نظم منتدى كوالالمبور للفكر والحضارة ندوة فكرية عن بعد، وذلك يوم 16 أبريل 2020م، بإشراف من مدير المنتدى د. عبد الرزاق مقري وقد ألقى د. وضاح خنفر رئيس منتدى الشرق الشبابي مداخلة تحدث فيها عن"نحن والعالم: أين نقف في هذه اللحظة؟"، وأتبعها تعقيبات من أ.أنيس متى باحث في الشأن الاندونيسي، د.محمد مكرم باحث في شؤون الصين ودول شرق آسيا و أ.أشرف رشيد باحث في الشأن الروسي.
فيما يلي النصّ الكامل لمداخلة د. خنفر..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
تسريع حركة التاريخ وولادة الجديد!
الحديث عن التيارات الإستراتيجية التي ستؤثر على العالم بعد كورونا هو إستمرارٌ لحديثٍ متصل عن التيارات الإستراتيجية الموجودة عملياً على الأرض قبل كورونا، والجديد في هذا الحال الإستثنائي الذي نعبره أن أزمة كورونا تؤثر منهجيا عبر طريقتين:
- أولًا، تسريعُ حركة التاريخ، بمعنى أن التيارات التي كانت في حالة صعود سوف يتم تسريعها، فتجدُ أن بعض هذه التيارات -التي سنستعرضها الآن تباعاً- تتسارعُ بشكلٍ أكبر مما كان عليه مسيرُها قبل الأزمة.
- ثانيًا، يؤثر كورونا منهجياً في التيارات التي كانت في حالة هبوط أو تراجُع واضمحلال، سيزدادُ تراجعها بسرعةٍ أكبر ليحلَ من بعدها شيء آخر جديد! وهذا ما أُسميه حالة إتاحةِ الفرصةِ للقديم أن يموت، وإتاحة الفرصة للجديد أن يولد.
مُخاطرة الاستشراف «لحظة الزلزال»
هنالك مخاطرة حقيقية لأي دارس للأوضاع الجيوسياسية في العالم في هذه اللحظةِ بالتحديد، لأننا ما زلنا نعيشُ حالة الزلزال، والأرض ما زالت تهتز تحت أقدامنا!
فهناك هزةً متعلقة بالصحة، إذ أنّ انتشار كورونا ما زال مستمرا، والإجابات على الأسئلة المتعلقة بها لم تُحسم بعد، لا سيما إذا ما كنا سنواجه دورات جديدة للمرض بعد تخفيف الإجراءات الحالية، وهناك هزة أُخرى ستؤثر أكثر في مجالات الفعل السياسي والإستراتيجي، وهي الهزّة الإقتصادية التي بدأنا نعيشها بالفعل.
قبل أسبوعين أو ثلاثة لم نكن نعرف أنه في اليوم السادس والعشرين من مارس كانَ العالمُ على شفير الهاوية الاقتصادية، حتى خرجَ إقتصاديون كبار وشرحوا لنا بالتفصيل وبلغة الأرقام ما كان سيحدث، لولا أن الفيدرالي الأمريكي لم يخفض نسبة أسعار الفائدة Interest Rate إلى الصفر، وسارع الكونغرس إلى إجازة 2.2 تريليون دولار للحزم التحفيزية Stimulate Package، ففي الإقتصاد عادةً تعرف كل الحقائق بعد إنتهاء الأزمة وليس خلالها.
الاقتصاد عائمٌ قبل التهاوي!
يمكن أن نتنبأ بأن الأزمة الاقتصادية لم تنته ولن تنتهي بالسيطرة على كورونا، بل على العكس تتعمق، لأن حساب الربح والخسارة سيبدأ بعد قليل. وعندها سنكتشفُ أن العالم قد أسرف في الصرف الهائل بقيادة البنوك المركزية التي تمثل الحكومات في سابقة من نوعها، فالبنوك المركزية الآن هي من يسيطر على العالم الإقتصادي، وتدفعُ بكل قوتها ومن دون حسابٍ، لأجل إبقاء الإقتصاد عائماً قبل أن يغوصَ في أعماقٍ سحيقة لا يعرف مداها أحد!
لذلك نجد أن كل الدول الكبرى الآن تُنفق بسخاءٍ هائل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الإقتصاد، لأن هذا الذي سيحدد معايير الربح والخسارة الإستراتيجية والجيوسياسية بشكلٍ كبير.
ننتقل الآن لرؤية سأُقدمها وهي أولية، وأعتقد أننا اليوم في حالٍ أفضل لدراسة الواقع الاستراتيجي مما كُنا عليه قبل شهر ، عندما كانت دهشة الأزمة تحجب الرؤية.
