إنه من المفيد أن تُكثف الكتابة والإنتاج السمعي البصري في تاريخ الثورة النوفمبرية بأشكال متجددة جذابة، وذلك لسببين على الأقل، بسبب صعود أجيال جديدة مقطوعة عن السردية الشفوية للثورة التحريرية خلافا لجيل الاستقلال الذي نشأ أفراده على قصص الجهاد والاستشهاد التي استمعوا إليها مباشرة من جيل المجاهدين مباشرة، وبسبب تصاعد ثورة التحرير في فلسطين بعد معركة طوفان الأقصى لكي تستفيد المقاومة الفلسطينية من تجربتنا الثورية الخالدة.

لقد نشأ جيلنا فعلا في سنوات الاستقلال الأولى على التعلق العقلي والعاطفي الشديد بثورة نوفمبر المجيدة، لا من خلال قراءة التاريخ من الكتب ولكن بالاستماع لأحداث كانت قريبة الوقوع من صانعيها مباشرة. أذكر جيدا أيام الطفولة الجميلة التي عشناها في وسط العائلات الثورية في حي “العرقوب” العتيق بالمسيلة، وهو من معاقل الفداء والمنظمة الثورية المدنية في المنطقة، ومسقط رأس رئيس مجموعة الستة ومنسق الثورة عند اندلاعها سي محمد بوضياف، تلك الجلسات التي كنا نسمع فيها قصص بطولات المجاهدين وأخبار الظلم ومداهمات البيوت التي كان يقوم بها عسكر الاحتلال، والتعذيب البربري في مقر “لاصاص” الذي أقاموه في مفترق طرق شارعين أساسيين من الحي.

وقد أدينا في الحركة الإسلامية دورا مهما بعد ذلك في نهاية السبعينات وسنوات الثمانينات في نقل قيم الثورة للأجيال التي لحقتنا أثناء شبابنا من خلال جعل قيم نوفمبر وبيانه ركيزة أساسية في بنائنا الفكري، في خطابنا ومختلف أنشطتنا، وأذكر في هذا الإطار معرض الكتاب الإسلامي السنوي نسخة عام 1987 في جامعة سطيف الذي خصصناه لتاريخ المقاومة الجزائرية من الاحتلال إلى الاستقلال، مع التركيز على تشكل الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وقد كان لذلك المعرض ومحاضراته التي شارك فيها مجاهدون ومثقفون إقبالا كبيرا بسبب جرأته في عرض جوانب تاريخية عن الثوار والثورة كانت مغيبة في المناهج المدرسية في عهد الحزب الواحد.

كان وعي الشباب يتشكل بعد الاستقلال على نهج قويم بخصوص القضية الفلسطينية حيث كان الموقف الرسمي متقدما جدا في مناصرة الفلسطينيين، ليس بالشعارات والتحركات السياسية فقط، بل بالدعم العسكري المباشر والمواقف الدبلوماسية القوية.

 وجميعنا يذكر الأصوات المنبعثة من الأثير في البرنامج الإذاعي في الإذاعة الجزائرية “صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية” والعبارة الشهيرة “حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين”، وأخبار نقل الأسلحة لحركة فتح في مراحل كفاحها الثوري، وعن مساهمة الجيش الجزائري في حرب 1967، والمشاركة والموقف البطولي لهواري بومدين بإمضاء شيك على بياض لشراء الأسلحة من الاتحاد السوفييتي، ثم إعلان الدولة الجزائرية في الجزائر في 15 نوفمبر عام 1988، وغير ذلك. فلم يكن أحد من الشباب يشكك أو يجادل في عدالة القضية وواجب مشاركة الجزائريين في تحرير كل فلسطين، بل كانت عبارة القادة والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، “أن استقلال الجزائر غير مكتمل ما لم تستقل فلسطين”.

