“مشكلة العالم الإسلامي لا تتمثل في فقر الإمكانات المادية والروحية، وإنما في الإفتقار إلى النظام الأقدر على توظيف وإعمال واستثمار ما لديها من إمكانات.“ د.محمد عمارة

كيف ننهض؟ وكيف يمكن أن يقود الدين عملية النهضة؟

حسب قول المستشار السابق  لمهاتير محمد، حاج أحمد  النخعي، فإن السياسيين في ماليزيا هم أول من تبنى فكرة المشروع بعد طرحهم هذه الأسئلة التي مهدت لسلسلة من النقاشات بمشاركة علماء الدين ومثقفين وخبراء وذلك عندما كان مهاتير محمد رئيسا للوزراء في الفترة بين 1981-2003م، وأكمل من بعده صياغة المشروع نائبه عبد الله بدوي الذي أصبح رئيسا للوزراء إذ أعلن عن تبني الدولة لهذا المشروع في خطابه التاريخي أمام الجمعية العمومية  للحزب الحاكم في ديسمبر عام 2003م.

بدوي

الجديد في هذا المشروع أنه يهدف لردم الفجوة بين العلماء والسياسيين أو الحكام من خلال تبني الدولة للمشروع حيث أصبح جزءا لا يتجزأ من سياستها، وهذا المشروع يأتي منسجما مع رؤية ماليزيا  2020م التي تم طرحها في عام 1991م وتهدف لجعل ماليزيا دولة صناعية مكتفية ذاتيا، إلا أن هذا المشروع يأتي في سياق تكاملي أكثر، حيث يشمل الجوانب الإجتماعية والتربوية والسياسية والثقافية.
 

مصطلح "الإسلام الحضاري" المفهوم والغاية

لا يوجد تعريف دقيق لمصطلح الإسلام الحضاري يتفق عليه الجميع، مما ولد بعض التساؤلات والإعتراضات حول المصطلح خصوصا في ماليزيا، حيث اعتبره حزب المعارضة الإسلامي في  ماليزيا  "PAS" أنه مذهب جديد وتجزئة للشأن الإسلامي وتلبية للتوجهات العالمية، إلا أن دلالات مفهوم الحضارة في النسق القرآني هي الحضور والشهادة بجميع معانيها التي ينتج عنها نموذج إنساني، يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها كبعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، وواضع نواميسه وسننه والمتحكم في تسييره، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته، هي تحقيق الخلافة عن خالق هذا الكون في تعمير أرضه وتحسينها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها، وحسن التعامل مع المسخرات في الكون، وبناء علاقة سلام معها. [1] 
 أما مصلحة الشؤون الإسلامية فقد أصدرت كتيّب يوضح المقصود من المصطلح وعرفوا المصطلح كالتالي: "يراد بكلمة "الإسلام الحضاري" الإسلام الذي يركز على جانب  التمدن وبناء الحضارة، ويقال باللغة الإنجليزية " civilizaitational islam" ويقابله باللغة العربية "الإسلام الحضاري" ونعني به النظام المتكامل (المنزّل) من رب العالمين...وبالتعريف الكامل لهذا المبدأ نرى أنه عبارة عن وسيلة من وسائل تطوير الإنسان والمجتمع والدولة بصورة متميّزة، وشمولية قائمة على أساس التمدن الإسلامي"
وإطلاق تسمية "الإسلام الحضاري" تأتي في سياق التمييز له عن مناهج الدعوة أو الجماعات الإسلامية المختلفة، فهو مصطلح شامل لكافة الجوانب السياسية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية، وهو برنامج شامل للتجديد في ماليزيا، واضعا الإنسان في محور العملية التنموية.
ومن الملاحظ أن مفهوم الإسلام الحضاري مرتبط ومتناسق مع مفهوم الدولة الوطنية الحديثة بحيث لا يثير أي حزازيات مع أي مكون من المكونات العرقية الموجودة في الدولة بل إن النهضة الحديثة في ماليزيا تقوم على مرتكزات حضارية حديثة تجعل من الإسلام ومن المعتقدات الأخرى دور واضح في النهضة.

لماذا الإسلام الحضاري؟

ويحدد عبد الله بدوي الأسباب التي دفعته لطرحه هذا فيقول: "إن الإسلام الحضاري جاء لنهضة وتقدم المسلمين في الألفية الثالثة، ومن أجل المساعدة على دمجهم في الاقتصاد الحديث". كما أنه يصلح أن يكون "الترياق للتطرف والغلو في الدين"، وذلك لأنه "يشجع على التسامح والتفاهم والاعتدال والسلام".
وعبر عنه في كلمته التعريفية بأنه: "جهد من أجل عودة الأمة إلى منابعها الأصيلة، وإعطاء الأولوية للقيم الأخلاقية، والمعاني الإسلامية الفاضلة، لكي توجه الحياة،وترشدها"
ونلحظ أن المشروع جاء لترقية حياة الإنسان ماديا وروحيا ولتعزيز المعرفة بالشرع والواقع، ولمواجهة بعض التحديات التي ذكرها عبد الله بدوي منها الجمود والتطرف وفصل الدين عن الحياة وإهدار الوقت وأحادية المعرفة والانعزال والترهب. 