«محور التركيز» بعد الحروب الوهمية والنمو الصامت
على الأقل أصبح لدينا اليوم بعضًا من الثقة لنقول أن العالم سيتغير تغيُراً أساسياً، وأن هذا التغير سيزداد عمقاً مع الزمن ولن يخف، والدليل على ذلك أن العالم بدأ يسير في أنماط Patterns واضحة.
لنبدأ بالتيار الأول الذي أراه واضحاً أو أستشرفه بشكلٍ جلي على المدى القصير، (عندما نقول المدى القصير فنقصد بها خمس سنوات إلى عشر، والمدى المتوسط نقصد من عشر إلى خمسة عشر عاما، والمدى الطويل نقصد عشرين إلى ثلاثين سنة)، أرى أن الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين التي بدأت قبل عامين، ستتصاعد إلى مستوى لم نتوقع أن تصل إليها.
والسبب في ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية أدركت منذ وقتٍ ليس بالقريب، وإنما منذ فترة أوباما كما أظهرت الوثيقة التي كانت قد صدرت عن أولويات الأمن الأمريكي، وضعت الصين ومنطقة شرق آسيا وجنوبها في محور تركيزها.
بخلاف إدارة جورج بوش التي بعد أن أسرفت في وضع الإرهاب في المحور، واكتشفت الإدارات الأمريكية بعدها أن الحرب على الإرهاب كانت حرب أوهام، لأنك قُدت معارك طاحنة ضد أشباحٍ في كهوف باكستان وفي صحراء العراق ولم تستطع أن تُقدم للأمن الأمريكي على المستوى الدولي قيمةً تذكر سوى محاولةِ تثبيت الهيمنة العسكرية الأمريكية عالمياً!
ولكن بالمُقابل بينما كنت أنت كأمريكي منشغل في هذه الحروب الوهمية فقد انشغلت الصين بهدوءٍ وصمت في بناء اقتصادها بنسب نموٍ لم يعرفها العالم من قبل، وانشغلت روسيا باستعادة عافيتها بعد سنوات الانهيار والضياع التي أعقبت سقوط الإتحاد السوفياتي.
ولذلك فإن سياسة إدارة جورج بوش أوهنت الموقف الأمريكي إستراتيجياً، وحاول أوباما أن يتدارك ذلك من خلال إعادة توجية البنية الإستراتيجية والعسكرية والإمكانيات باتجاه جنوب شرق أسيا والصين، وجاء ترامب ليبدأ حربا اقتصادية متأخرة ضد الصين، بأسلوب تعوزه الرصانة.
العولمة بين من يتشبث بها ويتراجع عنها
إنّ الذي حدث قبل سنتين من تصاعد للحرب الاقتصادية هو نتيجةَ تيارٍ أصيل في الاستراتيجية الدولية الحالية، قِوامه ما يلي: العولمةُ بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أصبحت غير ذات جدوى بل ذات خسائر، وعندما أقول "العولمة" هنا فلا أقصد الثقافية والإعلامية والترفيهية، فهذا كلام آخر سنتكلم عنه. ولكنّي أقصد العولمة الاقتصادية، فقواعد منظمة التجارة العالمية تخدمُ الصين حاليا، ولذلك فالصين متمسكة بالعولمة وأمريكا تتراجع عنها.
لاحظنا في السنتين الماضيتين أن الولايات المتحدة الأمريكية، وخلافاً لقواعد التجارة الحرة، بدأت تفرض قيودا على المنتجات الصينية. وبدأت تحاول تأسيس منهجٍ عالميٍ جديد يحتوي الصين ويبعدها عن حالة النمو الهائل الذي تعيشه، من خلال الضغط على حُلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بعدم إستقبال المنتجات الصينية خاصةً الذكية، بمعنى ذات القيمة المرتفعة مثل تقنية الجيل الخامس من الإنترنت G5 والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence، والبيوتكنلوجي، والروبوتية Robotics والكمبيوترات فائقة السرعة وخلافه، كلها ستُمثل الثروة الصناعية الرابعة، وغيرها من المنتجات التي ترى الولايات المتحدة ويرى العالم أجمع أن الاقتصاد العالمي في مستقبله سيتمحور حولها، وأن التنافس عليها هو الذي سيحدد من سيقود العالم ممن سيتراجع عن ذلك.
المُلك لمن يملك تقنيات المستقبل
الصراع إذن هو على من سيملكُ البنية التحتية الضرورية لمثل هذه الصناعات، لأن استعمال تقنية الجيل الخامس من الإنترنت G5 سيكون جوهريا في تقديم هذه المنتجات إلى العالم، فالذي يملك البنية التحتية للإنترنت سيتحكم إلى حدٍ كبير بهذه المنتجات الكبرى وبالتالي سيتقدم إقتصادياً.