هواري بومدين مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات

ولكن، للأسف الشديد، بدأت السموم تتسرب إلى بعض العقول، حين تراجع حضور الجزائر في الملف الفلسطيني أثناء فتنة التسعينيات، وخصوصا حين تحركت رياح التطبيع مع مجيء الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عبر ثلاث عمليات متتالية في عام واحد بين 1999 و 2000، من المصافحة المشؤومة في الرباط، إلى دعوة المغني الصهيوني انريكو ماسياس، إلى المهمة الدنيئة بإرسال وفد من الصحفيين الجزائريين لزيارة الكيان الصهيوني. وقد مثل ذلك التراجع البيّن، المخطط له، صدمة كبيرة لدى الأوفياء لقيم الثورة التحريرية والقضية الفلسطينية، من داخل النظام السياسي وفي المجتمع.

وقد كنا بحمد الله من هؤلاء، حيث سارعنا إلى تأسيس “التنسيقية الوطنية لمناهضة التطبيع” للتصدي لذلك التوجه الرسمي، وقد انخرط في التنسيقية التي أسسناها مع عدد من الأحزاب والمنظمات، العديد من الشخصيات الوطنية والثورية، منهم الشيخ شيبان والأستاذ عبد العزيز بلخادم وغيرهما، وكنا نعقد اجتماعاتنا في مقر “الحركة الديمقراطية الجزائرية” التي أسسها الرئيس السابق أحمد بن بله، وكان منسق الحزب آنذاك الأستاذ خالد بن إسماعيل. استطاعت هذه التنسيقية التي امتدت لعدد من الولايات الكبرى أن تحقق أهدافها وقد ساعدها في ذلك انفجار انتفاضة الأقصى في آخر عام 2000 التي كسرت موجة التطبيع التي تسارعت قبلها.

لقد كانت تنسيقية مناهضة التطبيع بداية موجة كبيرة من الأعمال التي قمنا بها لصالح فلسطين، ومنها فتح فرع مؤسسة القدس بالجزائر الذي كنت بحمد الله أمينه العام وكان رئيس الفرع الشيخ شيبان ونائبه الأستاذ عبد الحميد مهري رحمهما الله، ونائب آخر السيد بوزغوب أحد الطيارين الذين شاركوا في الحرب ضد الكيان، وكان الأستاذ محمد دويبي المدير التنفيذي. وقد كان فرعنا الجزائري أنشط فروع مؤسسة القدس دوليا ومن إنجازاته مشروع “وقف القدس” الذي أشرف عليه الأستاذ جعفر شلي ولايزال هذا المَعلم شامخا إلى الآن يدر بمداخيل معتبرة لصالح فلسطين، بالإضافة إلى الحركية الشعبية الفئوية التي بعثها الفرع ومنها منظمة “شباب من أجل القدس”، و ما رسخه من بعد تنسيقي للعمل الجزائري الفلسطيني الذي كان من إنجازاته الكبرى المساهمة الجزائرية التاريخية في “أسطول الحرية” وما تبعها من حملات كسر الحصار ونقل أعداد هائلة من المتضامنين الجزائريين والجزائريات ضد الحصار إلى غزة، التي بذل فيها الشيخ أحمد الإبراهيمي، رئيس جمعية البركة،  بلاء حسنا حولته مع مرور الزمن إلى رمز عالمي للعمل لفلسطين، وكان من ثمرة ذلك التنسيق كذلك اللجنة الشعبية لدعم المقاومة ونصرة فلسطين التي احتضنتنا فيها جريدة الشروق مشكورة، ثم لاحقا تأسيس منظمة البركة من قبل عدد من نشطاء القضية على رأسهم الشيخ أحمد براهيمي وهي اليوم المنظمة الشعبية الأكثر حضورا في دعم أهلنا في غزة ومختلف الملفات الفلسطينية الأخرى.

