الدعاء ليس لتبرير العجز، ولا لتخدير النفوس، ولا لتهدئة القلق؛ الدعاء في أساسه ترميم فعّال للنفس الفقيرة التي تتعرض للتجريف والهدم بالحزن والكآبة والإحباط واليأس؛ الدعاء هو طلب الاستمداد من القوي المالك القهار ليجعلنا أقوياء مالكين قاهرين لعدونا؛ الدعاء هو اعترافك الكامل أمام الله أنّه لا حول لك ولا قوة إلا به سبحانه، وأنك عائد إليه لائذ بجَنابه لأنك تعلم أنّه لا أحد قادر على نصرك إلا هو ؛ الدعاء هو طلب العون من الله أن يكشف لك مداخل النصر والثبات، ويعينك عليها، ويفتح أبوابها؛ وإن شدة استسلامك لله واستكانتك له تملؤك بمشاعر الاحتياج إليه والقوة به والعزيمة بإرشاده.
الدعاء ذكرٌ من الأذكار تؤجَر على قوله والإيمان به والتعبّد بترداده والقصدِ به تأسِّياً واقتداءً، ولكن إجابة الدعاء بشرطه) ولينصرن الله من ينصره)، (إنْ تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (، فما كان للنصر أن يأتيكم إذا لم تنصروا الله، وتستجيبوا له: (وإِذَا سألك عِبادي عَنِّي فإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنوا بِي لعلّم يَرْشُدُونَ).
ودعاء المرء دون أن يقترن بعمل كإيمان المرء دون عمل، فمن يدّعي الإيمانَ دون أن يعمل العمل الصالح لن يبلغ به رضوان الله ولا جنّته.
إن الدعاء لا يعني أن تترك العمل ولا أن تستظلّ بعجزك ولا أن تستمر في نمطك الذي أوصلك إلى ما أنت فيه، فالدعاء قرار ذاتيّ ببدء التغيير (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وحدوث التغيير هو مفتاح الإجابة حيث تتأهّل النفوس الجَمعيّة لاستقبال نتائج التغيير.
والدعاء له باب معلوم مقرون بالعمل والسعي والاجتهاد، وما كان الله ليفتح باب الدعاء ويغلق باب الإجابة؛ وهو عبادة خطيرة تكاد تصل إلى مستوى بالإنسان الذي يفقه حقيقتها إلى استخدامه سلاحاً فعّالاً في مواسم الاشتباك والمناجزة ليرفع به فاعليّته، ويقوّي به حضوره، ويعزّز نفوذه.
ولو كان الدعاء يغني وحده عن القتال لَمَا احتاج رسول الله إلى القتال الشديد والسعي المتصل والاجتهاد البالغ والتضحية الهائلة وهو ذو الدعوة المُجابة، إذ إنّه يعلم أن إجابة الدعاء لا تأتي إلا بعد استفراغ الوسع وإحكام الصنعة في العمل، ولو لم يعمل يدفع ثمن حصوله على الأسباب وتمكينها لبطل التشريعُ وانتُقِضت السنن التي نظّم الله بها كونَه الفسيح وخلقه المتقن.
من السهل عليك أن تتوجّه بالدعاء، أو توجّه الناس للدعاء، أو توظّف الوسائط لذلك، أو تستدعي الإعلان فيه، أو تحلم بالنصر وتحقيق المراد، فليس ثمة تكلفة في ذلك ولا تضحية، وهذا الدعاء هكذا لا يحمل كَلّاً، ولا ينقذ غريقاً، ولا يحمي ضعيفاً، ولا يردّ حقّاً مسلوباً، ولن تزلزل عدوّك وأنت جالس أو محتبٍ في فنائك لأن ثمة قوانين في استحقاق النصر تتعلّق بامتلاك الأسباب والسعي لتحصيلها ومقدار الإعداد الذي اجتهدتَ في بذل استطاعتك فيه.
وربما كان نافعاً مفيداً أن يكون الدعاء حملة رأيٍ عام تحرّض المجتمع، وتجيّشه، وتثوّره، وتنقل العامّة من حياد السلب إلى حياد الإيجاب، ومن المشاعر الساكنة البادرة إلى المشاعر الانفعالية المتوقّدة، وتفتح له منافذ إلى مستوى الفعل والنشاط فيه.
وقد ظنّ بعض الصحابة قديماً أن الدعاء وحده يمكن أن يحصل به التغيير المراد، والسرعة في إنجازه، فأرشدهم رسول الله إلى أولويّة العمل، والثبات العمليّ، ولم يجبهم عن سؤال الدعاء، وكأنّه يقول لهم إن موضع الدعاء في سياقه العمليّ، ففي صحيح البخاري عن خبّاب بن الأرتّ قال: شكونا إلى رسول اللّه ﷺ وهو متوسّدٌ بردةً له في ظلّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا.. ألا تدعو اللّه لنا! قال: "كان الرّجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض فيُجعَل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، واللّه ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا اللّه أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون"؛ وقبل أن يستغرق رسول الله في الدعاء يوم بدر جهّز جيشه، ورصّ صفوفهم، ونظم أركانهم، واستكمل استعدادهم المستطاع كما في الصحيح من حديث عمر بن الخطّاب قال: لمّا كان يوم بدرٍ نظر رسول اللّه ﷺ إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبيّ الله ﷺ القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربّه: "اللهمّ أنجز لي ما وعدّتني، اللهمّ آت ما وعدّتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربّه مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: "يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعد"؛ وقد أنجز الله له موعوده فجاء الجواب: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
الدعاء عبادة المقاتلين والساعين والمجتهدين والمظلومين وهو لا يقوم بمهزوم ولا جبان، ولا يتهيّأ لضعيف، وما يعبأ ربكم بهؤلاء.
الدعاء الصادق هو نفير لا استعراض فيه، وعمل لا كسل فيه، وإعداد لا تقصير فيه، وقتال لا هوادة فيه، وإقدام لا استكانة فيه... وعند ذلك يأتيك وعد الله الصادق وإجابته العادلة المستحَقّة.