نهضة ماليزيا

 

10 مبادئ دينية لا تخلو من النظرة التنموية! 

بالرجوع إلى الكتيّب الذي أصدرته مصلحة الشؤون الإسلامية في ماليزيا نجد تلخيص المبادئ والأسس التي يقوم عليها المشروع وهي:

  1. الإيمان بالله وتحقيق التقوى: وذلك لأن الإيمان بالخالق هو العامل الأساسي في الاستخلاف وعمارة الحياة، بينما تقوى الله تفضي إلى جليل الأعمال وأحسن الأخلاق وأعدل العلاقات بين الناس. وبالتالي لا يقتصر دور هذا المبدأ الإيماني على تزكية الروح وتنقية المعتقد وتصحيح العبادة، وإنما يتعداه إلى العناية بالسلوك وأعمال الجوارح.
  2.  الحكومة العادلة والأمينة: التي جاءت عن طريق الشورى والاختيار الحر دون قهر أو إكراه، وتعمل على بسط العدل ونصرة المظلومين وردع الظالمين، وترد الحقوق إلى أهلها، وترعى مصالح الأفراد على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم، كما تقوم على قضاء حوائجهم بأمانة وتجرد وإخلاص.
  3. حرية واستقلال الشعب: إن الحرية هي القيمة الكبرى في الحياة الإنسانية، وهي الحافز للعمل والإبداع، وبها يكون الإنسان مستقلا وحرًّا في قراراته؛ وقد خلع عن رقبته طوق العبودية والتبعية.
  4.  التمكن من العلوم والمعارف: فالعلم هو المرتكز الأساسي لنهضة الأمة، والوسيلة التي يستعان بها على عمارة الأرض، وتسخير ما فيها، وترقية الحياة، والانتفاع بالطيبات من الرزق.
  5. التنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة: التي تعني التنمية بكامل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والروحية والمادية والثقافية والحضارية، وتجعل صلاح الإنسان غاية وهدفا لها.
  6. تحسين نوعية الحياة: وتعني سلامة الحياة واستقرارها وجودتها وتوفير متطلباتها الضرورية.
  7.  حفظ حقوق الأقليات والمرأة: رعاية حقوق الأقليات العرقية والدينية، وكذلك احترام المرأة وتقدير مكانتها وتعزيز دورها الإيجابي في المجتمع.
  8. الأخلاق الحميدة والقيم الثقافية الفاضلة: العناية بالأخلاق الفاضلة والقيم المعنوية السامية في كل المجالات والجوانب، وأن تكون هي الأساس لتربية الأجيال.
  9. حفظ وحماية البيئة: العمل على حماية البيئة والحفاظ عليها ومنع ما يهددها من عوامل التلوث والآفات والإهلاك.
  10. تقوية القدرات الدفاعية للأمة: وذلك للحفاظ على سلامة ووحدة أراضي الدولة وحماية المصالح العليا لشعوبها والمحافظة على استقلالها وسيادتها،

هذه المبادئ والأسس الواضحة والمستقاة من الدين مكّنت ماليزيا من أن تكون أنموذجا تنمويا يحتذى به في مجالات عديدة، وكما نلحظ لم تكتف مصلحة الشؤون الإسلامية من ذكر المبادئ وإنما أعطت كل منها تصور لتحقيق التنمية في ذلك المجال، حتى تكون المشاريع التنموية التي تنفذها الدولة متصلة بمبدأ من المبادئ المذكورة .

عناصر المشروع


يقوم مشروع الإسلام الحضاري -كما يطرحه عبد الله بدوي- على عشرة عناصر أساسية ، وهي:

  1. التعليم الشامل: الذي يجمع بين معارف الوحي وعلوم العصر، ويغطي فروض الكفاية والأعيان ويؤدي واجبات الوقت دون تقصير.
  2. الإدارة الجيدة: التي تحسن إدارة الموارد البشرية والمادية وتوظيف الاستخدام الأمثل لها.
  3.  التجديد في الحياة: بمعنى ترقية أساليبها من ناحية التمدن والحضارة.
  4.  زيادة جودة الحياة: وتوفير متطلبات الحياة الكريمة على أجود هيئة وأكمل حالة.
  5. قوة الشخصية: من حيث الإخلاص والأمانة؛ فالإخلاص أساس الأقوال والأعمال، بينما الأمانة عماد المجتمع والدولة، وبغيرهما لا يمكن إيجاد الإنسان الصالح والمجتمع الصالح. وهي أخلاق تقوم عليها الحضارات، وبغيابها تزول وتغرب.
  6. الحيوية والنشاط: من حيث استجابته للمتغيرات وإدراكه لمتطلبات الحياة المتجددة ومسائلها المتشعبة.
  7.  الشمول والسعة: يقوم المشروع على الفهم الشمولي للإسلام؛ فهو لا يركز على جانب دون الآخر، ولا يأخذ تعاليم الإسلام مجزأة. ويعتبر الإسلام منهج حياة كاملا؛ فهو عقيدة وعبادة، وأخلاق ومعاملة، وتشريع وقانون، وتربية وتعليم، ودولة ونظام، يتناول مظاهر الحياة كلها، ويحدد منهاجًا للسلوك البشري في كافة أطواره.
  8.  العملية والواقعية: لا يجنح إلى المثالية المجردة؛ فهو منهج عملي واقعي من حيث مراعاته واقع الحياة وطبيعة الإنسان وتفاوت الناس في استعداداتهم ومداركهم وحاجاتهم ومطالبهم.
  9. الاستقلالية وعدم التبعية للأجنبي: سواء كانت تبعية فكرية أو ثقافية أو اقتصادية وسياسية.  10.تعزيز المؤسسة الأسرية: فالأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، وبصلاحها يصلح المجتمع وتترابط علاقاته وتتوحد مشاعره.