لاحظوا ذكاء الصين، في العقود الماضية كنا نعرف أن منتجاتها ذات قيمةٍ منخفضة فيُقال «هذا منتجٌ صين» بمعنى أنه رديء . ولكن في السنوات القليلة الماضية انتبهت الصين إلى أن السباق في العالم ليس على كثرة المنتج بل نوعيته. ولذلك اليوم نجد المنتجات الصينية قد ارتقت نوعاً وكمّاً، وبدأت تبحث عن أسواقٍ متنوعة، وهذه نقطة جوهرية وأساسية لأن الصناعات الصينية في الذكاء الإصطناعي والإنترنت وخلافهُ بدأت تُنافس بكفاءةٍ عالية وبتكلفةِ إنتاجٍ أقل من الولايات المتحدة الأمريكية.
و نقف هنا قليلا.. إن العمود الفقري في العلاقات الدولية للصين يتمحور حول الإقتصاد وهذا واضح جداً، ولكن ما هي البنية التي استخدمتها الصين من أجل توفير الحامل لهذه السياسة الإستراتيجية؟!
هو المشروع الذي بدأته الصين باستثماراتٍ عملاقة وهو مشروع الحِزام والطريق Belt & Rood ويسمى طريق الحرير الجديد، فكما نعلم فإن الصين زودت العالم عبر آلاف السنين بمنتجاتٍ كثيرة عبر طريق الحرير، وأعادت إحياء هذا الطريق من خلال منظومة مركبة من الطرق والأنفاق والقطارات وكذلك البنى التحتية التقنية بالإضافة طبعاً للسفن والموانئ.
وهذا في الحقيقة إنجاز عظيم جداً، بمعنى أنه بينما انشغل العالم في تَمَلُّك أكبر شركاتٍ للبرمجيات software؛ (أمريكا تملك هورايزون، وآبل، ومايكروسوفت، وجوجل…) انشغلت الصين أيضاً في بناء أكبر بنى تحتية في الماديات Hardware، أي في المنتجات الفعلية الحقيقية على الأرض.
لماذا؟ لأن الصين إذا تمكنت من تسليم وتوصيل المنتج للعملاء بسرعة وبتكلفةٍ بسيطة، سيصبح منافسا عالميا بجدارة، والصين لا شك أنها فعلت ذلك بشكل واضح.
لذلك العولمة بالنسبة للصين هي مسألة حياةٍ لاقتصادها، أما بالنسبة للولايات المتحدة فالعولمة تعني إعطاء فرصةٍ أعلى للصين وتخفيض فرص الولايات المتحدة الأمريكية في استمرار هيمنتها الاقتصادية.
لذلك سنرى أن الصين ستدافع عن العولمة، مع أن هذا فيه شيء من التناقض الفلسفي، لأن الصين كما تعلمون يقودها حزبٌ شيوعي. لكنها اليوم تقودً نظاماً رأسمالياً بامتياز وتُدافع عنه دفاعاً مستميتاً!
وأعيد مرةً ثانية أنني أقصد العولمة الاقتصادية لأن الصين لا تزال بعيدة عن العولمة الثقافية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، ويُتوقع أن تقودها على المدى البعيد أيضاً.
هرم القارة العجوز
ننتقل للتيار المتوقع الثاني، أين موقع أوروبا من كل هذا الصدام؟
أوروبا في الحقيقة بدأت تتراجع منذ ثلاثة عقود، لأن بناها التحتية والديموغرافية بدأت تشيخ. فكما تعرفون أن اليابان تحتل مرتبة أعلى نسبة شيخوخة في العالم ثم تليها إيطاليا وتأتي بعدها ألمانيا. معظم دول أوروبا الشرقية وحتى روسيا لديها إشكالية متعلقة بمتوسط الأعمار، فنسبة الذين تزيد أعمارهم عن 65 تزدادُ بشكلٍ كبير حيث تتراوح نسبتهم بين 27% و 22% أي ما يقارب الربع.. فما الذي يعنيه ذلك؟
يعني أن دخل الدولة سيتجه لإعالة وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية لهذه النسبة الكبيرة من كبار السن، مما يقتضي قلة الإنفاق في المؤسسات الأخرى، وهذا تكلفته كبيرة على الدولة.
