"هل الأخلاق هي الدين؟" هذا سؤال جوهري لا يمكن تجاوزه عند البحث في فلسفة الأخلاق، والجواب باختصار لا، الأخلاق ليست هي الدين، وإنما جاء الدين ليتممها.
كان أبو بكر الصديق مثالاً يحتذى في الأخلاق مكارمها ومحاسنها، وعُرف بذلك قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعنا عن أخلاق العرب في الجاهلية،عندما كان العرب يعبدون الأوثان، ما أقرّه الإسلام وشجّع عليه، ونرى في عالمنا اليوم أناساً كثيرين غير ملتزمين بالدين لكن عندهم أخلاق تفوق أحياناً بعض المتدينين، بل إن بعض الملحدين الذين لا يؤمنون بدين ولا بخالق قد ألَّف كتباً عن الأخلاق.
فتوى ابن عياض
مهما وصل الإنسان من تديّن وعبادة إن لم يقترن هذا بحسن الخلق فلا قيمة له، وحول هذه الفكرة يدندن الفضيل بن عياض وهو واحد من أكبر عُبَّاد المسلمين، فيقول رحمه الله: "لأن يصحبني فاجرٌ حسنُ الخلقِ أحبّ إليّ من أن يصحبني عابدٌ سيءُ الخلقِ".
فصحبتي لإنسان فاجرٍ عاصٍ لله تعالى لكنه في تعامله معي ومع الناس حسن الخلق، خيرٌ لي من أن يصحبني عابد يصلي الليل والنهار ويصوم ويتعبد لكنه سيء الخلقِ معي ومع الناس، فالأول فجوره على نفسه، ولا يسيء إلا إلى نفسه، أما الثاني فما من شك أنه يعطي انطباعاً سلبياً عن الدين وأهله.
هل تكفي العبادات للنجاة؟
سوء الخلق يمسح الحسنات مسحاً ويحرقها حرقاً، يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: "سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضرُّ معها كثرة السيئات". وحسن الخلق مبدأ أساسي في ديننا، لأنه بُني على الأخلاق، لذلك قيل: "لا إيمان بلا أخلاق".
إن الأخلاق الحسنة أهم من كثرة العبادات، لأن العبادات ودراستها وفقهها تؤدي في النهاية إلى علاقة جيدة بين الإنسان وربه، أما فقه المعاملات (الزواج، الطلاق، البيع والشراء..) وما يشابهها من معاملات بين الشخص والآخرين، فهذه تحتاج إلى عناية ومراقبة أيضاً، ذلك أن الله كريمٌ جوادٌ فقد يغفر ما بينك وبينه، إن قصَّرت في عبادته وطاعته، لكن ما بينك وبين الآخرين فيتطلب أن يغفر لك الناس، ويعفوا عنك حتى يغفر لك الله، لذا قال العلماء: "لا يضمن فقه العبادات وحده النجاة من النار".
أذى الجار يُدخل النار
العبادة -مع سوء الخلق- لا تكفي للنجاة من النار، بل ربما يدخل النارَ من ساءت أخلاقه، وإن كثرت عبادته، وإن كان صوّاماً قوّاماً.
عن أبي هريرة قال ((قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ.
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا، وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ)) أحمد.
فالعبادات يجب أن تؤدي إلى تغيير في سلوك الإنسان، لأن هذا من مقاصد تشريعها، قال الله تعالى عن الصلاة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت/45].
فهذا الذي لمْ تنهَهُ صلاته لا عن الفحشاء ولا عن المنكر ولا عن أذى الناس ماذا نفعته صلاته؟ وهل حقق مقاصد الصلاة كعبادة؟
رجل من أهل الجنة يمشي على الأرض
وفي حادثةٍ شهيرةٍ جداً يرويها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن نفسه يقول: ((كُنَّا جُلُوساً مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ iمِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ iمِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى.
فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ اتَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ (اختلفت) أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثاً، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئاً، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ... غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْراً.
فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ iيَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ i؟
فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ.
قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ؛ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشاً، وَلَا أَحْسُدُ أَحَداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ)) رواه أحمد.
