلو درسنا العلوم الشرعية دون ربطها بهدفها، ستبتعد عن جوهرها، فالله حدد وظيفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا المجال، فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، وذلك للارتقاء بالروح، حتى لا تكون هذه الروح عارية بل تكون سامية، ويزكي الأنفس حتى لا تكون مذنبة، بل تكون لوامة، ويزكي قلوبهم من الكره والمشاكل، وعقولهم؛ حتى تكون مبدعة.
ثم بعد ذلك الجانب العملي والأخلاقي، التربية فلسفة العلوم وهي مقاصد العلوم، نحافظ على ثقافتنا من خلال التربية أولًا، فهناك فرق بين التعلم والتأثر، بالنسبة لمشكلة الأقليات في الغرب يعانون من تعليم الثقافة الجنسية، ونحنُ في المجلس الأوروبي نتدارك هذه المشكلة، قرأت كثيرًا في موضوع التربية، فوجدت أن معظم دولنا العربية والإسلامية تحصر دائرة التربية بالتربية الدينية فقط.
الإبداع بحاجة إلى إبداع
كيف يطور المسلمون مجال التعليم والتربية من خلال الإبداع؟
د. علي القرة ياغي: بدون شك عندنا تجارب إبداعية في التعليم، في طريقة التعليم وفي مناهجه، وحين نذكرها نقول أن من واجبنا أن تكون لنا طريقة مميزة في الإبداع وفي مناهج التعليم، ومن الأمور المميزة في التعليم الإسلامي أن الطالب وخاصةً في المستوى العالي والمتوسط يركز في فترة زمنية معينة على دراسة معينة ومخصصة، وليس على عدة مواد، وفي آن واحد يخرج من مادة إلى مادة، فكانت تجربة تثبت جدارتها وإبداعها؛ وهي التركيز في سنة معينة على مجال علمي معين، ليتخرج منها بإبداع، وينتقل للأخرى، فالإبداع يحتاج إلى إبداع، فالتعليم يجب أن يكون لأهله وأن يعطي قدرًا من الحرية للمؤسسة والتخصص بصفة عامة، فكلما أعطيت الحرية للمعلمين وللطالب، كلما زاد الإبداع، وسينطلق نحو الفكر، فالروتين قاتل للطالب، يجب أن نقدم أسسا تعطي حرية للعلم.
التصوف كان يُربي.. ما الذي يحتاجه؟
يقال أن الصوفية متقدمون في الأمور التربوية؟
د. أحمد الريسوني: التربية ليست محصورة في المدرسة، فالتعليم يجب أن يكون إلى حد كبير في المدرسة وأماكنها، كالمسجد والمجتمع نفسه، وكذلك التربية في الأسرة، فالآن للأسف الأسرة تتخلى يومًا بعد يوم عن وظيفتها التربوية، مع العلم أن التلميذ حين يأتي إلى المعلم يكون قد أخذ مساره التربوي إما بالإهمال أو بالتربية الخاطئة.
فمن أكبر مخاطر العملية التربوية أن نحصرها فقط على المدرسة، فالتصوف كان يربي أصحاب الأربعين والخمسين والشباب والكهول، وهو تراث عظيم في تاريخنا وعلومنا، وهو بحاجة ماسة إلى التجديد، وتجديده من أصعب أنواع التجديد لأنه ليس تجديدًا فكريًا فقط، نحتاج من يمارس هذه التجرِبة الراقية في التجربة الصوفية كما هي في الدين.
الهديّ النبوي في التربية الشاملة
هل تعطينا نماذج ايجابية عن التعليم والتربية من تاريخنا المجيد؟
د. علي الصلابي: مارس النبي -صلى الله عليه وسلم- التربية الشاملة بالجانب العلمي والعملي، نجد هديه في هذا بالجانب العقائدي والعقلي والروحي والنفسي والتنظيمي، وقد استمد هذه من القرآن الكريم، فقد جمع النبي بين التربية والتعليم في العقل والنفس والروح، فمِفتاح التربية كان في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والقراءة هي مِفتاح التعليم.
ماذا إذا وجد التعليمُ المهارة؟
لماذا المسلمون عندما يفتحون المدارس في الغرب يتطورون، ولكن لا يؤدون نفس الدور في بلادهم؟
د. نور الدين الخادمي: التربية على المواطنة وإدارة الحزب والأشخاص، نوع مهم من أنواع التربية، التربية على المعارضة الجدية، كل هذا من التربية بالمعنى الواسع الفسيح، وليس فقط التربية الروحية، نربي الروح والجسد والعقل والحال والمآل، سنة أخرى تتعلق بالشق التربوي الذي لم يأخذ طريقه بالإصلاح الجدي الشامل، وهذا أدى إلى تراجع أصحاب الشأن التربوي، فالتعليم الذي يجد المهارة يؤدي إلى الإصلاح التربوي.
التربية في قالبها المكتمل
لماذا لا يكون هناك اندماج كامل بين مشروعين وفكرتين؛ بين العلوم الطبيعية والدينية وهكذا؟
د. علي القره ياغي: الإمام الغزالي ألف كتاب إحياء علوم الدين، لإصلاح الأمة في فكرها التربوي والعلمي، ولذلك اطلعت على بعض رسائله بالفارسية، وقد أرسل بها رسالة إلى علماء بغداد وقال: أنتم تهتمون بالفقه والحديث فقط، ولا تهتمون بالطب، وقال: "أولا تستحون أن تذهب نسائكم إلى بلاد الكفر تتعالج".
فحصر التربية في عدة مواد أمر خاطىء، نحتاج إلى تربية ثقافية وفكرية وعلمية لتتكون الأمة بقالب مكتمل لا يحتاج غيره من الديانات.