ولكن هناك شيء آخر في مسألة الديموغرافيا السكانية Demography وهو أن نسبة النمو السكاني أيضاً في تراجع وهذا ما نعرفه جميعاً، فنعلم أن نسبة السكان في ألمانيا تتراجع مما يجعلها في حاجة إلى المهاجرين وأوروبا الشرقية أيضاً لديها مشكلة كبيرة في هذا الأمر وحتى أوروبا الجنوبية. وهذا كله يعني أن أوروبا تشيخ، فماذا نتوقع أن يحدث في أوروبا؟!
الأزمة الكبرى.. العقد القَادم بدون منظومة واحدة!
سيبقى الإتحاد الأوروبي قائما، فأنا لا أتنبأ بسقوطه في غضون المدى المتوسط أبداً، لكن في الغالب ستتشكل تكتُلات أوروبية ضمن الإتحاد الأوروبي. أي أنه من المتوقع أن ألمانيا وفرنسا ستتقاربان اقتصاديا، ومن المتوقع أن جنوب القارة وأقصد بذلك اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، ستُشكل تكتلاً ما وذلك لتقارب مصالحها.
ثم أتوقع أن تشكل الدول الإسكندنافية تكتلاً أيضا، وكذلك دول شرق أوروبا قد تشكل تحالفاتٍ ما بنفوذٍ أكبر لروسيا، ويتعاظم النفوذ الأكبر للصين كذلك في شرق أوروبا.
إذاً أوروبا ذات الطبيعة الموحدة التي عرفناها منذ التسعينيات ستتغير، فنموذج الاتحاد الأوروبي كان ناجحا ورائدا، إذ جمع المتناقضين ضمن منظومةٍ واحدة، ولكننا لن نراه مرةً أخرى بنفس القوة في العقد القادم!
لقد رأينا أفضل ما يمكن أن يقدمه الإتحاد الأوروبي، ومن الآن فصاعداً ستكون هناك إشكالات لها مظاهر متعددة، من بينها أن الدول بدأت تنظر بأنانية إلى إمكانياتها داخل الاتحاد؛ فكل دولة لديها إمكانيات تريد أن تخدم مواطنيها، مع العلم أن العمود الفقري للاتحاد الأوروبي هو الاقتصاد وليس السياسة. وهذه أزمة أوروبا الكُبرى! فقد أنشأت منطقة اليورو Eurozone على المستوى الإقتصادي، وأقامت الشنغن على المستوى البشري، لكن ما زالت كل دولة تتمسك بأولوياتها السياسية على المستوى السياسي محاوِلَةً أن تقدم مصلحة مواطنيها على كل شيء آخر! واقتراب الانتخابات في كل هذه الدول سيزيد من رغبة السياسيين في كسب حظ أوفر.
إذاً أوروبا لديها مشكلة بنيوية جوهرية ولكن أيضاً لديها مشكلة اقتصادية، فأوروبا تتراجع إقتصادياً ويتراجع النمو بسبب كورونا.
تعلمون جميعاً الآن، أن صندوق النقد الدولي والمؤسسات الائتمانية الكبرى، يتحدثون عن نسبة انكماش في الاقتصاد تصل في بعض الدول إلى 8% و 9% و 6%، وأنه سيصل إلى 3% على مستوى العالم! الإنكماش يعني أن نسبة النمو الإقتصادي ستكون سالب 3 أي أقل من الصفر!
بالنسبة للصين، ستتراجع هي أيضا عن نسبة النمو التي قد أعلنتها مسبقا لهذا العام، لكن نموها على الأرجح سيبقى فوق 1% وهذا يعني أن الصين ستخرج من المعركة الإقتصادية أفضل حالاً، ليس بالشكل الذي كانت تخطط له لعام 2020 ولكنها أفضل حالا من الاقتصاد الأمريكي الذي خسر اليوم ثلاثين مليون وظيفة أو الاقتصاد الأوروبي الذي سيعاني بشكلٍ أكبر، وبالتالي فنحن أمام مشكلة حقيقية والنمو لصالح الصين.
انكماش قد يرعب العالم... بين الربح والخسارة
ننتقل للنقطة الثالثة وهي روسيا، فأين موقعها؟ روسيا دولة مستفيدة على المدى القصير في جوانب وخاسرة في جوانب أخرى؛ فضعف أوروبا يُريحها استراتيجيا من ناحية، لكنها من ناحية أخرى ستخسر روسيا اقتصاديا لاعتمادها على صادرات الغاز إلى أوروبا التي تتباطأ اقتصاديا، ولذلك هي بحاجة لأن تبقى أوروبا فاعلة إقتصادياً لتشتري الوقود من روسيا.