أسطول الحرية

من إحياء الذكرى الرابعة لأسطول الحرية التي نظمتها منظمة (IHH) التركية في اسطنبول (1جوان 2014) 

كتاب «الجزائر والقضية الفلسطينية».. البذل الجزائري جهادا واستشهادا   

وبالنظر لأهمية نشر الوعي الشعبي خصوصا في أوساط الشباب أصدرت كتاب “الجزائر والقضية الفلسطينية”، رصدت فيها المساهمات الجزائرية في القضية الفلسطينية منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، وذكّرت بما بذله الجزائريون وهم تحت الاحتلال، سواء على مستوى الشخصيات، كعمر راسم، والشيخ السعيد الزاهري، والشيخ إبراهيم أبو اليقظان، والشيخ الفضيل الورتلاني، ومساهمات الجزائريين في مختلف الثورات الفلسطينية إلى إعلان دولة الاحتلال،  أو كمنظمات وعلى رأسها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبر العديد من المبادرات، ومنها “الهيئة العليا لإعانة فلسطين”  التي حدثني عن دورها صاحب الفكرة ذاته الشيخ عبد الرحمن شيبان والتي شارك فيها المنظمات والشخصيات من مختلف التيارات الوطنية، وقد ترأس الهيئة الشيخ البشير الإبراهيمي، وكان فرحات عباس كاتبا عاما لها، والشيخ الطيب العقبي أمينا للمال وينوبه الشيخ بيوض، وتكفلت الهيئة بتجهيز وإرسال المجاهدين للقتال في فلسطين وجمع المال وتنظيم حملات التعبئة لصالح القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى المساهمات الأخرى لكل منظمات الحركة الوطنية الأساسية، حزب الشعب الجزائري وأحباب البيان والحرية.

لجنة إعانة فلسطين

لجنة إعانة فلسطين (1948) 

ثم تطرقت في الكتاب إلى مساهمات الجزائريين بعد الاستقلال، سواء الشخصيات المعارضة كمحمد خيضر الذي دعم حركة فتح ماليا وفق ما هو مدون في أرشيف الأستاذ منير شفيق، أو المجاهد محمد بودة الذي انخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الفلسطينية وكان منسق العلميات الخاصة للجبهة الشعبية في أوربا ومنها حادثة ميونخ الشهيرة، وقد ارتقى شهيدا رحمه الله على يد الموصاد في فرنسا بأمر من غولدا مايير نفسها. أو السلطات الرسمية منذ عهد بن بلة وقد أشرنا إلى بعض المساهمات الحكومية أعلاه، وختمت الكتاب بمساهمات حركة مجتمع السلم منذ عهد الشيخ محفوظ نحناح والعمليات الكبيرة التي أشرفت عليها بنفسي وأشرت إليها أعلاه.

 «دروب المقاومة: نضال الشعب الجزائري من الاحتلال إلى الاستقلال».. احتلالين متشابهين وفرق واحد!  

ولشعوري بحاجة ربط العلاقة بين الثورة التحريرية النوفمبرية الجزائرية والمقاومة الفلسطينية شرعت في تأليف كتاب آخر تحت عنوان ” دروب المقاومة: نضال الشعب الجزائري من الاحتلال إلى الاستقلال” وحرصت أن أسجل المقارنات مع كفاح الشعب الفلسطيني، وتشابه الاحتلالين الاستيطانيين الإحلاليين الفرنسي والإسرائيلي، وتشابه جرائم الإبادة وتدمير البنية الإنسانية للشعبين، والتشابه والفروق في أدوات النضال المسلح. وهو كتاب بدأته قبل سنوات، تتمة لبحث قدمته عن التجربة الثورية الجزائرية في مؤتمر نظمه مركز الإعلام العربي بالقاهرة في سبتمبر 2006 عن التجارب الثورية في تاريخ الدول وكيفية استفادة المقاومة الفلسطينية، ثم شُغلت عنه باهتمامات وكتابات أخرى ضاغطة فتركته بعد أن أنهيت أكثر من نصفه تقريبا.

