حاوره أ. شمس الدين حميود
نظّمت صفحة عمران يوم الخميس 20 أغسطس 2020م / الموافق للفاتح من محرم 1442هـ في صفحتها على فيسبوك بثًا مباشرًا مع د.محمد مصطفى أبو راتب في ساعة فكر.
أدى التراجع الحضاري للأمة الإسلامية إلى تراجع في إنتاج الفن الرسالي، ولم يكن الاهتمام به كأولوية من أولويات التطور الحضاري، ما يطرح عديد التساؤلات حول دوره وواقعه ومدى تأثيره، ولمناقشة هذا الموضوع يتجدد اللقاء بكم في ساعة فكر، نستضيف فيها الدكتور والمنشد "محمد مصطفى أبو راتب" لمناقشة الجانب الفكري في صناعة الإنسان الحضاري من خلال الفن، فأهلا وسهلا بكم.
بسم الله الرحمن الرحيم عنوان المحاضرة "هل يصنع الفن الملتزم الإنسان الحضاري؟" وهو سؤال غالبا ما يطرح على طاولة النقاش. الإنسان هو محور اهتمام كل الشرائع سواء كانت سماوية أو وضعية، والفلاسفة والكتب السماوية والدساتير كلها كانت تهدف إلى تيسير سبل خلافة الإنسان على هذه الأرض ومساعدته لحمل أمانته، وكما قال الله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا"، فلو كانت هناك كلمة ترادف وتوازي كلمة الإنسان لكانت "الالتزام بالقيم" وهي أنسب ما يعبر عنه، لمَا فيها من تحقق لإنسانيته، فعندما يلتزم الإنسان بمبادئه ويطبق أخلاقياته يكون في أعلى مدارج الإنسانية.
من هنا نقول أن الحسن والجمال هو ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات في كل شيء بخلقه وأخلاقه، بدليل قوله تعالى :"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، والحسن نوعان ظاهري وباطني، فأما الأول فهو جمال شكله وقوامه، أما الثاني فهو جمال القيم والأخلاق الذي له أهمية في خارطة التربية الجمالية التي حث عليها الإسلام، وقبل أن نغوص في تفاصيل الجمال الباطني يجب أن نعرف ماقاله الفيلسوف الأمريكي المسلم داوود التوحيدي: "هناك جوانب سبعة رئيسية في تكوين الإنسان هي التي تشكل باطنية الإنسان وتلقي بظلالها على جمال مظهره"، أي أن هناك تعقيدا في فهم الجمال الباطني وقد تكلم الفلاسفة في ذلك كثيرا وأجمعوا على أن هذا الباطن يرجع في تكوينه إلى تلك الجوانب السبع الظاهرية في التكوين.
يرى البعض أن صناعة الإنسان تكمن في تربيته ورعايته وتحسينه وتجميله، وأن الغرض من تربية هذا التحسين هو الأخلاق، ويرى البعض أن الغرض من التربية هو تحسين صحة العقل، فكما نعرف أن الإنسان هو جسم وقلب وعقل وروح.
ومنه نجد أن هناك صحة فكرية، وصحة روحية، وصحة عقلية، وصحة جسدية، وهذا ما يغفل عنه كثير من المربين والآباء فيسعون لإطعام أبنائهم أحسن الطعام، ويلبسونهم أجمل الملابس ولكن لا ينظر إلى كيف يربي عقله وفكره وروحه، ويتناسى أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.
وقد أوجد الله سبحانه وتعالى وحدانية لنظام هذا الكون، لذلك فإنه من صلب الفكرة الإسلامية عبادة الله الواحد، وهذا ما نعرج منه إلى أن هناك نظاما لابد للإنسان أن ينسجم معه، لنوجد الإنسان المنظم المرتب وفقا لهذا النظام.
