تقول الأديبة مي زيادة في افتتاح مخطوطاتها  ليالي العصفورية  "أتمنّى أن يأتي بعدي مَنْ ينصفني"، كتبت مي زيادة هذه الكلمات عندما تعرضت لمظلمة تاريخية كبرى وتم وضعها ظلما وزورا في مصحة الأمراض العقلية، مظلمة تتجاوز مي زيادة في شخصها لتعبر عن أزمة الأديب والمثقف في ذلك العصر وخاصة عندما تكون امرأة. 

منذ أيام مرت الذكرى الثمانين علي رحيلها وها نحن اليوم نكتب حول هذه المرأة عملا بوصيتها ومحاولة لإنصافها و خاصة أن المرأة تركت بصمة وأثرا كبيرا في الأدب العربي. 

 

بعض ملامح وآثار مي زيادة في الأدب العربي: 

  تعتبر مي الأديبة الأولى في عصرنا التي فرضت الأدبية العربية على المجتمع العربي، لم تشبه أبداً  سابقاتها أو حتى من لحقها في الساحة الأدبية النسوية  المعاصرة، لقد مثلت نقطة تحول كبري  في الساحة الفكرية العربية فقد قدمت بأسلوبها الجميل والمتميز الفكرة الناضجة والثقافة العربية الرفيعة واستطاعت  في زمانها أن تجمع الفكر في أدبها والذي كان للأسف في عزلة نوعا ما عن الحياة الأدبية، لقد كانت بمثابة انطلاقة لعصر جديد يقطع مع أزمنة الانحطاط الأدبي وأنهت  تلك الهوة  الواسعة المظلمة  الممتدة  لقرون في تاريخنا العربي باسترجاع  دور المرأة  العربية الريادي بعد أن غابت وغيّبت عن كثير من المجالات وليس الساحة الأدبية فقط بل حتى المجال الفكري والسياسي.    

نجحت مي زيادة  في خلق ديناميكية كبرى في أدبها، حيث جمعت عندها كثير من التيارات الغربية  الشرقية، وساعدها إتقان سبعة لغات في ذلك ومكّنها من الإطلاع الجيّد على أصناف كثيرة من آداب   الحضارات الغربية وهنا تكمن خصائص أدبها حيث وضعت لمساتها الساحرة وأنتجت أدبا عربيا بروح وملامح شرقية ومنفتحا على الآداب الغربية.

لم يزد اطلاع مي زيادة على الثقافات الغربية إلا اتصالا بثقافتها العربية والمحافظة على أصالتها فكان هذا من أبرز أسرار بروز ونبوغ أدبها الذي مضت به في الحياة الأدبية صاعدة إلى القمة الشّماء.

لمي زيادة إضافات كبرى أخرى ومن أهمها:

صالون مي زيادة الأدبي 

 أنشأت مي صالونها الأدبي وكان يقام كل يوم ثلاثاء بمدينة القاهرة، وكان هذا الصالون بمثابة ثورة على كثير من القيم البالية ودعوة إلى مزيد من التحرر الفكري ويعتبر مساحة لكبار الأدباء والمفكرين في ذلك العصر، واستطاعت أن تصنع نوعا من التلاقح الأدبي والحركية الفكرية التي لم تشهد الساحة العربية مثلها، جمعت عندها أعلام الفن والفكر والثقافة والسياسة وتمكنت أيضا من أن تجعل المرأة حاضرة وموجودة في صالونها تناقش الرجال من المفكرين والأدباء وتطرح رأيها وتدافع عنه وكانت  تلك نقطة تحول كبرى وخاصة أن الصالون كان يتناول كل قضايا ذلك العصر فكرية أدبية أو حتي سياسية. 