غير أن نقاشي الطويل والمتكرر مع قيادة المقاومة الفلسطينية في ظل الأزمات التي تعرفها الأمة والصعوبات التي تمر بالملف الفلسطيني جعلني أقرر العودة لإنهاء الكتاب مع التركيز أكثر على استخلاص الدروس من تجربة الثورة التحريرية بما ينفع الكفاح الفلسطيني، وقد شجعني على ذلك بعض القادة الفلسطينيين الذين شعروا بأنهم رغم دراستهم الثورة التحريرية الجزائرية لم يكونوا على علم بكثير من تفاصيل الكفاح الجزائري ضد المستعمر الفرنسي التي ذكرتها لهم، ورأوا في تدوينها وإسقاطها على الحالة الفلسطينية فائدة كبيرة، وأسأل الله تعالى أن يعينني على إنجاز ذلك.

وفي حقيقة الأمر حينما نرى ما يحدث من تضحيات جسيمة وبطولات مدهشة في طوفان الأقصى أننا لم نقدم أي شيء ذي بال، وإنما أملنا أن يعذرنا الله ويسامحنا إذ لم نستطع القيام بما يجب القيام به لضعفنا وقلة حيلتنا وأن يتقبل الله منا جهد المقل ولا حول ولا قوة إلا بالله.

طوفان الأقصى وهجوم الشمال القسنطيني.. تشابهُ البواعث والآثار بين «يوم المجاهد ويوم المقاومة» 

لعل مما يمكن الاستفادة منه في ظل معركة طوفان الأقصى القائمة اليوم هو التشابه الكبير، من حيث البواعث والآثار، مع هجوم الشمال القسنطيني، ذلك أنه بعد اندلاع الثورة التحريرية تركزت الفاعلية أكثر في الأوراس فتوجه لها جيش تركزت الاحتلال لاستئصالها، كما أن الشعب الجزائري لم يكن قد اندمج كلية وفي مختلف أنحاء الوطن مع الثورة.

 وكان الجدال داخل الحركة الوطنية لم يحسم بعد بين أنصار مصالي الحاج الذي كان يفضل المفاوضات وشباب جبهة التحرير الوطني الذين اختاروا السلاح، علاوة على أن القضية الجزائرية لم تكن قد وصل زخمها إلى الساحة الدولية، فعالج الثوار الجزائريون كل هذا بعملية موجعة وشاملة ومذلة ضد الاحتلال تمثلت في الضربة القوية التي وجهت له في مواقع عدة بكل الوسائل وفي كل الاتجاهات في عدد من الولايات انطلاقا من ولاية سكيكدة تحت القيادة البطل الشهيد زيغود يوسف، سواء باستهداف الجنود ومراكز الشرطة والجيش، أو صوب المعمرين في المزارع التي أخذوها سابقا من أهلها الأصليين،

هجومات الشمال القسنطيني

فكان رد فعل الجيش الفرنسي شديد العنف في حق المدنيين من حيث أنه لم يجد أين يضرب الثوار الذين كانوا بالنسبة إليه في ذلك الوقت كالأشباح فأفرغ جام غضبه على السكان. ورغم التضحيات في صفوف المدنيين التي بلغت 12000 شهيد حققت العملية أهدافها بكسر الحصار على الأوراس وتعميم الثورة في كامل التراب الوطني وبتعمق إيمان الشعب بالثورة والتحامه بها، وحسمت تلك الجومات المرجعية الشعبية لصالح جبهة التحرير الوطني، وارتفت معنويات المجاهدين، وبدأت السلطات الاستعمارية تشعر بأن فكرة “الجزائر الفرنسية” أمام خطر وجودي،

كما انتبه الأشقاء العرب إلى جدية الأحداث الثورية في الجزائر فشرعوا في دعمها بفاعلية وأخذ المعسكر الشرقي آنذاك وأحرار العالم، حتى في البلاد الغربية، يراهنون على الثورة كمعطى جديد سيساهم في إضعاف الامبريالية الغربية، فاستحق ذلك اليوم المبارك 20 أوت 1955 أن يسمى يوم المجاهد. إن هذه المعطيات والتحولات التي نتحدث عنها هي ذاتها التي تعيشها القضية الفلسطينية، قبل طوفان الأقصى وأثناءه، وسيكون ذلك بعده بحول الله، وأرجو أن يسمى هذا اليوم يوم المقاومة.