وفي جانب العلاقات الاجتماعية، يجب أن نربي الأفراد عليها، وأولها علاقة الإنسان بنفسه أمام الله عزّ وجل، فأنت مسؤول عن نفسك فتقع عليك مسؤولية تربيتها وتزكيتها وتهذيبها، ثم هذا الفرد المسلم هو مسؤول أيضا عن أسرته أمه وأبيه، وإخوته وزوجته وأبنائه، وهذه المسؤولية أيضا لها تكاليف معروفة، ثم تأتي دائرة علاقاتك بالمجتمع والوطن الذي أنت جزء منه وهناك أصول للتعامل مع هذا المحيط، والدائرة الرابعة هي دائرة الأمة التي تنتمي إليها، وكيف تتحسس هذا الانتماء وتقف معها في المحن والشدائد، والدائرة الأخيرة هي دائرة الانتماء إلى الإنسانية الجامعة ففي النهاية نحن بشر ولنا روابط مشتركة بيننا وبين الآخر، وما يبرهن ذلك هذا الوباء فالكل يسعى جاهدا لإيجاد حل للتخلص من فيروس كورونا وكلنا نتبع نفس الإرشادات والاحترازات الوقائية، أيضا تلك الفطرة التي تنطوي عليها السرائر والتي تتمثل في تقديم المساعدات والتضحية والفداء وما إلى ذلك من المشاعر النبيلة.
ولا يجب أيضا أن نغفل على أن الإسلام يربي دائما ويشجع الإنسان على القيادة والتأثير فيصنع منك قائدا في بيتك أو في مؤسستك أو في جامعتك، كل هذه الجوانب التي ذكرنا تساهم في خلق الجمال وتكوين الملامح الأساسية في شخصية الفرد.
ويأتي الفن الملتزم المبدع ليعمق هذه المفاهيم لدى الإنسان الحضاري، وعندما يستطيع الفن أن يصل إلى هذا المستوى نعرف أننا نسير في اتجاه صناعة النهضة والحضارة كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: "نحن نريد أن نصل إلى إنتاج هذا الإنسان ولا أن نعتمد فقط على إحياء مقتنيات نكررها فنكون مستهلكين".
إذا هذه هي الجوانب المكونة لشخصية الإنسان:
1- الأخلاق.
2- المعرفة.
3- الحالة الصحية.
4- العلاقات الاجتماعية.
5- القيادة.
6- الخدمة الإنسانية.
7- نظام الوحدانية.
من هنا ندخل إلى قضية تكافؤ الأخلاق بالجمال الباطني، وكثير من الفلاسفة والمفكرين يجعل فكرة الأخلاق موازية لفكرة الباطن أو الجوهر الإنساني.
فما هي أهمية الفن وعلاقته في بناء القيم؟
ولمعرفة ذلك يجب أن نتطلع وندرس آثار الحضارات الإنسانية وما تركته من فنون، كما تشهد على ذلك حضارة الأندلس، وبغداد ودمشق وتركيا وما فيها من آثار للإسلام العظيم، فالكل إذن شاهد على أن الفن أنتج إنسانا حضاريا، كما يقول مالك بن نبي: "الحضارة والتقدم كلٌ متكامل والضعف كُلٌ متكامل"، وعندما يتطرق الفن للماضي والتاريخ بما فيه من أفراح ومآسٍ وجراح فإنه يحاول ربط الفرد بماضي أمته ويؤصل انتمائه لها، ويبعث على الإدراك بأنه يستطيع أن يحدث نهضة جديدة من خلال إعادة بناء القيم والرجوع إلى الفضائل.
ونحن نعمل دائما على أن نبث روح الماضي في إنسان الحاضر حتى يستعيد الثقة بنفسه ونستذكر أننا نستطيع النهوض من جديد بإحياء عوامل الحضارة.
تعريف الفن: "هو مهارة يحكمها الذوق والموهبة والإبداع جمعها فنون" وهناك علاقة مطردة بين الفن والجمال، فدائما الفن هو حامل معبر عن الفكر ويقدمه، على غرار ما هو متداول في الغرب الفن من أجل الفن لأن هناك أفكارا لا تحمل شيئا من مفاهيم الانضباط الديني تستعمل فقط من أجل المتعة، كلوحة رسام مليئة بألوان متناثرة، يراها أحدهم فنّا أو تمثل بالنسبة له الحرية أو كيف ينطلق الإنسان في هذا الكون.