ظلم أصحاب المهن
كم من شخصٍ ملتزم دينياً تصدر عنه تصرفاتٌ لا تتفق مع حسن الخلق، فيتخطى الطابور، ولا يحترم المرور، ويظلم الخدم والعمال لديه... هل هذا من الدين؟
هذا ليس بدين حقيقي؛ لأن الدين المعاملة، وفي مجتمعاتنا اليوم لا يوجد ظلم يسود كظلمنا للعمال وأصحاب المهن، فكثير منهم رواتبهم ضئيلة ولا تتناسب مع الجهد الذي يبذلونه، وفوق ذلك لا يقبضون رواتبهم إلا بعد أشهر من استحقاقها، وفي حالاتٍ أعرفها بعد سنةٍ كاملة، ناهيك عن سوء المعاملة التي يتعرضون لها، وقد يكون صاحب العمل متديناً ميسور الحال، وهو يملكُ أن يعطي عامله أجره لكنه يمسكه عليه، مع أن ديننا العظيم يأمره أنْ ((أَعْطِ الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)) النسائي.
هل كل متدينٍ خَلُوق؟
هذه حقيقة يجب أن ندركها، ليس كل متدينٍ خلوقاً، خصوصاً إذا أخذنا بالمظاهر، فنحن نعرف المتدين من مظهره، من لباسه ولحيته، وتردده على المسجد ولا نشقُّ عن قلبه، وعندما نقترب من بعضهم أكثر، نجد أن الكثير منهم _للأسف_ عندهم ضعف أخلاقي، فكم من طالب شريعة تخرج من الكلية بالغش في امتحانه ليصبح بعد تخرجه إماماً وخطيباً! مخالفاً خلقاً أساسياً من أخلاقيات الإسلام، وهو الأمانة.
وأنا بنفسي عندما كنت في أمريكا تعاملت مع إمام المسجد في تكساس، إمام مسجد يحفظ القرآن كاملاً، ولحيته إلى صدره، ونصب عليّ بمبلغ من المال، وهو إمام المسجد وخطيبه!!
لا تحكم على المظاهر
وجود بعض المظاهر السيئة لدى بعض المتدينين، لا يعني أنها أصبحت ظاهرة، هي موجودة نعم، لكنها ليست الأصل بل استثناء، لأن الدين بحدّ ذاته يجعل نسبة أمثال الإمام السارق قليلة جداً في شريحة المتدينين والحمد لله، ولذلك الأصل أن نحسن الظن بهم وبأخلاقهم، فلا يجوز أن نعمم مثالاً واحداً نعرفه على شريحة المتدينين كاملة، بل إن معظم المتدينين أصحاب أخلاق والحمد لله.
فليس بالضرورة أن يعكس الشكل الأخلاق، فبعض غير المحجبات أكثر تديناً وأعمق في حبهم لله من كثير من المحجبات، وبعض الناس شكلهم لا يوحي بأي تدين، ربما تجدهم أكثر حرصاً على الدين وعلى الحلال والحرام من كثير من الناس، فلا تحكم على الشكل وإن كان الشكل يعطي إشارة.
الأحكام أم الأخلاق؟
ينقسم الدين الإسلامي إلى ثلاثة محاور: (العقيدة، والأخلاق، والشريعة) والعقيدة أولاً، وقبل كل شيء وفوقه، ولاخلاف في ذلك، لكن ما التالي بعد العقيدة؟ الأخلاق أم الأحكام؟ وأيُّهما أعلى، الأحكام أم الأخلاق؟ طبعاً الأخلاق، بل بكل تأكيد الأخلاق قبل الأحكام.
لقد ربط القرآن الكريم الفقهَ بالإيمان وبالأخلاق، ومن الأمثلة على ذلك "الطلاق"، فعندما يتكلم القرآن عن الطلاق يربطه بالتقوى، ففي سورة الطلاق وعدد آياتها (12) آية يتحدث في أربع آياتٍ منها عن التقوى.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق/2].
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق/4].
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق/5].
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الطلاق/10].