لقد كانت القضية الفلسطينية تراوح مكانها بحصار غزة مع محاولة الكيان الإسرائيلي جعل كتائب عز الدين القسام ومعها كتائب الفصائل الأخرى مجرد جيش لحماية غزة التي لا يريد الصهاينة أصلا إعادة احتلالها قبل الطوفان الذي صُب عليها يوم 7 أكتوبر، وكانت المستوطنات تتوسع في الضفة  الغربية حيث تجثم سلطة أوسلو على صدور الفلسطينيين وتشتغل لصالح الاحتلال وتخون المقاومة بواسطة التنسيق الأمني، والإعتداءات على المسجد الأقصى لا تتوقف، وتهويد القدس على قدم وساق، وفلسطينيو 48 يعيشون تحت ظل الفصل العنصري، ومنظمة التحرير تواصل ادعاء تمثيل الشعب الفلسطيني رغم فقدان شرعيتها باستمرار اعتمادها على المفاوضات ومعاداة فصائل المقاومة، والحكومات العربية تسارع إلى التطبيع مع الكيان، أو إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية فلسطينية لا تعنيهم كثيرا، بل تمثل بالنسبة لبعضهم عبئا  يجب وضعه على الهامش وتسليمه للمخططات الصهيونية والغربية.

لا شك أن النضال الفلسطيني لم يتوقف منذ النكبة وما سبقها، فرغم هزيمة الجيوش العربية عام 1967، والنصر الذي لم يكتمل  في حرب اكتوبر 1973 والذي تم الالتفاف عليه بالتطبيع المصري في كامب ديفيد، واجتياح الصهاينة لبنان عام 1982 لتصفية منظمة التحرير، استطاع الفلسطينيون أن يأخذوا أمرهم بيدهم في الانتفاضة الأولى عام 1987 التي برزت فيها حركة حماس. وبعد إدخال القضية الفلسطينية في النفق المظلم لاتفاقيات أوسلو عام 1993 من أجل  القضاء على روح الانتفاضة عاود الفلسطينيون الكرة في انتفاضة الأقصى المسلحة عام 2000، ومنذ ذلك الوقت نشأ صراع كبير على مرجعية الشعب الفلسطيني بين حركة حماس ومنظمة التحرير التي  اعترفت بإسرائيل وتركت عمليا المقاومة وصارت تتآمر عليها بواسطة التنسيق الأمني، إلى أن حسم الشعب الفلسطيني في أمر المرجعية التي يفضلها بانتصار حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006. وبعد أن رفض المجتمع الدولي في زمن الأحادية الغربية نتيجة الانتخابات وكثر التآمر على فصائل المقاومة وقع الحسم العسكري الحمساوي في غزة، وعندئذ صارت المواجهة مفتوحة بين الكيان الصهيوني وكتائب عز الدين القسام من خلال الحروب العديدة التي تم فيها إذلال الاحتلال، في 2008 و 2012 و 2014 و 2021 و 2022 .

وبعد سلسلة هزائمه قرر الاحتلال تجنب المواجهة مع القسام والمضي في تصفية القضية الفلسطينية على النحو الذي تحدثنا عنه أعلاه، فكان رد فعل كتائب المقاومة الاشتباك معه بالصواريخ الموجهة إلى تل أبيب وغيرها، ضمن استراتيجية وحدة الساحات، بسبب العدوان على القدس ولدعم المجهود المقاوم في الضفة الغربية والقدس التي ابتكر فيه الفلسطينيون طرق الطعن والدهس رغم الاحتلال ومكائد السلطة الفلسطينية. وصار في المحصلة عنوان المعارك منذ معركة سيف القدس هو القدس والأقصى.

معركة «طوفان الأقصى»  تحقق 12 هدفا قبل أن تنجلي! 