الإسلام الحضاري من وجهة نظر أحد مهندسيه

يعد البروفيسور عبد الله محمد زين -وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف في ماليزيا-  أحد أبرز المساهمين في المشروع وحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر.
وقد شرح محمد زین المشروع في كلمة ألقاھا أمام المؤتمر العالمي حول قضایا الإسلام الحضاري، فقال: "الإسلام الحضاري ھو مدخل لتجدید المجتمع المسلم، ویقدم منھجا جدیدا وصحیحا لفھم الإسلام في الوقت المعاصر. وعليه فإن الإسلام الحضاري ھو جھد لإعادة دور الحضارة الإسلامیة التي تقوم على القرآن والسنة، ولا یمكن أن ینحرف عن العقیدة الصحیحة"، ویفسر أسباب وتوقیت طرح المشروع، فیقول: "لأن الغربیین یسیئون فھم الإسلام ویتھمونه بالتطرف وینظرون إلیه نظرة سلبیة؛ فقد قامت الحكومة المالیزیة بالدعوة لھذا المشروع".


ولا یتعجل زین تطبیق المشروع أو فرضه سریعًا، ویقول: "ستجتھد الحكومة المالیزیة في تنزیل ذلك على الواقع بسلاسة وتدرج؛ لأن التطبیق الحكیم والمتأني یؤتي ثمارا جیدة، وإلا فمن الممكن أن یرفض المجتمع المفھوم الجدید. والمشروع قابل للتطویر واستیعابه للأفكار والاجتھادات النافعة والجدیدة؛ فنحن في حاجة لتلبیة متطلبات الحیاة المعاصرة بما یتفق مع إسلامنا وتعالیم دیننا".


ويؤكد على على أن مشروع الإسلام الحضاري "هو اجتهاد بشري وليس وحيا معصوما، ولذلك هناك احتمال الخلاف معه."


4 أسس نظرية فكرية.. ما هي الأسئلة الملحة التي يجيب عنها مشروع الإسلام الحضاري؟

 

  •  شمول الإسلام

وهي نقطة أكدت عليها حركات إصلاحية إسلامية عديدة أيضا، وتأكدت خلال المشروع من خلال ما تم إيراده في نص المشروع من أنه صالح لكل زمان ومكان وأنه "طريقة الحياة بكل ما تشمله الكلمة من معنى".

  •  الفهم الحضاري ومقاصد الشريعة

تم التركيز على الوثائق المتمشية مع مقاصد الشريعة والمرتبطة بالحياة والعمل بوصفها عبادة، وقد حددتها الوثيقة في جوانب الدين والعقل والنفس والمال والنسب والأسرة والعرض والعدل والأمن. وهو ما يمكن اختزاله في مقاصد الشريعة الخمسة المعروفة " حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النسل."

  • الخصوصية الماليزية

يركز المشروع الإسلامي على التركيز على تجربة ماليزيا مؤكدا في نص الوثيقة على تماشي مضمون المشروع مع سياسة الدولة الماليزية وتطلعاتها المستقبلية في 2020م  والسياسات التنموية لماليزيا.

الخصوصية الماليزية

  •  الوعي بالاختلاف عن المشاريع الأخرى

أكد ذلك واضعو المشروع حسب ما جاء في نص المشروع بأنه "أكثر شمولية وكمالا من المبادئ والمفاهيم المقتصرة على جوانب جزئية من الدين، كما هو شأنه في مفهوم الإسلام السياسي والإسلام الصوفي وما شابه ذلك".
إن مشروع  الإسلام الحضاري جاء للإجابة على أسئلة النهضة والحضارة الملحّة اليوم على  الشعوب والحركات والدول الإسلامية ليحاول التوفيق بين مفاهيم الإسلام والحداثة، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ووجود المرجعية الواضحة والقادرة على حل قضايا الواقع بالممارسة التجديدية والتفكير المقاصدي جعلت من الدين عامل توفيق ورفعة، ولا يشكل عائقا أمام التقدم المنشود، حيث شكّل المشروع دعامات قوية وواضحة لأي حلم نهضوي لدولة ماليزيا مستقبلا.