في شهر سبتمبر من سنة 2020، تمر علينا 31 سنة على تأسيس أحد أهم الجمعيات الدعوية في الجزائر، وهي جمعية الإرشاد و الإصلاح التي أصبحت اليوم مجرد جمعية خيرية لا غير.
جمعية الإرشاد والإصلاح
لن أتحدث عن هذه الجمعية الفاضلة لأنها جزء فقط من حديثنا وليست حديثنا كله، تأسست هذه الجمعية كامتداد لجَماعة الموحدين أو جماعة البليدة أو جماعة الشيخ محفوظ النحناح، حيث إختار الشيخ محفوظ العمل الجمعوي رافض النضال السياسي، مقترحا دخول الإنتخابات بقوائم حرة أو دعم قوائم توافقية، بينما إختار بعض الدعاة الأحرار تأسيس حزب تحت إسم الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد الوصول لنقطة إنسداد بين التيارات الإسلامية المتنازعة فيما بينها، وفشل مشروع الشيخ سحنون لتفوز الجبهة الإسلامية بالانتخابات وتدخل الجزائر في دوامة من الدم وحرب عصابات استمرت لعُشرية كاملة لم نعرف فيها القاتل من المقتول، كان للنزاع بين مختلف التيارات الإسلامية في الجزائر السبب الأول الذي سبب القطيعة بين المسجد والعمل المنظم وبين الجيل الجديد وأجيال التأسيس، انعدمت المراجعات وفشلت المشاريع وتراجع العمل الإسلامي المنظم وفقد الشارع ثقته في المناضل الإسلامي حمساوي كان أو نهضاوي أو جبهاوي، حركة إختارت التجديد، وحركات أصرت على العمل التقليدي الذي لم يعد الشباب يستوعبه أو لنقل لم يعد مشروعها يحرك عاطفة الشباب لتبني المشروع.
ستون سنة.. ثلاثة أجيال
من عايش مختلف مراحل نضُوج الحركة الإسلامية في الجزائر أو من ترعرع داخل مؤسساتها يدرك تمام الإدراك أن الحركة مرت بثلاث مراحل أنتجت ثلاث أجيال مختلفة تتمثل هذه الأجيال في:
- الجيل الأول: جيل التأسيس أو جيل الصحوة وهو الجيل الذي عايش المرحلة الأولى للتأسيس بحلوها ومرها سواء كان جزائريا أو إقليميا أو عالميا.
- الجيل الثاني: جيل العمل الحزبي المنظم أو الذي التحق بالحركة في بداية العمل السياسي العلني.
- الجيل الثالث: جيل الوراثة وهو الجيل ما بعد القطيعة بين الجماعة والمسجد وهم أبناء المناضلين الذين تبنوا الفكرة وراثيا لا فكريا، وهذا الجيل ظهر في مرحلة الذروة، أو المرحلة الساخنة للصراع وخاصة بعد مؤتمر حمس سنة 2008.
لن أفصل في هذه النقاط فقبل أن أتحدث عنها بالتفصيل من الواجب أن أتحدث أولا عن المراحل الأولى لتأسيس العمل الإسلامي الذي أنتج جماعات تعمل لغاية واحدة بمشروع فكري متوافق، إلا أنها لم تستطع التوافق على عمل منظم موحد.
فما هي الأسباب التي أدت إلى الانشقاقات في بداية العمل؟ وإبان الفترة السرية والتي تسببت في ظهور ثلاث جماعة في مرحلة السرية (إقليمية، عالمية، جزأرة) وأربع تيارات في بداية التعددية السياسية ( جزأرة، حماس (عالمية)، نهضة ( إقليمية)، فيس ( تيار جديد) تابعونا في سلسلة من المقالات و التي أعتبرها مجرد فضفضة مجردة من العاطفة من شاب جزائري من الجيل الثالث لهذه الحركات الذي كان دائما يطرح التسائل لماذا مشروعنا واحد و جماعتنا متعددة متفرقة؟
المراحل التاريخية لتأسيس العمل الإسلامي المنظم
كثيرون ينسبون ظهور العمل الإسلامي المنظم إلى المتأثرين بفكر الإخوان المسلمين في مصر حيث أن الأغلبية من نخبنا ينسبون الفضل لجَماعة الموحدين التي ظهرت سنة 1966 وهم مجموعة من أبناء الحركة الوطنية المحافظين على القيم الإسلامية، لكن لكل تيار ظهر بعد الإستقلال امتداده التاريخي لما قبل الإستقلال، شيوعيين كانوا أو ليبيراليين كذلك هو الأمر فيما يخص الحركة الإسلامية حيث مرت الحركة الإسلامية في الجزائر تأسيسيا بفَترتين وخمسة مراحل.