غير أن كتائب القسام ومختلف فصائل المقاومة أدركوا بأنه بغير الهجوم المباشر على العدو لن يقع تغيير حاسم في القضية الفلسطينية فكان طوفان الأقصى الذي تفجر يوم 07 أكتوبر  2023 والذي قبل أن تنجلي المعركة قد حقق 12 هدفا على الأقل يمكن حصرهم على النحو التالي:   

1- كسر هيبة الجيش الإسرائيلي وإظهار ضعفه وإمكانية الانتصار عليه

وأنه مجرد منظمة إرهابية مجرمة لا تقدر إلا على قتل الأطفال والنساء بالقذائف والصواريخ، وهو رغم تسلحه الجبار ومشاركة أمريكا معه في الحرب لم يقدر على تحقيق أهدافه المعلنة المتمثلة في إنهاء حماس وتهجير أهل غزة بعد قرابة شهر من التدمير الشامل.

طوفان الأقصى  7أكتوبر


2- مزيد من التمزق داخل المجتمع الإسرائيلي:

وهي حالة كانت قائمة قبل طوفان الأقصى وتعمقت بعده وصلت إلى التلاسن عبر وسائل الإعلام بين المجرم نتنياهو والدمويين قادة الجيش، ولأول مرة يتم توجيه النقد للقيادة السياسية والعسكرية الصهيونية أثناء الحرب، وكل المؤشرات تدل بأن نتنياهو قد انتهى سياسيا وأن المجتمع الإسرائيلي قد تصيبه اضطرابات سياسية واجتماعية عميقة بعد نهاية المعركة تزيد في تقريب نهايته. 
3- عدم الشعور بالأمان لدى المستوطنين وسكان الكيان من اليهود،

الذي يعبر عنه إفراغ غلاف غزة والشمال الفلسطيني من السكان المستوطنين، وموجة الخروج الجماعي من إسرائيل والتصريحات المتتالية لكثير من العائلات والنخب بأن لا مستقبل للعيش في إسرائيل. وقد سبق أن تحدثت عن هذا السيناريو في الجامعة الصيفية بتلمسان عام 2010 معتمدا على دراسة أوربية استشرفت أشكال نهاية دولة الكيان ومنها الخروج الجماعي للسكان اليهود الذين أكثرهم يحمل جوازات أخرى ولهم صلات وعلاقات وأسر في كثير من الدول، وأن ذلك سيحدث عندما لا يشعرون بالأمان حين يصبح ممكنا توجيه ضربات صاروخية مكثفة وفي العمق الإسرائيلي، وقد يكون ذلك من جهات غير حكومية. وهو ما نعيشه اليوم وما سيتعاظم في المستقبل بحول الله.
4- تكبيد العدو خسائر اقتصادية فادحة:

حيث توقف عن الشغل بسبب الحرب أكثر من مليون ونصف عامل وتصل الخسائر الاقتصادية الصهيونية إلى أكثر من  38 مليار دولار ويقدر أن عجز الميزانية في آخر السنة سيتجاوز 4 بالمائة وما يوازي 3.5 من الناتج المحلي الإجمالي، وهناك كثير من الدراسات والمساهمات في هذا الشأن يمكن الاطلاع عليها.
5- افتكاك المقاومة مركز المرجعية والمصداقية لدى الشعب الفلسطيني:

 وذلك وجه من أوجه التاريخ حين يعيد نفسه إذ نفس الحالة بالضبط تحققت بعد معركة الكرامة التي خاضها الجيش الأردني ومنظمة فتح والجبهة الشعبية وفصائل أخرى عام 1968 ضد جيش الكيان الإسرائيلي حين عبر نهر الأردن للقضاء على مراكز المقاومة في الأردن ففشل في ذلك، وكانت منظمة فتح قد أبلت بلاء حسنا في هذه المعركة فنالت ثقة الشعب الفلسطيني وأقبل عليها المنخرطون فيها بأعداد كبيرة وتم الاعتراف بها من قبل كل الدول العربية والقوى الدولية المعادية للغرب، وهذا الذي يحدث بالضبط في معركة طوفان الأقصى، إذ باتت كتائب عز الدين القسام، الذراع السياسي لحماس، ومعها سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد هي عنوان فلسطين عند الفلسطينيين وفي الشارع العربي، بل حتى عند خصومها، ومن حق حماس بعد هذه المعركة أن تفرض أجندتها التحررية في الساحة الوطنية الفلسطينية، خصوصا بعد إفشال مبادرة “إعلان الجزائر” من أجل المصالحة الفلسطينية من قبل السلطة ومن وراءها من الدول العربية والغربية.