تراجع أوروبا السياسي والاستراتيجي مفيد لها لأن روسيا لها أطماعها في جوارها، خصوصا في أوكرانيا وبيلاروسيا، وجورجيا مالدوفيا، وهذه دول ذات عمق استراتيجي بالنسبة لروسيا، بمعنى أن أي رئيس روسي سواء بوتين أو غيره، سيأتي يوماً ما ويفكر بأن تبقى هذه الدول تدور حول المحور الروسي لأسباب جيوسياسية بحتة.
الأزمة الحالية ستفيد روسيا لأن دعم أوروبا لهذه الدول الآن سيقل في حال انشغالها الدائم بنفسها، فروسيا مرتاحة على المستوى الجيوسياسي ولكنها ليست كذلك على المستوى الإقتصادي؛ لأن مشكلة الطلب العالمي على النفط والغاز يتراجع مع حالة الانكماش الاقتصادي، وأسعاره قد تراجعت بالفعل.
بالنسبة للنفط فإننا نعرف أن تراجع استهلاكه كان بالفعل تيارا عالميا ملحوظا قبل كورونا، لأن العالم كان قد بدأ يتكلم عن الطاقة النظيفة وعن التغير المناخي climate change، وبدأ يبحث عن وسائل جديدة. وجاء الانكماش الاقتصادي الذي رافق كورونا ليزيد الأمر سوءاً، لذلك فمشكلة تراجع اسعار البترول وحاجة الناس إليه هو تيار أصيل وليس تياراً طارئاً، وسيستمر في المستقبل!
العالم سيبدأ على المدى المتوسط والبعيد بالتخلي عن البترول لأجل الحصول على كمياتٍ أكبر من الطاقة النظيفة، ولذلك نخلص إلى أن روسيا في حالة اقتصادية متراجعة على مستوى أبعد، وفي حال انكماش روسيا إقتصادياً فسيكون ذلك مرعبا على مستوى العالم لأنها دولة ضخمة! فإمداد الولايات البعيدة سيشكل تحديا، وعملية المركزة الاقتصادية في روسيا ستعاني مستقبلاً من إشكالات التباين الكبير بين الفقراء والأغنياء و بين البعيدين والقريبين، بالإضافة لوجود الصين في الشرق.
تنافس مؤجل والإسلام ينمو في روسيا
إن قويت الصين ضمن منظومة دولية متفككة فإنها ستنظر لمنغوليا بعين الطمع، وبما أنها تستفيد حالياً من شرق روسيا من أجل إستخراج البترول، فإن طمعها بتلك المناطق النائية من روسيا سيزداد، وسيزداد ربما عدد الصينيين المهاجرين لتلك المناطق، وهذا ما يمكن أن يكون عاملاً جيوسياسيا جديداً.
لكن الإشكالية الكبرى في روسيا أيضاً سُكانية، فروسيا اليوم عدد سكانها بحدود 146 مليون و كل ال 146مليون هؤلاء يفترض أن ينموا مع الزمن 2% و 3%، لكن في الحقيقة في عام 2050 تقول أرقام الأمم المتحدة أن روسيا سينكمش عدد سكانها ل135 أي أنها بعد 30 سنة ستنقص 10 مليون.
هذا بالمقابل في حال بقيت الأمور كما هي عليه. فإن آسيا الوسطى الجوار الاستراتيجي العميق لروسيا والتي تمثل سوقا مهمة جداً، سيزداد عدد سكانها. فالآن عدد سكان آسيا الوسطى بحدود 70 مليون ومتوقع في عام 2050 أن يكونوا 100 مليون، وهذا مهم لأن معظم سكان آسيا الوسطى من المسلمين.
بالإضافة أن نسبة نمو المسلمين داخل روسيا نفسها أعلى من نسبة نمو الروس وهذا متوقع أن يزداد مع الزمن و يخلق حالة جديدة تستحق الدراسة.
الصين وروسيا في حالة تفاهم الآن وسيستفيدان على المدى القريب من بعضهما البعض، فلديهما أهداف مشتركة في السنوات الخمس إلى العشر القادمة على المستوى الجيوسياسي والاقتصادي، ولكن على المدى الوسيط والبعيد سيكون هناك تنافس، لأن الطريق الجديد -طريق الحرير بكل تشعباته- والذي تشقه الصين عبر آسيا الوسطى، سوف يزيد من اعتماد آسيا الوسطى على الصين، أي تراجع اعتمادها على روسيا، مما يزيد الأمور سوءاً بالنسبة لروسيا.
ولذلك فمن المتوقع أنهما ستدخلان في حالة تنافس لاحقا، هذا إن افترضنا عدم وجود أي تصعيد في شرق روسيا للنفوذ الصيني في حال احتاجت الصين لمزيدٍ من التوسع، مما يعني صداما أكثر شراسة.