لا يوجد في الفكر الإسلامي قناعة في مثل هذه النظرية إلا أن بعض المفكرين قالوا بأنه لابأس بها، وقد أجمع مفكروا الإسلام بشكل عام على أن الفن يجب أن يحمل قيمة أخلاقية سامية ويخدم قضايا الأمة حتى يكون نافعا، لأن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر الجمال قرنه بالمنفعة، يعني أن الفن عندنا لا ينفصل عن رسالة الإسلام.
يجب أن نشير إلى أمر هام، فالفن الإسلامي ليس هو الذي يتحدث عن الإسلام بشكل مباشر، لا فقد يستخدم فكرة الفن الرسالي من أجل تفعيل مبادئ الإسلام والوصول للجمال وفق مقياس الشرع، فصانع الفن في الإسلام هو الذي يقدمه للناس ويعمل على نفعهم، وأسبق من ذلك الذي يصنع فنا بمتحف فقط دون نفع الناس، ففي الغرب مثلا يمكن أن يُصنع تمثال جميل يوضع في مكان ما دون هدف فقط من أجل الجمال ولتستمتع بشكله، أما فهم الإسلام للجمال يقدم المنفعة إلى جانب الحسن الظاهري، فعندما يقول الله سبحانه وتعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، انظروا قرن الدار الآخرة والعبادة بالدنيا ونصيبنا منها، فالله عز وجل أحلها لنا وأوصانا بالإحسان إلى الآخرين وأن نأخذ من إحسانه إلينا بتقديم الحسن والجمال لهم، لذلك فإن الفن يجب أن يطبع بطابع المنفعة والحسن والجمال ليقدم للآخرين، إن الله لا يحب المفسدين، إذن الجمال هو قيمة حضارية في غاية الأهمية في حياة الإنسان ويتسامى الإحساس بالجمال عند المرء بقدر وعيه بالقيم المعنوية وسمو روحه وتهذيب أخلاقه، وبهذا نستشف بأن غاية الجمال من وجهة نظر الإسلام هي الارتقاء بالإنسان وأخلاقه وسلوكاته.
جدلية الالتزام والانتماء
حقيقة لابد من الوقوف عليها هي أن الإنسان يساوي الالتزام بما يحمل من قيم ومبادئ يؤمن بها ويدافع عنها، ويجعلها محور مداره لتحقيق ذاته ووجوده، والالتزام يعني الانتماء، وعدم الانتماء يناقض الإنسان ويضادّه لأنه من صميم الفطرة أن يتخذ الإنسان وسطا وينتمي إليه ويجعله سبيلا لتحقيق وجوده.
كولن ولسون لديه كتاب اسمه "اللامنتمي" قال فيه: "حتى اللامنتمي هو ينتمي لمجموعة اللامنتمين" إذا الانتماء حقيقة واقعة في حياة الإنسان وضرورة ملحة أن تنتمي إلى مجموعة ذات فكر معين أو رؤية معينة، لأمة ذات تاريخ معين، لحزب ما أو لكيان ما، حتى الغير منتمون، ينتمون إلى مجموعة خاصة هبائية، فهل يعقل لإنسان واعٍ أن ينتمي إلى أناس غير واضحي الانتماء، وقد قال سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، لذلك يجب أن ننتمي إلى مجموعة الناس الذين يؤمنون بأننا أتينا إلى هذا الكون من أجل العبادة.
ومقومات الالتزام في مفهومنا الإسلامي أمران، الأول هو مضمون حق يحقق الخيرية، والثاني أسلوب أمثل يعرض هذا الحق وهذا يتمثل في الفن الحضاري على اختلاف أنواعه وتعددها.
فحتى تكون فنانا ملتزما يجب أن يكون لديك مضمونان مضمون حق تقدمه، وأسلوب أمثل لعرضه وتقديمه، وقد يكون هذا الأسلوب أنشودة، أو رسمة، أو مسرحا، أو شعرا أو خطابة، كيفما ما تريد مادامت تمتلك مضمون حق وأسلوبا إبداعيا لعرضه فأنت فنان ملتزم.
