إن الوعي والفكر من أهم مقومات الحضارة وهو ركيزة من ركائز النهضة، وقد سخر الكثير من العلماء والمفكرين والأدباء عقولهم وأقلامهم وسنوات عمرهم، لدراسة الفكر والعقل الإنساني وخصوصا العقل العربي، وناقشوا أزمات الأمة وخاضوا كثيرا بنظرياتهم وقراءاتهم للتاريخ وآرائهم في أزمة الفكر، ومن هؤلاء المفكرين من أفنى عمره في توضيح إشكاليات الفكر، ومحاولة وضع تصور شامل لأزمته، وتحديد الأسباب والمتغيرات والانحرافات ومسبباتها، ومن هؤلاء المفكرين نجد محمد عمارة، وطه عبدالرحمن، ومحمد الجابري، وجورج طرابيشي، و طه العلواني، وغيرهم من الذين برعوا في تحليل أزمة الفكر وتفنيد المشكلات في ضوء المراجع التاريخية وواقع الأمة.

وقد ألف الكثير منهم كتب تروي الوقائع والأحداث وتوجهات الفكر والعقل العربي منذ عصوره الماضية وحتى وقتنا الحاضر، ويمكن الاستفادة كثيرا مما تم نشره من تنظيراتهم وتصوراتهم، والكُنوز العلمية الثمينة التي سطروها في صفحات التاريخ المشرق وأصبحت خالدة أبد الدهر.

ومن هذه الإنتاجات الفكرية ما يلي:

"كتاب الأَزمة الفكرية المعاصرة" للدكتور طه جابر العلواني

ويستعرض المؤلف في هذا الكتاب أزمة الفكر من منظور استقرائي للماضي والحاضر، ويضع في نصوصه تشخيص مسببات الأزمة، ولقد بدأ بقضيتين أساسيتين هما:

  • قضية الغزو الفكري: وتم تناول قضية الغزو الفكري وشرحها، ذلك أن متناوليها انقسموا إلى طرفين، طرف مؤيد وطرف معارض، ولهم وجهات نظر متعددة بأدلة وبراهين تؤكد وجهة نظر كل طرف، ولمن يلتزمون بالتعاليم الإسلامية وبتَمايز الحضارات وحتمية اختلافها لهم رأي وسط في هذه القضية.
  • قضية أدوار تعاملنا مع الفكر: وهنا يذكر المؤلف عدد من المفاهيم والمراحل وهي ثلاث مراحل: مرحلة الصدمة، ومرحلة المواجهة، ومرحلة الصحوة، أو كما يسميها المؤلف وهي التسمية الأنسب "مرحلة الوعي بالذات أو اكتشافها'.

ثم تطرق إلى لب الموضوع وبدأ بتوضيح عدد من المفاهيم ومنها: حاجتنا إلى الفكر، ومفهوم الفكر والمعرفة، وتناولها بأسلوب علمي لأن المقام في استعراض وتشخيص أزمة الفكر في هذا الكتاب ليس من أجل إثارة المشاعر، فالأمة بحاجة إلى مواضيع تحقق وتدقق في أزمة الفكر؛ لتدعيم الأدلة ووضع الحلول المناسبة للتخفيف من حدتها والخروج منها.

وتناول أيضا المعضلات الفكرية ومنها معضلة العقل والنقل، ومعضلة السببية، وأضاف معضلات أخرى تحت مسمى قضية، وهي قضية التأويل وقضِية الجبر والاختيار، وقضية التقليد والاجتهاد.

وذكر صور من الأَزمة الفكرية تناول فيها طرح قيم لأسبابها كالتَخلف التربوي والثقافي، ومما ذكره ما قاله الماوردي: (تجوز إمامة الجور وتمضي أحكامها وتجوز إمامة الجبر أي المتغلب) و(وتنعقد الإمامة ببيعة اثنين قياسا على عقد النكاح)، وعلق المؤلف قائلا إن الماوردي (وهو من كبار الفقهاء توفي عام 450 هـ) وإذا كان في تراثنا الفكري والفقهي هذه الثغرات "الآن أي شخص يبايعه اثنان صار إماما قياسا على عقد النكاح؛ أي من يتزوج حرمة كمن يحكم أمة" فيكون طبيعيا ما أصابها من الوهن والضعف.