إذاً العلاقات على المدى البعيد ليست حميمة ولكن على المدى القريبة ستستفيد كلا الدولتين من تراجع الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، وبذلك يصبح تقاربهما مفيدا.
تنافس الحلفاء في العمق الاستراتيجي
روسيا في الحقيقة سيئة الذكر في عالمنا العربي؛ لتدخلها في حماية بشار الأسد من ناحية، وتدخلها لحماية حفتر من ناحية أخرى، وبالتالي هي ليست ذات قيمة لشعوبنا، ولكن نجحت بفاعلية أن تصنع وضعاً جيوسياسياً وأن تفرض نفسها على الأرض فرضاً حقيقياً!
وهذه الحقيقة مشكلة حتى لأولئك الذين فرحوا لدخول روسيا، الإيرانيون مثلا عند مجيء روسيا للمنطقة لحماية بشار كانوا سعداء بذلك، لكن إيران اليوم تدرك أن وجود روسيا في سوريا ليس لحماية المصالح الإيرانية.
وقد رأينا كيف أن روسيا تفاهمت مع إسرائيل على الضربات التي وجهت على النفوذ الإيراني في سوريا، بأكثر من 45 ضربة كلها تمت بموافقة وتسهيل روسي و بعدم اعتراض الدفاعات الموجودة في سوريا.
إذاً لا أحد في هذه المنطقة يحب روسيا؛ فقد حاولت أن تلعب دور الدولة الإقليمية أيضاً، فدخلت في صراع وتنافس حقيقي مع تركيا، وسوريا تمثل عمقا استراتيجيا لتركيا، كما أن أوكرانيا وشمال جورجيا تمثل عمقا استراتيجيا بالنسبة لروسيا. وبالتالي عندما جئت ونافست حليفك الإقتصادي الرئيسي (تركيا) في عمقه الإستراتيجي فقد خسرت ثقته.
لذلك فالأتراك رغم إضطرارهم للتعاون مع روسيا فهم لا يحبونهم؛ ليس فقط للأسباب التاريخية، (فكما نعلم وقعت 14 حربا بين روسيا وتركيا، وشكلت هذه الحروب العقلية الإستراتيجية التركية إلى اليوم. وتركيا اضطرت لأربع من هذه الحروب لكي تحمي ذاتها أن تستعين بالغرب كالفرنسيين والبريطانيين، خاصة في حرب القرم ذات التاريخ المشهور.) لكن اليوم روسيا دخلت في تنافس مع تركيا، وتنافس غير محمود مع إيران. مما يجعلها غير مقبولة في المنطقة.
لذلك تجد أن موازين القوة الروسية المندفعة غير منضبطة بوعي إستراتيجي حقيقي، لا يمكن أن تؤدي لتحالفات مستقرة، ولذلك لا إيران ترغب أن يكون التحالف مع روسيا سرمدياً أبدياً ولا تركيا، بل كلاهما يتمنيان أن يتراجع النفوذ الروسي في المنطقة .
قواعد القوة في السيطرة على العالم
الآن لنضع أمامكم هذا الافتراض للنقاش:
النفوذ الهائل للصين في الفترة القادمة على المدى البعيد، مثلا بعد 25 سنة، ستملك بلا منازع الاقتصاد الأول عالمياً، فهل سيسند ذلك نفوذٌ إستراتيجيٌ عسكري؟ أم سيبقى تفوقها في الإطار الاقتصادي فقط؟
طبعاً لا يوجد نفوذ اقتصادي في العالم لا يحتاج لقوة صلبة hard power تسانده، وهي بالفعل تمارس حاليا التأثير الدولي بشكل ملحوظ.
وقد رأينا حين وضعت الصين المسلمين الإيغور في المعسكرات كم دولة مسلمة إضطُرت أن توقع بياناً تساند الصينيين، أو أن تسكت عن الجريمة، وذلك كله بسبب النفوذ الصيني وتدخله الدبلوماسي اللحوح.
فعندما يكون لديك نفوذ اقتصادي، لا بد لك من نفوذ سياسي لحماية هذا الإقتصاد. فإذا لم ينجح هذا التدخل السياسي يكون التدخل من خلال الحرب بالوكالة proxy war، فإذا لم تنجح يكون هناك تدخل عسكري مباشر.
الصين نجحت خلال العقود الماضية في أن تبني إستراتيجية بعيدة وقالت في تصريحات صحفية وحتى الأمس بأنها ليست نداً للولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم لا يريدون أن يكونوا دولة مسيطرة على العالم. فهم دائماً يعكسون هذه الطبيعة المتواضعة. لكن في النهاية، قواعد القوة تقول بأنك تحتاج لنفوذ دبلوماسي حتى تحمي نفوذك الإقتصادي، وإن لم يكن لديك نفوذ دبلوماسي فستحتاج لموازين قوة عسكرية ليكون لك نفوذ دبلوماسي!