ومن السلوك الحضاري الذي يقوم به الإنسان أن يدعو إلى ما يؤمن به بطريقة جميلة وأسلوب جذاب من خلال حواره ونقاشه المتزن الهادئ، ويتمثل ذلك في قوله تعالى: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
من كل ما ذكرته نستشف منه أن الالتزام هو عرض المضمون الحق بالأسلوب الأمثل الذي يستوفي الشروط الجمالية والإبداع بالكلمة والفعل والموقف، وقد اخترت أن أقدم المضمون الحق من خلال الأنشودة الإسلامية لخدمة قضايا الأمة، وأتصور مجموع النشيد الإسلامي والمنشدين يقدمون مضامين حق تخدم القيم في مجال الطفل، أو الأسرة أو العرس الإسلامي، أو مجال التضامن، والابتهال وحب الله والرسول، كل هذه المضامين القيمة عندما تقدم بشكل لائق تنتقى من التغني إلى التبني، وصناعة البناء الحضاري.
بارك الله فيكم دكتورنا الحبيب، بعد هذا التأصيل الماتع النافع حول الفن الحضاري وعلاقته بصناعة الإنسان، يقال أن العمل الفني يمثل منذ أقدم العصور شكلا من أشكال التقدم والترقي، ويعبر عن الذوق الجمالي في الفطرة الإنسانية وهو في العالم اليوم يمثل أحد أهم مساحات التدافع الحضاري، ففي رأيكم هل بالإمكان تدارك التأخر الفادح الذي نشهده في هذا المجال؟ وما السبيل لإضفاء الأهمية من أجل تدارك التدافع الحضاري والنهوض بالقيم؟
هنا لا يمكننا أن نتكئ على الفن ونطلب منه أن ينهض بالأمة بمفرده فالنهضة عملية مشتركة بين المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والفنية، وأكيد أن الفن ودوره في تهذيب النفس وجعلها تتذوق القيم الحضارية الجمالية له أهمية كبيرة في صناعة التطور، والفن الآن ليس كماليا لذلك يجب أن نؤمن فعلا أنه عندما يتغنى شبابنا اليوم بمضامين ذات منفعة سوف تسكب هذه المضامين في شخصيته، أما أن نبقى نغني ليلا ونهارا على الحب والعشق والقلوب المجروحة والمبتلية التي لا تعرف من الحب غير هذا البلاء، ونحن نؤمن أنه لابد للنفس البشرية أن تتغنى بالحب والعشق الطاهر إضافة إلى معانٍ أخرى يجب أن يتغنى بها الإنسان، ولا يجب أن يكون الأمر حصرا على الغناء أو الإنشاد فقط، وحتى المسرح لا يجب أن يكون مسرحا بكائيا من أجل النحيب والنواح فقط، ولا يجب أن يكون فكاهيا من أجل الضحك وتضييع الوقت، يجب أن نمتلك سينما ذات منفعة وأن ننتج أفلاما ذات فكرة هادفة أصيلة لصناعة الإنسان المكافئ لتحديات اليوم، إذا الفن والحس الجمالي أمر مطلوب في عملية التربية على وجه الخصوص والحياة ككل من خلال مشوار الأمة وصناعتها عموما.
هذا الحديث يقودني إلى جزئية الفن وابتلائه بانزلاقات وتشوهات وتمرده على الذوق العام والأخلاق، ما أدى إلى خصام بين الفن وبين شريحة واسعة من المتدينين، ألا يمكن خلق مساحات للاتصال والتوافق تراعي خصوصيات كل مجال وتحفظ هذه الوسيلة الهامة للمدافعة الحضارية؟
نحن على هذه الأرض كبشر نشبه عائلة واحدة خاصة بوجود مواقع التواصل الاجتماعي فكيف بأمة واحدة، ألا ينبغي أن يكون هناك مساحات لتقبل بعضنا البعض، فاختلاف فقهاء الأمة رحمة، إذا لابد من تقبل الآخر ولابد من الاشتغال بفن هادف يؤدي بالشباب إلى اعتناق القيم العليا والرسالية للنهوض بهذه الأمة.