ثم بدأ يستعرض نقاط مهمة على طريق العلاج وكأنها خطة عملية تتطلب جهود كبيرة وتطبيق فعلي ومسؤول للخروج من الأزمة الفكرية الجاثمة على الأمة. ورغم صغر هذا الكتاب وقلة عدد صفحاته إلا أنه من أفضل الكتب تناولا للأزمة الفكرية المعاصرة.

"كتاب اغتيال العقل" لبرهان غليون

إن كتب غليون من العنوان تستدعي معنى واحد فقط وهو قتل العقل أي قطع كل الروابط التي تغذي العقل والتي تجعله يكوّن فكر سليم يساهم في وعي متحضر ونهضة حقيقية.

لقد تناول المؤلف في كتابه عدد من المواضيع وذكر مجموعة من القضايا، وركز كثيرا على قضية الهوية وكأنها محور في إيصال وجهة نظره، ويرى غليون أن الهوية هي "أن تعرف من أنت وما تريد أن تكون عليه".

كما احتوى الكتاب وبتدرج في التقسيم على أربعة أقسام الأول "زمن الفتنة" وتناول فيه العقل العربي وانقسامه والنهضة والثقافة والهوية، والعقل السجالي، والنقد الموضوعي في تشخيص الواقع، والانقسام في رؤية الذات والآخر. والقسم الثاني "زمن النكسة" وتناول جدل الثقافات التقليدية والشعبية والسلطة والصراع، صراع الكل مع الكل في البيئات العربية، ونقد السلفية من الهوية إلى الذاتية. والقسم الثالث "زمن الغربة" وهو عن انحلال المدنية العربية وإشكاليات العودة إلى الأصول بسبب التَصارع بين الذاتية العربية بجناحيها، الجناح التقدمي، والجناح الأصولي، وانفكاك النخبة عن العامة واستغلال المتسلطون من أجل بقاء عروشهم ومكاسبهم، وتناول عدد من المواضيع منها الحداثة والزمن الموحش وحجاب العقل. والقسم الرابع "زمن الوعي" وهو التعمق في نظرية الوعي الذاتي والبصيرة بالواقع، ونظرية النهضة والحداثة للتكامل بين المجتمع العربي، وتحرير العقل ليتجه نحو الإبداع ويغير الواقع إلى الأفضل.

ودعى المؤلف غليون إلى عودة العقل العربي إلى اتزانه دون صراع فيما بين العقول والثقافة العربية والإسلامية، وتوحيد الجهود من أجل النفع العام وقبول الآخر، والاحترام المتبادل والانسجام في سبيل تحقيق نهضة الفكر والعقل وتحقيق النهضة الجماعية للأمة.

"كتاب العمل الديني وتجديد العقل" للدكتور طه عبدالرحمن

بدأ المؤلف باستعراض فكرته الشاملة، وتوجهاته، في تأليف هذا الكتاب وحدّد في مقدمة كتابه الدواعي والأسباب لتأليفه، ومن هذه الأسباب السعي نحو فهم أبعاد "مشكلة اليقظة العقدية"، وتشخيصها، لتحقيق التناغم والتكامل في مناهج التجديد للعقل.

وبالمُجمل فإن المؤلف تناول مفاهيم عدة منها تجريد العقل من الغلو في الفكر المذهبي، وكذلك الخلو من الأدلة والبراهين، وأن الإطار العام لتجديد العقل هو بمفهومين أساسيين وهما التجربة والتعقل اللذين يؤديان إلى تقويم السلوك، والعمل من أجل تحقيق التفاهم والألفة، للوصول إلى فهم عميق للعَقل وحدوده.

وتم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب وفي كل باب ثلاثة فصول.