اتفاقية لم الشمل


6- صناعة جيل جديد من المقاومين الذين سيعملون في سبيل الله على الانتقام لأهاليهم من النساء والأطفال الذين تم إبادتهم جماعيا في هذه المعركة:

 وسيكون هذا الجيل أكثر شراسة وعزيمة وتضحية ليثخن في العدو بكل الوسائل، لا سيما وأن فكرة المقاومة صارت راسخة في المجتمع الفلسطيني بنتها وربتها حركة حماس، وأعدت لها العدة ودربت عليها أعدادا كبيرة من الشباب، على أساس الفكرة الإسلامية الحصينة المحصنة، بما يمنع قتل عزائم الناس وتدجينهم بالقمع الشديد والإبادة والقتل الجماعي ثم الإلحاق الحضاري، كما حدث لليابان والألمان بعد الحرب العالمية الثانية، وكما حدث من قبل للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. 
7- كسر موجة التطبيع:

حيث تشكل ضغط شعبي وأخلاقي كبير على الدول العربية المطبعة عمّق عدم شرعيتها.

والإنجاز التاريخي في هذا المجال يتمثل في كسر المد التطبيعي في المملكة العربية السعودية الذي كان يمثل خطرا عظيما على القضية الفلسطينية وعلى الأمة العربية والإسلامية كلها، وقد زاد في افتضاح أمر المطبعين طرد كولومبيا وبوليفيا السفير الإسرائيلي من بلديهما، ومن المشاريع التطبيعية الخطيرة التي تم ضعف جدوى إنجازها مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والمملكة العربية السعودية ودولة الكيان وأوربا الذي كان سيغير شكل التجارة العالمية ويمثل خطرا على مصر وقناة السويس ويجعل الصهاينة في وضع اقتصادي مركزي عالميا.

8- رجوع القضية الفلسطينية للساحة الشعبية العربية:

من حيث أن مخططات شغل الشعوب العربية والإسلامية بنفسها ودفعها لنسيان القضية الفلسطينية انكسرت ورجعت فلسطين في مركز اهتمام الشعوب الذي عبرت عنه المظاهرات والمسيرات الضخمة والأنشطة المتنوعة التي لا تتوقف لصالح المقاومة وفلسطين في مختلف الدول العربية والإسلامية.
9- إفساد مخططات الدول العربية التي أرادت جعل القضية الفلسطينية على الهامش

بحجج واهية تعتمد على وطنية زائفة وترديد عبارة “لا نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين” لأن قادتهم متصالحون مع إسرائيل“ وأنه “لا يجب أن نضحي بأوطاننا من أجل فلسطين”، وهي أفكار القلوب المريضة والعقول الصغيرة التي ألغت البعد العقدي الديني في القضية والتي لا تدرك بأن مصير كل بلد عربي ومسلم مرتبط بالقضية الفلسطينية من حيث أن الغرب لا يسمح لأي بلد في المنطقة أن يماثل أو يتفوق على الكيان الإسرائيلي في أي مجال، والطريق إلى ذلك هو منع أي دولة من دولنا من أن تنهض.

علاوة على أن الأنظمة العربية استطاعت أن تتحكم في شعوبها وتخرجهم من معادلة التغيير بالقمع والتحايل والتزوير والإفساد الخلقي وبإشغالهم بلقمة العيش،  فإذا بالشارع ينفجر من جديد للتضامن مع أهل غزة ولمناصرة المقاومة ولم يستطع أغلب الحكام منع ذلك، ولهذا تعتبر الدول العربية حماس وفصائل المقاومة خطرا عليها وبعضها يتمنى سرا لو أن الكيان الإسرائيلي يستطيع القضاء عليها  لأنها هي التي أصبحت تبقي الشعوب حية مهتمة بمصيرها.