قال شاعر الأقصى يوسف العظم -رحمه الله- أنه رغم غياب وسائل التواصل الاجتماعي إلا أن أبا راتب استطاع أن يؤرخَ لفترة هامة من تاريخ الأمة، فهل يمكننا أن نطمع في تأثير من هذا القبيل أم أن طغيان وسائل التواصل الاجتماعي سيجعل هذا الأمر بعيد المنال؟
أقول بغياب وسائل التواصل الاجتماعي استطاع أبو راتب أن يؤرخ لحوادث معينة في تلك الفترة مثل الثورة السورية في الثمانينات، وجهاد أفغانستان، وأحداث البوسنة، والشيشان، وبوجود وسائل التواصل الاجتماعي وهذا التطور التكنولوجي الفنان أقدر على أن يؤرخ ويوصل مشاعر معينة تجاه قضايا عادلة، كما قد أثر المنشدون كثيرا في قضية الاستهزاء بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من قبل الدنمارك، بالتكاتف مع الدعاة استطاعوا أن يردوا الاعتبار ويصنعوا الوعي ضد من تعدى على الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
كذلك الأمر في ما جرى في سوريا ومصر وفلسطين وبورما استطاع الاجتهاد الفردي أن يوصِل الصورة وأن يكسب التعاطف ويصنع الوعي فكيف إذا كانت هناك هيئات جامعة للفنانين تعمل على هدف واحد ولإيصال قيمة واحدة بالتأكيد سيكون التأثير أكبر وأعمق، وهنا أود أن أشير إلى "رابطة الفن الهادف" التي تجمع عديد الفنانين الملتزمين والتي سيكون لها أثر كبير في المستقبل في صناعة الرأي العام في المجتمع الإسلامي إن شاء الله، وقد كان هذا جزء من رؤيتي فالفن يجب أن يكون مشتركا تتلاقى فيه الأذواق وتتآلف حول فكرته فأنشدت مع جزائري ومصري وبحريني وفلسطيني ... حتى يستطيع المضمون الذي أقدمه الوصول إلى كل أقطار المجتمع الإسلامي.
كيف للفنان أن يواكب تغيير أذواق الأجيال الذين يتأثرون بالطابع الموسيقي وبين أن يبقى أصيلا لا يغير من رؤيته ومبادئه؟
عندما تكون هناك صورة واضحة لدى الفنان ويكون صاحب مبدأ وفكرة ولا يتخلى عنها تبقى الكلمة هي الأساس عندما نتكلم عن الأنشودة كمثال، فعندما يضبط الكلمة ضمن حدود واضحة، تبقى الموسيقى والإيقاع وباقي الإضافات مجرد إضافات تتطور بتطورها ويتجدد معها، وعلى سبيل المثال ألبومي الجديد "بالحُب عائد أنا" الذي استطعت فيه بفضل الله وبجهود الآلاف من المتابعين الذين قالوا بأنني التزمت بقواعد الأنشودة الإسلامية، رغم أنني أنتجت أربع نسخ للأنشودة الواحدة نسخة صوتية دون إيقاع أو موسيقى أو مؤثرات وهي موجهة لمن يأخذون بفتوى عدم إباحة الموسيقى، ونسخة ثانية بإيقاع لمن يعتبرون أن الدف يكفي في الأناشيد الإسلامية، ونسخة ثالثة بالإيقاع والمؤثرات فقط، ونسخة رابعة بالإيقاع والموسيقى والمؤثرات لمن يرون إباحة الموسيقى. والموسيقى قضية مختلف فيها لا يمكن الفصل في قطعية الأمر، لذلك واجب الفنان أن يرضي كل الأذواق والآراء الفقهية على اختلافها، بالتأكيد سيتطلب الأمر جهدا أكبر ومالا أكثر لكنني مع هذا الأمر وأحترم الذين لا يستمعون إلى الموسيقى.