المُؤدب لا مكان له في موازين النفوذ!
وهذه السلسلة متصلة، فلا أحد يحب الإنسان المؤدب في العلاقات الدولية فهي ليست أخلاق و قيم بل موازين نفوذ وقوة، والصين تفهم هذا أفضل من غيرها. والصين في ذاكرتها قرنٌ من الإهانة يسمونه The century of humiliation وهو قرن الإذلال من منتصف القرن التاسع عشر لمنتصف القرن العشرين حتى الحرب العالمية.
وهذا القرن ما زال مؤثراً على العقلية الصينية، فالصين تعرف أنها أُهينت عند انكماشها و انعزالها وانكفائها، واحتُلت موانئها وأُجبرت على التخلي عن بعض أراضيها وأيضاً أُجبِرَت على توقيع إتفاقياتٍ مُذِلّة لحساب الروس والألمان وكذلك للبريطانيين في حرب الأفيون.
كل هذه الدولة انتهكت سيادة الصين وكسبت منها في ذلك القرن، ولذلك انشغال الصين بالعالم ضرورة من ضروريات حماية مصالحها فلا داعي أن نفكر بالصين كدولة منعزلة سياسياً إن واصل نفوذها الاقتصادي مسيره نحو المستقبل..
يستقوي في ظلّ العزلة.. مصدرٌ جديدٌ أكثر أمنًا!
أما فيما يتعلق بعالمنا العربي ومنطقة الشرق، فنبدأ بتركيا. أتوقع أن تواصل تركيا صعودها الاستراتيجي في المنطقة.
الإقتصاد التركي على المدى القريب سيعاني إشكاليات بسبب ديون القطاع الخاص. وستضطر للجوء لبعض القرارات الاقتصادية أو ربما الاقتراض، وهذه حالة عامة في العالم أجمع، حيث أن تسعين دولةً حتى الآن قد قدمت بالفعل للبنك الدولي للاقتراض.
لكن على المدى المتوسط، عندما تنظر إلى تركيا فأنت تتحدث عن اقتصاد متنوع وعن نسبة نمو سكانية عالية وحيوية وعن نشاط في المجتمع التركي مذهلة مقارنة ببقية دول أوروبا فهي الأعلى من حيث فاعلية الفرد.
ثم من ناحية أخرى فإن توسطها الجيوسياسي فريد، فليس هناك دولة تتمتع بموقع جيوسياسي مثل تركيا، فالله اختار لها هذا الموقع المذهل لأنها بين أوروبا وآسيا، فهي في قلب يوريسيا Eurasia وبالتالي فهي تتحكم في معابر مهمة جداً، ولديها إمكانية لتكون حلقة وصلٍ إقتصادي مهم.
وفي حالة كورونا إذا كنا نتحدث عن تراجع العولمة ومحاولة أمريكا وبعض الدول الأوروبية لتقليل الاعتماد على المنتجات الصينية، فيمكن لتركيا أن تقدم نفسها كمصدر جديد للإنتاج يكون أقرب وأكثر أمناً للدول الأوروبية.
تركيا لن تنضم للإتحاد الأوروبي فلا هي تريد ذلك ولا أوروبا ستسمح، وهذا تحديدا ما سيدفع بتركيا نحو مزيد من الصعود الاستراتيجي، فأن تكون عضوا في نادي أوروبي يعني أن تلتزم بقواعده، وهذا يقلل من نفوذ تركيا ويشدها إلى الخلف، فتركيا ستواصل صعودها السكاني ونموها الاقتصادي على المدى المتوسط ثم البعيد، وسيزداد نفوذها العسكري؛ لأن تركيا أدركت منذ وقت أنك لكي تحمي نفسك من كل هذه التناقضات الجيوسياسية سواء من حليفٍ متربصٍ بك مثل روسيا أو عدوٍ مباشر كالأنظمة الموجودة في سوريا على سبيل المثال، أو من جار تعلم أنك ستدخل معه دائماً في تنافس إستراتيجي كإيران، ثم أوروبا التي لن ترض عنك مهما كانت الظروف.
وبالتالي نستطيع القول أن تركيا بمعزلٍ عن كل تحالفاتها تريد أن تقوي نفسها كدولة ذات نفوذ إقليمي. وسياسة حكومة حزب العدالة والتنمية نجحت في تأسيس هذا التوجه الاستراتيجي للدولة التركية بكل مؤسساتها العسكرية والأمنية، فالصناعات العسكرية تصاعدت بمعدلات غير مسبوقة، والاستثمار في الأسطول والغواصات الجديدة كانت في غاية الأهمية! فلم يكن لديها أسطول بحري فاعل ولا غواصات ولا حاملات طائرات.
