إنَّ الاتجاه الحداثي من العلمانيين والليبراليين ومن سار على خطاهم؛ حين يتوجّه بالهجوم على التراث الإسلامي فإنه ينتقي بعناية تامة أيّ العلوم التي يصوّب نحوها غضبه، وأي الأعلام والعلماء الذين يجب أن ينصب عليهم ذلك الهجوم؛ فالهجوم على الإمام البخاري -كمثال حاضر تلك الأيام- ليس المعني به شخص البخاري؛ بل الدافع لهذا الهجوم هو المنهج الذي وضعه البخاري لقبول الحديث؛ فلو كان شخص آخر غير الإمام البخاري هو من وضع ذلك المنهج لكان الهجوم على ذلك الشخص.

فهجوم هؤلاء الحداثيين موجّه نحو المؤسسين للعلوم في الإسلام؛ فهو هجوم مدروس ومحسوب جيدًا، وليس مجرّد هجوم صُدَفي؛ فهي محاولة للضرب في الجذور، وخلخلة العلوم التي تكوّن العقل المسلم وتضبط كيفية فهمه، وتلقيه للمعرفة الشرعية، بحيث تنتفي -بهدم تلك العلوم- ضوابط الفهم المعتبرة؛ وبذلك تتحول النصوص إلى وعاء فضفاض ومفتوح؛ قابل لكل فهم واحتمال!

فيقول حسن حنفي في كتابه "حوار الأجيال" عن نصر أبو زيد ومشروعه الفكري: "يضع المؤلف -أي نصر أبو زيد- نصب عينيه لحظات تأسيس العلوم: أصول الفقه عند الشافعي، النحو عند سيبويه وهو تلميذ الخليل واضع عِلم العروض، البلاغة عند عبد القاهر البغدادي، ليعيد قراءتها في لحظة تاريخية أخرى".

وقام زكريا أوزون كذلك بإفراد كتاب للهجوم على الشافعي، وآخر للهجوم على سيبويه، وكذلك كتاب للهجوم على البخاري؛ وكتبه الثلاثة كالتالي: "جناية الشافعي"، "جناية البخاري"، "جناية سيبويه".

والناظر لتلك العلوم: أصول الفقه والحديث والنحو والبلاغة؛ يجد الترابط بينهم، فالطاعن في عِلم الحديث والبخاري لزمه أن يطعن في عِلم أصول الفقه والشافعيّ، والطاعن في عِلم أصول الفقه والشافعيّ لزمه أن يطعن في علميّ النحو والبلاغة؛ والطعن في تلكم العلوم مدخل رئيس للطعن في القرآن!

 لماذا الشافعي؟ 

 

والرابط بين العلوم سالفة الذكر هو الإمام الشافعيّ -رحمه الله- وبذلك لقي الشافعيّ هجومًا كبيرًا من أصحاب الاتجاه الحداثي؛ لعدّة أسباب منها:

  • أنَّ الإمام الشافعيّ -رحمه الله- أبرز من شاد دعائم أسس منهجية راسخة تضبط طريقة تفكير العقل المسلم، وطريقته في الاستدلال والتعامل مع النصوص واستنباط الأحكام، وكيفية فهم النص، والطريقة الصحيحة للتعامل معه.
  • تأصيل الشافعي لمبدأ عمومية النصوص؛ واشتمالها على تشريع واضح لكل ما ينزل بالمكلف من نوازل.
  • دفاع الشافعيّ عن عربية القرآن؛ ما أوجب ضرورة المعرفة باللسان العربي، والإحاطة باللغة العربية وعلومها، لفهم النص، ودقة الاستنباط من آياته، وحملها على المحمل الصحيح.
  • دفاع الشافعي عن السنة النبوية، وتقرير حجيتها، وسوق الأدلة على ذلك، والرد على من شكك فيها؛ أو أنكر وجوب اتباعها، حتى لُقِّبَ الشافعيّ بناصر السُّنة.

ومن الطريف أنّ جميع الحداثيين الذي هاجموا الإمام الشافعي أجمعوا على مكانتهِ العلمية والفكرية، ومنهم من بالغ في إطلاق أوصاف المديح له؛ وهي في الأصل ليست مدحًا في الشافعيّ، بقدر ما هي بيان من هؤلاء الحداثيين أنّ من يصبُّون عليه هجومهم وجمّ غضبهم ليس بالشخص العادي وليس كغيره من العلماء!