تناول في الباب الأول العقل المجرد وآفاقه وحدوده، وناقش الصفة الفعلية للعقل وتشييء العقل، والاعتراض على ذلك، كما قدم رؤية لواقع اجتماع تَشييئية العقل وفعاليته في الفكر الإسلامي، وكذلك تحدث عن عدد من المفاهيم الأساسية عن العقل، منها الألوهية وإدراكها، والإلهيات النظرية والظنية، كما تناول حدود العقل الخاصة والعامة؛ الفلسفية والمنطقية والواقعية بأسلوب علمي يؤطر التمهيد من أجل التجديد.

وتناول في الباب الثاني العقل المسدد وآفاته، وتطرق في هذا الباب إلى عدد من المواضيع منها صفة العقل العملية وموافقة أسرع لاستجلاب المنفعة، وكذلك تناول الاشتغال في العقل المسدد، ودخول الجانب العقدي في الممارسة الفقهية، كما ذكر رد اعتراضي على اللاعقلانية واللاتَاريخية في الممارسات السلفية في إطار فلسفي، وتناول ما أسماه آفات علمية للعَقل المسدد، وعَلاقتها بالممارسات الفقهية والسلفية، وذكر آفات التظاهر والتقليد وكذلك أضاف الممارسات السلفية للاشتغال بالإصلاح والمواجهة بين السلفية والصوفية، وكذلك تطرق لآفَتي التجريد والتسييس وختم الباب بتناول آفاق تكميل العقل.

وتناول في الباب الثالث -وهو الباب الأهم في هذا الكتاب- العقل المؤيد وكمالاته، وذكر عدد من الصفات العقلية التي يتصف به العقل المؤيد، وتطرق إلى عدد من المفاهيم الأساسية، منها الصفة التجريبية للعَقل المؤيد، الصفة العينية والعبدية، وكذلك الصفة الكمالية للعَقل المؤيد، وتطرق للمُمارسات الصوفية والكمالات التحقيقية والتخليقية للعقل المؤيد، وختم الكتاب بمُوجز عن قوانين في مراتب العقلانية.

"كتاب أزمة الفكر الإسلامي المعاصر" للدكتور محمد عمارة

إن هذا الكتاب هو أحد الكنوز الثرِية والثمينة للمفكرين والقراء التي تركها عمارة كإرث للأمة العربية والإسلامية، وأن الطرح الموضوعي لأزمة الفكر الإسلامي المعاصر مميز جدا، وكما هي جميع مؤلفات عمارة تتميز بسهولتها.

يحاول عمارة أن يعرض أزمة الفكر الإسلامي من وجهة نظره، ودلل على أن هذه الأزمة أزمة جمود وتقليد وعدم الإبداع أو التجديد، وعدم الإتيان ببديل حضاري إسلامي يحل محل البديل الغربي، الذي صبغ الأمة بصبغته، وأحاط بها بنظرياته، وقد ناقش المؤلف مفاهيم العقل وتحريره، وعلاقة الجديد والتجديد بالتراث، كما ناقش علاقة الهوية الثقافية بالأصالة والمعاصرة، وعلاقتها أيضا بالحاضرات الأخرى.

كما ذكر موضوع انقسام العقل المسلم حول مرجعية المشروع الحضاري، وناقش هذا الموضوع باستفاضة وخبرة تنم عن الاطلاع الواسع، والتمكن في هذا المجال، وتم تقسيم الموضوع إلى عدة تيارات هي:

تيار التقليد والمحاكاة للموروث، تيار التقليد والمحاكاة للتيار الغربي (التغريب)، تيار الإحياء والتجديد، وتيار الانتقال من التغريب إلى التجديد، وبهذا التيار ختم كتابه القيّم، وأضاف مرجعا من مراجع معالجة أزمة الفكر، وهيأ بكتابه تنظيرا فريدا برؤيته وأفكاره وتحليلاته لأزمات الأمة.

