هوامش النهوض وواقع الحال
للعرب فضل كبير على المسلمين، فهم الذين نزل فيهم القرآن، وهم أول من فتح القول في فهمه وفهم السنة، وهم الذين انطلقوا في أصقاع الأرض يبشرون وينذرون ويعلمون، وظلوا هكذا، حتى يوم زاحمهم غير العرب في العلم والفقه والجهاد، ولكن من سنن الله تعالى أن لا يظل شيء ثابتا، والكل إلى تغيير واضمحلال، فمن لم يفقه تلك السنن، سيتخلف ويتراجع، والزمن لا يقف ولا يرحم، والفراغ لا يظل فراغا، بل لا بد من ملئه، ولهذا نرى السلاجقة والتتار والترك وغيرهم قد سدوا الفراغات التي كانت إبان دولة بني العباس وما جاء بعد ذلك من كوارث ومعارك وظهور الكفر على أهل الإيمان. والإسلام لا شك قد صهر العنصر العربي مع غيره، وصرح بعدم أفضلية أحد على أحد إلا بالتقوى، ولكن هذا لا يمنع من فضل العرب كجنس على غيرهم في الأصل، دون الدعوة للتفاضل، المهم، أن هذا الدين -مع وجود فضل العرب- إلا أنه لا يقف عندهم، بل يتجاوزهم إن هم أخلوا بشروط السنن الكونية، ومن لا يعتصم بالله تعالى، ويهجر شريعته، فلا يمكن له الاستمرار في الريادة، وإن عدتم عدنا!
ولهذا نجد بعد سقوط العباسيين على يد التتار، قام غير العرب لنصرة الدين والمنهج، فقد قام الترك العثمانيون يحفظون أمر الشريعة، والجهاد عمدة فعلهم، فهابهم العالم وخضع لهم، ويوم تخلف الأتراك وتهاونوا في أمر الدين، وتكاسلوا عن النهوض وفقه السنن سقطت دولتهم، ولم تقم للشريعة قائمة بعدهم.
وجرت بعد ذلك محاولات كلها باءت بالفشل، لإقامة دولة تحكم بالشريعة، ولكن مع هذا الفشل في ظهور هذه الدولة، إلا أن هناك محاولات باتت ناجحة بعض الشيء في العودة للدين، وفي إبراز مظاهره والدعوة إليه، ومما يحزن أن هذه التجارب الناجحة لم تخرج من جزيرة العرب، ولا من مناطق العرب بل خرجت من وراء العرب، مع أن الإسلام لا يفرق بين مسلم ومسلم، ولكن العرب أكثر من غيرهم، مدعوون للنظر في هذه التجارب الناجحة، بل والتأمل فيها ودراستها، دراسة وعي وفهم، والتأمل في وقوع هذه التجارب عندنا ونحن في قبضة العالم وبين أظفار النظام الدولي وسطوته وجبروته، ومع أننا كعرب غالبا ما نستبطن، فكرة أن العرب هم قلب الإسلام ولغته واستمراريته، لكننا في مؤخرة الركب! وإذا نظرنا إلى بعض هذه التجارب الإسلامية الناهضة؛ نكاد نتعجب مما نعانيه من عجز مستديم ومع ذلك سنظل نردد سؤالا مشروعا: إذا كانت ثمة هوامش لبعض الدول الإسلامية الأعجمية في النهوض؛ فهل يمكن أن يكون لقلب العالم الإسلامي هوامش تسمح بالنهوض؟ نحتاج إلى تأمل السؤال للإجابة عليه بعلم، مع ما نحتاجه من النظر في التجارب التالية (باختصار شديد):
التجربة الماليزية (تحرير الاقتصاد)
تعتبر التجربة الماليزية في عملية التنمية الاقتصادية واحدة من أكبر التجارب العالمية الرائدة في مجال التنمية الاقتصادية. والنقطة الأساسية التي انطلقت منها ماليزيا في عملية التنمية الاقتصادية هي سياسة الاعتماد على الذات، وتعد التجربة الماليزية من التجارب التنموية الجديرة بالاهتمام والدراسة لما حققته من إنجازات كبيرة يمكن أن تستفيد منها الدول النامية كي تنهض من التخلف الاقتصادي. ويقول جوزيف ستجليتز في هذا الصدد أنه منذ أربعين سنة خلت كانت ماليزيا من أفقر الدول في العالم، وبعد استقلالها لم تتبع توجيهات وتعليمات المؤسسات الدولية بل اختارت أن تتبع النماذج التنموية الناجحة لجيرانها الآسيويين) ((التجربة الاقتصادية الماليزية- التقويم والدروس المستفادة -د أحمد محيي الدين التلباني- منشورة في النت التجربة الاقتصادية الماليزية التقويم والدروس المستفادة (ekb.eg))، فكيف يستفيد منها العرب ولماذا لم يأخذوا بها ويطوروها بما يناسب واقعهم؟ بل لماذا لا تدرس الدراسة الجادة والنقدية لمعرفة الخلل والصواب!! وأقول حتى التيارات الإسلامية في غفلة من كل ذلك تماما!
