يمكن القول أن العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة تلازم وإن اختلفت موضُوعاتهما، وكما يقال (إن موت الفلسفة يلازمه موت الشعر) وقد ظلت العلاقة بينما وطيدة إلى أن وصف أفلاطون الشعراء بأنهم صناع وهم ومُفسدوا عقول" فظهر اتجاه فلسفي عدائي للشعر.

وأوجه التلاقي بين الشاعر والفيلسوف كثيرة نذكر منها:

النظرة الاستعلائية للشُعراء والفلاسفة 

فطالما يُنظر إلى الفلاسفة والشعراء نظرة النخبة المثقفة في المجتمع قديما وحديثا، ومن هنا يمكن القول إنه من البدهي أن يشتركا في النزعة الاستعلائية، وباستقراء تاريخ الفكر البشري نجد هذه الظاهرة واضحة في صفوف النخب، ومن أكثر الفئات والطوائف بَلية بها الفلاسفة والشعراء، حيث عرف عبر التاريخ، فلاسفة يتعالون على باقي فئات المجتمع وذلك باستعمال لغة تقنية خاصة، فيها من الإغراب ما يعيق محاولة الفهم لدى القارئ العادي، وقصدُ الفلاسفة من ذلك هو حماية الفكر من فهم العوام حسب زعمهم.

 فنجد مثلا في التراث الفلسفي الإسلامي وعلى وجه الخصوص في كتابات ابن رشد بعضا من الاستعلاء حيث يعدل عن استعمال اللغة الواضحة التي تحقق مقصد الفهم، واستعمال لغة أخرى مليئة بالالغاز والرموز خاصة في شروحاته على أرسطو وكذا ملخصاته، والأمر نفسه نجده عند الكندي خصوصا في مقولته الشهيرة " تأييس الأيسات من ليس"، فكل من يقرأ هذه المقولة يصعب عليه فك شفرتها، نظرا لاستعمال الفارابي معجما في غاية الإغراب إذ لو كان مقصده هو البيان لقَال "إيجاد الموجودات من عدم" وانتهى الكلام، ولكنه عدل عن البيان لحاجة في نفسه.

الجدل العقلاني التجريبي

أريد هنا أن أسوق قصة الفيلسُوفين، العقلاني ليبنيز والفيلسُوف التجريبي جون لوك، هذا الأخير انتقد الفلسفة الديكارتية والمنهج العقلاني عموما، ودعا لتأسيس منهج فلسفي قوامه الحس والتجربة، ويؤمن بأن العقل صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تكتب فيه، فألف كتابه الشهير محاولات في الفهم البشري ليسْتحسن فيه المنهج التجريبي، ويبخس من قيمة المنهج العقلاني، لكن الفيلسوف الألماني ليبنتز كان قريبا من مذهب ديكارت إلى حد القول بأن فلسفته تتأطر ضمن التقليد الديكارتي في كل حيثياتها، فقرأ كتاب جون لوك ولم يعجبه النقد فسَجل ملاحظات على كتابه ثم أرسلها له، وانتظر الجواب من جون لوك فأجابه بجملة قال فيها:

"إننا في راحة تامة مع السادة الألمان جيراننا لسبب واحد، هو أننا لا نقرأ ما يكتبون وهم لا يفهمون ما نكتب" فغضب ليبنيز وألف كتابا للرد عليه سماه "محاولات جديدة في الفهم البشري"

وعموما فإن هذا الجدل بين التجريبيين والعقلانيين يعد أكبر معركة في تاريخ الفكر، وفي التأسيس لنظرية المعرفة، إذ أن كلا منهما يقترح منهجا معينا لقيادة العقل، إلا أن الخصومة بينهما تبقى خصومة عشاق كما يصفها هيدغر.

وعودة إلى التصور الإسلامي وبالضبط إلى ما كتبه الغزالي في تهافت الفلاسفة، نجد أن الكثير من الباحثين وصفوا صنيعه بالضربة القاضية، لاستكبار الفلاسفة في ادعائهم التوصل إلى الحقيقة في الماورائيات، غير أن القول بالقضاء على الفلسفة من طرف الغزالي فيه نظر، ويحتاج إلى تدقيق ليس هذا هو مجال التفصيل فيه.

وإذا ما تركنا الفلاسفة جانبا واسْتدعينا الشعراء من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، سنجد هذا الاستعلاء حاضرا بقوة في دواوينهم وقصائدهم، والذي لا يمكن في تقديري الشخصي أن نختزله في جنس الفخر الأدبي بقدر ما هو كبرياء واعتداد بالنفس ونَرجسية.

بقول أبو العلاء المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانُه لآت بما لم تستطعه الأوائل

ينافس يومي فيّ أمسي تشرفا وتحسد أسحاري عليّ الأصائل

وقال أبو فراس:

متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى طويل نجاد السيف رحب المقلًّد

متى تلد الأيام مثلي لكم فتى شديدا على البأساء غير ملَهد

فإن تفْتدوني تفتَدوا أشرف العلا وأسرع عواد إليها معود

أما الشاعر المتنبي فلا يكاد يقول قصيدة إلا وتجد الأنا النرجسية والبواعث النفسية حاضرة فيها، ونحن نحفظ جميعا أبياته الشهيرة التي قالها لسيف الدولة.  

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملئَ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وقال في سياق آخر:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إن قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

وأما المعاصرون فنذكر ما قاله بدوي الجبل وهو من أبرز شعراء سوريا توفي سنة 1981 ولم يخل شعره أيضا من الاستعلاء

كل مجد يفنى ويبقى لشعري شرف باذخ ومجد أثيل