ومن مقولات عمارة الخالدة:
  • "إن أبا العلم وأمه هو الدليل، والدليل ليس أرسطو بالذات ولا جاليليو بالذات، والحقيقة تلتمس حيث يوجد الدليل."
  • "لقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة هم المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها." 
  • "الحاكم الشرعي في الإسلام هو الذي تم اختياره بالشورى، أي الانتخابات حاليًا وإذا لم يُولى الحكم بالشورى فشِرعيته باطلة."
"كتاب إشكاليات العقل العربي" أحد سلسلة كتب نقد العقل العربي لجُورج طرابيشي

جورج طرابيشي مفكر وكاتب وناقد سوري، تميّز بغزارة مؤلّفاته وتَرجماته، له مؤلّفات مهمّة في الماركسية، والنظرية القومية، والنقد الأدبي للرواية والقصّة العربية، إضافة إلى "معجم الفلاسفة"، ومشروعه الموسوعي الضخم الذي عمل عليه أكثر من 15 عاماً، وصدرت منه خمسة مجلّدات في "نقد نقد العقل العربي".  

إن في هذا المؤلف الناقد جهدا كبيرا في عملية النقد لسِلسلة نقد العقل العربي، ويعمل المؤلف في كتابه هذا على تفنيد إشكاليات العقل العربي، وتصحيح بعض الإشكاليات التي لم يتم الرد عليها من قبل الجابري رحمه الله، ولا زال هذا الكتاب وسلسلة نقد نقد العقل العربي مرجعا لجميع المفكرين في فهم العقل العربي من أصوله التاريخية إلى عصرنا الحالي.

وقد بدأ المؤلف بمناقشة إشكالية الإطار المرجعي للعقل العربي، باستقراء وتوضيح أهم ما ذكره الجابري عن عصر التدوين، وتفكيك ما ألصقه الجابري لهذا العصر من بداية التاريخ الفعلي له، كما يعيد ناقده بناء إحداثيات هذه الواقعة كإطار مرجعي للعقل العربي وكنقْطة مركزية للدائِرة الحضارية العربية الإسلامية.

وتطرق إلى إشكالية اللغة والعقل، ورد ردا شافيا على الجابري في أطروحته ومقولته أن العقل العربي مريضٌ بلغته العربية المتّهمة بأنها لغة "بدوية"، "حسّية" ليس لها صلة بالتاريخ أو الحضارة، دون أن يذكر أدلة على مقولته هذه، ثم ذكر أدلة دامغة لاتصال الإنسان العربي واللغة العربية بالتاريخ والحضارة.

بدأ بموضوع إشكالية البنية اللاشعورية للعقل العربي، وعمل على تفنيد وتحليل ما أورده الجابري عن النظام المعرفي، وتحليل آرائه وتصوراته حول البنية اللاشعورية للعقل العربي.

وعموما فإن ما كان من طرابيشي في هذا الكتاب ما هو إلا تحليل وتفنيد لما أورد الجابري في نصوصه، وآرائه الشخصية واقتباساته المستندة إلى دليل، والغير المستندة إلى دليل وإعادتها إلى مكانها الطبيعي، ونصابها الفعلي.

إن الاطلاع على سلسلة "نقد العقل العربي" للجابري، وسلسلة "نقد نقد العقل العربي" لطَرابيشي، والكتب المذكورة آنفا، إنما هو تحليل عميق لأزمة الفكر العربي والإسلامي، ومحاولة إيجاد تصور عام للأزمة مع إيراد حلول عملية للخروج من هذه الأزمة كما أوردها عمارة والعلواني.

وإن قراءتنا لهذه الكتب وأمثالها تعيد لعقولنا التجديد، وتغرس فينا أعوام وقرون من المعرفة، ونكتسب منها أهمية الفهم العميق والواعي لأزمة العقل والفكر العربي الإسلامي، والعمل على تطبيق فعلي للخروج من هذه الأزمة، وألا نضع عقولنا للسلب مرة أخرى، بل ليكون لنا عقل فريد مليء دائما بالتجديد وبكل جديد.