ولذلك أتوقع أن نفوذ تركيا بشرق المتوسط، وأقصد بشرق المتوسط المنطقة الممتدة حتى ليبيا، لأن الاتفاقية البحرية التي أبرمتها مؤخرا مع ليبيا في غاية الأهمية الإستراتيجية لأنها تقطع المجال على اليونان وكذلك على إسرائيل للاستثمار المنفرد للغاز في شرق المتوسط، وتفتح المجال لتركيا لعبور سفنها بأمان.
النفوذ التركي سيزداد في الفترة القادمة ولن تستطيع تركيا أن تتخلى عن دعم حكومة الوفاق الليبية لارتباط ذلك بأمنها القومي المباشر بعد إبرام هذه الاتفاقية.
ثم أن تركيا لن تتخلى عن نفوذها في سوريا أو العراق لأن التنافس عليهما الآن هو مع إيران، بوجود روسيا على المدى القريب في سوريا لكن هذه الأخيرة لن تستطيع البقاء في هذا المكان طويلا.
إذاً الإقليم سيعيش حالة من الصعود التركي، وماذا عن إيران؟
إيران منهكة اقتصاديا، ومتعبة سياسيا، ولديها مشكلات داخلية حقيقية، لكن النظام الإيراني لديه امكانيات البقاء رغم كل هذه التحديات، أما على المستوى الإستراتيجي فستحاول إيران الاستفادة من عاملين؛ أولاً الصعود الصيني، ولذلك سنجد تقاربا مع الصين أكبر منه مع روسيا، وثانياً ستلجأ إيران في الأيام القادمة لاستفزاز الأمريكان في المنطقة لتخفيض الحصار عليها وهذا ما شاهدناه عندما تصاعد التوتر في مياه الخليج وسنشاهد مزيدا من ذلك في الأيام القادمة.
الوعي الاستراتيجي القادم
العالم العربي هو أضعفُ مكونات الشرق على الإطلاق، وذلك لأن الحكومات غير قادرة على توفير بيئة إستراتيجية للتفكير!
لا يوجد من لديه رؤية إستراتيجية في عالمنا العربي، فقد اعتبرنا أن أمريكا هي الأول والآخر في كل شيء وأن إسرائيل هي مندوبها السامي في المنطقة، والكثيرُ من دولنا قد انساقت وراء هذا الاندفاع من دون تفكير ومن دون مصلحة.
وفي المقابل ليس لدينا تفكير إستراتيجي مستقل فيما لو أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تنكمش وتنعزل إستراتيجياً وتتجه نحو داخلها بعيداً عنّا. وليس لدينا رأي حول إمكانية أن نشكل مركز ثقل جيوسياسي في المنطقة مع تركيا وإيران على سبيل المثال، بل دخلنا في عداءٍ معهما –أتكلم عن الحكومات وليس الشعوب-.
وبالتالي فنحن الآن نعاني من مشكلة جيوسياسية في المنطقة؛ قِوامُها فراغٌ في الذهنية العربية في التفكير والعرب غائبون عن المشهد الجيوسياسي في المنطقة!
لكن هذا لن يستمر لأن الشارع والإنسان العربي اليوم مُسيّس، وعقله أكثر انفتاحاً ووعياً، ونحنُ مقبلون على تغيرات سياسية في عالمنا العربي في المستقبل إن شاء الله.
لن يُسمح لهذه الأنظمة التي أفشلت تجرِبتنا مائة عامٍ من الزمن أن تستمر، لأنها غير قادرةٍ على الإستمرار. فهي من جهة عاجزة عن تقديم الخدمات للمواطنين، وسيظهر ذلك مع الأزماتٍ الاقتصاديةٍ الهائلة القادمة علينا، ومن جهة أخرى هي فاقدة للشرعيةٍ السياسية القائمة على الديمقراطية والحرية.
فلماذا نتحمل مثل ذلك على المدى البعيد؟! إن احتملته أجيالنا فالأجيال القادمة لن تفعل، وقتها سيخرج عقل إستراتيجي عربي يفكر بالشرق جميعاً؛ بالمشرق وشمال أفريقيا ككتلةٍ إقتصاديةٍ إستراتيجيةٍ واحدة تتحاور مع الجوار وتدخل في حالة من الأمن والإستقرار الإقتصادي والسياسي. جزاكم الله خيراً والسلام عليكم ورحمة الله..