10- التحول الكبير في الرأي العام العالمي والغربي لصالح القضية الفلسطينية وضد دولة الكيان:

ولعل من أكبر خسائر الإسرائيليين في معركة طوفان الأقصى، والأكثر إيلاما لهم انهيار روايتهم الكاذبة في صراعهم مع الفلسطينيين والعالم العربي والإسلامي، إذا بان جرمهم للعالم رغم تحكمهم في وسائل الإعلام في العالم وتعتيمهم الشديد على الحقيقة وملاحقة الكلمة الحرة المعبرة عن الواقع، فقد استطاعت صور الدمار وقتل الأطفال والنساء والتجويع والحرمان من الكهرباء والماء أن تنفذ إلى كل أنحاء العالم من خلال الإعلام الموازي فأحدثت صدمة في الضمير العالمي الشعبي ولدى كثير من الدول والمنظمات الدولية والشخصيات السياسية والفكرية والفنية والأدبية، وهي حالة لو أنفق عليها الفلسطينيون ملايير الدولارات في العلاقات العامة ما تمكنوا من الوصول إليها، ويدرك الكيان الصهيوني بأن داءه التاريخي هو كره الشعوب له والذي حين يبلغ مداه ينقلب عليهم بشكل دراماتيكي.


11- التأثير في الموقف التركي:

لقد كانت تركيا تسير مطمئنة واثقة نحو رؤية خاطئة بخصوص القضية الفلسطينية، إذ كانت تعتقد أنها ستكون، ضمن رؤية قرن تركيا، هي راعية منطقة الشرق الأوسط الذي سيتجه إلى ضعف دولة الكيان وضعف الدول العربية وأن الجميع سيكون في حاجة للحماية التركية فتفرض حل الدولتين وتشرف عليه وترعاه، وهو ما شرحته في العديد من المقالات وفي بعض كتبي منها الكتاب الأخير “الحلقة المفقودة”، ثم جاء طوفان الأقصى فأرجع مسار التاريخ إلى طريقه المحتوم المتمثل في حتمية نهاية دولة الكيان، وقد تلقف أردوغان والساسة والمفكرون الأتراك الرسالة وأدركوا بأن الزمن قد يتجاوزهم ويعطي الفرصة والشرف لغيرهم فرجعوا إلى الاشتباك اللفظي مع الكيان بما لم يكونوا يرغبون فيه مطلقا، وإنما يختلف الأتراك مع الدول العربية أنهم لا يعادون حماس بل يعتقدون بأنها طرف أساسي في المستقبل وأنه يمكن ترويض قادتها لقبول حل الدولتين، وربما سيبقون على قناعتهم إلى أن تكون مفاجأتهم أكبر حين يدركون بأنهم مخطئون في تقديراتهم لمستقبل المنطقة وما يتعلق بالقضية الفلسطينية.


12- مزيد من افتضاح أمر الدول الغربية في نظر الرأي العام العالمي ولدى قطاعات واسعة من شعوبهم،

وانغماسهم أكثر في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بسبب اضطرارهم للرجوع لمنطقة الشرق الأوسط بعدما قرروا التخفف من الحضور فيها للتفرغ إلى الصين وروسيا، وقد رجعوا إلى المنطقة لشعورهم بأن ثمة خطر وجودي على دولة الكيان وأن تأمينها من خلال التطبيع وسط الأنظمة العربية أثناء انشغالهم بالصين وروسيا لم يصبح مجديا، وستكون كلفة هذا التحول الاستراتيجي المتعجل وغير المدروس أكبر في المستقبل على مستوى الانسجام الداخلي لدولهم وفي مواجهة الدول الصاعدة.

أهداف  تحققت في طوفان الأقصى