استطاعت مي بثقافتها الواسعة وخفة روحها وذكائها العاطفي ونباهتها أن تستأثر بكثير من القلوب  و ليس العقول فقط، فقد أحبها الكثيرون وعلى رأسهم الرافعي والعقاد فكانت بينها وبينهم قصة عشق ومراسلات ودون أن ننسى العلاقة والصداقة المتينة مع جبران خليل جبران والتي تجسدت في المراسلات التي استمرت لعشرين عاما. 

 

مي زيادة ومحنة المصحة العقلية

لم يشفع كل الذي قامت به مي في حياتها ومسيرتها وما قدمته للساحة الفكرية العربية من أن تمضي أسوأ فترات عمرها وتتعرض لأكبر مظلمة في حياتها ويتم إيداعها مصحة الأمراض العقلية العصفورية ببيروت بعد أن تعرضت لعملية تحيل افتك ابن عمها جوزيف أملاكها وأدخلها بحيلة كيدية المصحة العقلية بدعوى أنها مجنونة.

 قبل ذلك بقليل قد خسرت في فترة قصيرة أمها ثم توفي جبران خليل جبران الذي أحبته جدا وجمعتهما صداقة لعشرين سنة ومات أيضا في نفس السنة أبوها لتزداد معاناتها وشقاؤها ومن ثم تدخل في موجة اكتئاب حاد جدا لم يكفها ذلك كله لتجد نفسها مرمية في العصفورية. 

من الصالون الأدبي ومحاورة عمالقة الأدب والمحاضرة في أعرق الجامعات والكتابة في أشهر الصحف تجد مي نفسها تواجه مصيرا محتوما وقدرا لا مفر منه "العصفورية " كيف كانت تتعامل مع السجن الذي وضعت فيه؟ كيف كان جسمها يصمد أمام إبر المورفين؟

أسئلة كثيرة يصعب على المرء طرحها!!

كيف يمكن أن  يحصل لفراشة الأدب كل هذا؟

كيف استطاع عقلها الذي يتسع عالما بأكمله أن يتعامل مع أناس فقدوا عقولهم؟

 

عندما قتلت مي زيادة مرتين

وتزداد محنة مي عندما تخلى الكثير عنها ولم يقفوا إلى جانبها وحتى بعد خروجها من المصحة العقلية وعودتها للقاهرة لم تعش المسكينة كثيرا وتوفيت ولم يحضر في جنازتها إلا ثلاثة أشخاص وهم خليل مطران وأنطوان الجميل ولطفي السيد. 

مي التي منحت الكثير لمن حولها ولمجتمعها العربي، ماتت في عزلتها وقتلت مرتين، الأولى عندما عادت إلي القاهرة وربحت قضيتها الجزائية في بيروت وأثبتت صحة مداركها العقلية واسترجعت  أملاكها ولكنها لازالت تعاني من مخلفات محنتها ولكن رواد صالونها الأدبي لم يلتفتوا إليها وتنكروا  لها، أولهم طه حسين والرافعي والعقاد... بل وهي في العصفورية لم يكتبوا عنها ولم يدعموها ولو بكلمة واحدة، لقد تسللوا قلبها وطرقوا بابه سابقا واعتبروا بعد ذلك أنها مجنونة. أما الميتة الثانية عندما سار ثلاثة أشخاص في جنازتها وهي تشيع إلي مثواها الأخير، المقبرة المسيحية بالقاهرة.

بعد حوالي قرن كامل ها نحن نكتب لمي التي رحلت عنا وبقي أثرها ونسعى قدر الإمكان أن ننصفها؛ تقول في مخطوطاتها ليالي العصفورية: "يحقّ لي اليوم أن أتلاشى كما الغيمة، داخل حبّي الّذي شكّلني، وفي عمق وهمي الّذي صنعته، وصنعني أيضًا. دعوني الآن أحلم فقط ولو في عمق الغياب، يحقّ لي ذلك، ولو لثانية واحدة، قبل أن أسير في خطًى هادئة نحو أبديّة الخلاص". (357- 367) ليالي إيزيس كوبيا لواسيني الأعرج.