وفي رسالة الماجستير الخاصة بي كتبت فصلا كاملا حول أحكام السماع، وقلت بأن الأمر لم يرقَ إلى مستوى القطعية.
وأنا شخصيا أطرب لموسيقى الكلمة وأحس أن اللغة العربية ذات وقع فني مميز وجميل، لكنني أحترم كل الأذواق وأنا كفنان أسعى لاستيعاب شريحة أكبر من المتابعين فلا أدع الشباب الذين يحبون الاستماع إلى الموسيقى يستمعون لغيري، ما دمت مقتنعا بفكرتي فأنا أريد لها الاكتساح والتوسع.
بارك الله فيكم دكتور على هذا الاجتهاد والتنوع واحترام الأذواق وآداب الاختلاف، مع واقع ما بعد الحداثة نشهد سيولة واضحة في كثير من المضامين والقضايا، فهل من وسائل لمعالجة الوضع المتمثل في مواكبة السوق وطغيان الموسيقى على حساب الكلمة مع أبعاد للرؤية؟ وليس هذا حكرا على النشيد الإسلامي بل في كل أنواع الفنون الأخرى صرنا نرى أن التركيز غالبا ما يكون على نغمات الموسيقى دون الكلمة، فما رأيكم في الأمر؟
طبعا هذا من نقاط الضعف في الأمة كباقي نقاط الضعف الأخرى، كالبعد عن الدين والأصالة ولأن التخلف كما يقول مالك بن نبي شيء متكامل فإن النهوض شيء متكامل، النهضة تصنع بأن ينهض أستاذ اللغة العربية بتلاميذه وأن ينهض الفنان في المسرح والرسم والإنشاد.
ومن هذا المنبر أنا أدعو كل المطربين بأن ينهضوا بفنهم ويجعلوه رساليا ذا قيمة ومبدأ، وأذكرهم بأنهم مسؤولون أمام الله، فكل واحد منهم لديه جزء جيد من ما قدمه طيلة مسيرته الفنية كالابتهالات والأغاني الوطنية وغيرها، وأتمنى أن ينظروا إلى ما يقدمونه بأنهم مسئولون أمام الله وسيحاسبون عليه.
ويجب عليهم تقديم ما يفيد شبابنا ويرقى بعقولهم، وأحيي "لطفي بوشناق" الفنان التونسي على فنه الملتزم وحمله لهَم الأمة العربية، وغيره من المطربين الذين يحملون في أنفسهم قيما ومضامين حقّ وأدعوهم إلى أن يستخدموا الفن لإيصالها، كأن يستعملوا الراب من أجل الكلمة الهادفة، فالكلمة تهُز العربي، ونذكر أنه عندما كان المشركون يذهبون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيستمعون إلى القرآن الكريم فيعجبون به.
الله -عز وجل- قد بارك لغتنا العربية عندما جعل القرآن عربيا، والأعداء فهموا قوة هذه اللغة ورمزيتها فعمدوا إلى تفريغ الكلمة من محتواها وتصغيرها بعيون أبناء الأمة، في القديم كان الطفل في عمر خمس سنوات يحفظ القرآن وشيئا من ألفية ابن مالك، وله حصيلة من اللغة يستطيع أن يفهم من خلالها كل ما يقال، فقالوا لا هذا غير ضروري وعلى الأطفال أن يعيشوا طفولتهم، فأبطلوا سحر هذه اللغة في النفوس.
بالحديث عن الفن والفنانين وإن كانت العبرة بالمضامين، شهدت الساحة منذ فترة كلاما عن ضرورة إنهاء التمايز بين المنشد والمغني، ما رأيكم في هذا القول؟
أنا مع إبقاء خصوصية للمنشد والنشيد مع تقبل المنشد الفنان، فأنا لست فقط منشدا إنما فنانا من خلال نشيدي، لذلك أحب الاحتفاظ بخصوصية المنشد والنشيد لأن له جمهوره الخاص، الذي يروق له هذا النوع من الفن الذي سيصل بإذن الله إلى القلوب فلا يصح إلا ما هو صحيح.
ختاما نسأل الله الهداية والتوفيق والصلاح لحال الأمة.