التجربة التركية (الدعوة والتربية والسياسة)
والتجربة التركية مشاهدة موجودة، وهي قريبة جدا من العرب، وفي مماساتهم ومحاذاة حدودهم، والعرب يذهبون ويجيئون زرافات ووحدانا! فلماذا لا يتم التواصل معهم على المستوى الشعبي والحركي والرسمي!! والأتراك لهم تجربة يعتبرونها فاشلة بيننا وبينهم كما هو معلوم، ونحن العرب، لم نحاول تزيين الصورة، ولم نحاول فهم التاريخ الحقيقي، بل لم نعرف مفاتيح الفهم لتركيا وتاريخها وشعبها!!! ونحن نعلم كذلك أننا مقصرون بالتواصل معهم، وهم كذلك ينالهم التقصير الكبير في التواصل مع العرب من خلال الترجمات واللغة وغيرها، وقد أشار د. أكرم حجازي إلى كثير من المشكلات بيننا وبينهم، في بحثه المنشور على الشبكة ((تركيا .. أسئلة التاريخ والمصير)).
ولكن مع ذلك تظل تجربة فريدة في خضم هذا الواقع لم نتمكن من فهمه فضلا عن مساندته والتعاون معه في الغايات العليا! وهي تجربة ثرية غنية جدا، لأنها صارعت منذ سقوط الخلافة وإلى حد اليوم، وهي قريبة الشبه بأحوالنا، ولكنها بقيت لها هوامش مكنتها من العمل والانجاز.
التجربة الأفغانية ((قيد النظر))
وتبقى التجربة الثالثة هي تجربة الأفغان، منذ بدء تاريخهم وحروبهم، وخروج الروس ودخول الأمريكان وتعاونهم مع القاعدة، وخلافاتهم ثم انتصاراتهم اليوم، وإذلالهم لكبرى الإمبراطوريات الأرضية! وها نحن نشهد اليوم، ونرى تكالب الشرق والغرب عليها، وتزييف الحقائق والوقائع ضدها، وتجييش الجيوش حتى من العرب والمسلمين، ورأينا من بني جلدتنا كيف يزورون الحقائق، وكيف يلمزون ويغمزون بالحركة، وقيام الدولة، ومع ذلك، ومع عدم نضج التجربة، وعدم التمكن التام لها، ومن فهمها، وتردد الاستيثاق بها، إلا إنه لا مناص من التعاون والاستفادة، وهذا نداء للمسؤولين العرب، والسياسيين، والتيارات الإسلامية أن ينظروا نظرة إنصاف وتقييم وتقويم، لا للترف الفكري بل للاستفادة من هذه التجارب، والعمل والتعاون مع أصحابها، والزمن في تسارع، والخطوط تتغير، ومسارات النظام الدولي تختل، والنظام الرقمي قادم بكل ثقله، والمتضرر الكبير لا شك هو نحن، والطريق اليوم أمامنا، إما أن نجري مع هؤلاء وننصرهم ونتناصر، ويكون التعاون والتفاهم معهم، وإلا هو الطوفان القادم الخطير، والله غالب على أمره!
أخيرا، رغم هذه التجارب الثلاث التي نجحت بعض الشيء، إلا أن الواقع المرير يؤكد أن مرحلة (الجبر) التي نعيشها، في صورة النظام العالمي، ومنذ سايكس بيكو، لم تترك مجالا ولا نفسا ولا قلبا ينبض إلا والنظام العالمي يصُب على قلب العالم الإسلامي النظر والتقيد والمراقبة المستديمة صبا. وبالتالي تبدو الهوامش مستحيلة، بالنسبة للعرب، طالما أن النظام الدولي لا يمكن له أن يقوم إلا على أنقاض هذا العالم العربي وبخاصة الجزيرة والشام والعراق، وغيرها، والذي ينازعه الحق في الريادة، وفي قيادة العالم، وبالتالي سيستمر الصراع على القيادة بين نمطي حكم أو نمطي حضارة ودين، ونرى أنه بالنسبة للعالم الإسلامي فهو اليوم في مرحلة انتقالية بين أواخر حقبة الجبر وأوائل حقبة الخلافة المذكورة في الحديث المشهور، إن هذا ليس تحليلا بقدر ما هو محتوى شرعي لا فكاك منه.