الفترة الأولى هي إبان الحكم الإستعماري للجزائر التي تضمنت مرحلتين هما:
- مرحلة ما قبل ثورة التحرير.
- ومرحلة إبان ثورة التحرير.
حيث بدأت المرحلة الأولى مع تأسيس أول عمل منظم في الجزائر (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين)، جمعية كانت نتيجة لقاء شيخين مشْرقيي الهوى هما البشير الإبراهيمي وعبد الحميد بن باديس اللذين التقيا في رحلة حج جمعتهما فكان لقائهما الخطوة الأولى في طريق تأسيس مشروع إصلاحي جزائري هو رائد المشاريع الإصلاحية في الجزائر، بحيث شكل خطاب الجمعية مرجعية تاريخية للحركة الإصلاحية مستقبلا، بالإضافة لذلك كان لتأسيس الجمعية فضلا في ظهور نخب جزائرية تحمل المشروع الإسلامي، وتنظر له إبان تلك الفترة.
إن العمل الإسلامي في المرحلة الأولى للتأسيس واجه صعوبات جمة أولها الإستعمار وثانيها الجهل، مما جعل المؤسسين يعملون على بناء خطاب سيكون له دور مؤثر في الحركة الوطنية مستقبلا، في سنة 1931 نشرت جريدة الشهاب دعوة رسمية لتأسيس كيان يجمع العلماء الجزائريين بمختلف توجهاتهم العقائدية والفكرية، وقد جعل بن باديس جائزة مقدرة بألف فرنك فرنسي لمن يسعى لتحقيق هذه الدعوة، كانت هذه المرة الأولى التي تظهر فيها فكرة الجمعية للعلن، حيث كان لهذه الدعوة صدى كبير في مختلف أرجاء الوطن الجزائري وتلقت الدعوة ردود عديدة ويبدو أن احتفالات فرنسا بمرور القرن على دخولها الجزائر كان الدافع الأكبر لإظهار الجمعية للعلن كهيئة تعبر عن هوية الشعب الجزائري المسلم، وشخصية الأمازيغي الحر الممتدة في أعماق التاريخ.
تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
تأسست جمعية العلماء بنادي الترقي يوم الخامس من ماي من عام 1931، حيث اتفق الأعضاء على العمل الثقافي الفكري والديني وضمت الهيئة التأسيسية علماء من مختلف الفرق والتوجهات فضمت الأشعري والأثري وحتى الإباضي، كما أنها ضمت الطرقي كذلك، فكان الجامع بينهم هو الشعور بالإنتماء إلى هوية واحدة، بعد سنة من التأسيس اشتعلت أول أزمات الفرقة داخل الجمعية حيث تحالف الطروقيون من أجل الاستيلاء على الجمعية إلا أن بن باديس وأنصاره تصدوا لهم.
أيديولوجية جمعية العلماء و مواقفها
في مرحلة الثلاثينيات خاض المفكرون الجزائريون في إشكالية جِدالية هي هل إصلاح المحيط يصلح الأفكار أم إِصلاح الأفكار يصلح المحيط؟
وكان لزاما على الجمعية أن تختار مسارها فاختار عبد الحميد المسار الثاني حيث اعتبر أن إصلاح البنية الثقافية وتقوية دعامتها هو الحل الأمثل لتجْنيد الجزائريين ضد الاستعمار في تلك المرحلة.
طالبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بحرية تدريس اللغة العربية، ورفعت شعار فصل الدين عن الدولة، حيث آمن ابن باديس ورفاقه أن تحقيق هاتين النقطتين هو الضامن الوحيد للوجود المتميز للأمة الجزائرية.
يقول المؤرخ الفرنسي (c.r. Ageron): "إن تركيز العلماء على الهوية الإسلامية كان محاولة منْهم لمواجهة الأيديولوجيات الغربية وبالتالي إنهاء حالة الاغتراب السياسي والثقافي لمجتمعاتهم ".
أنشئ عبد الحميد عدة جرائد ومجلات منها المنتقد والشهاب وذلك من أجل نشر أفكاره الإصلاحية، فرغم أن مشروع الجمعية كان ثقافي ديني إلا أنه تضمن في أحيان كثيرة أفكار سياسية، حيث رفعت الجمعية شعار "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا" فكان المشروع الأبرز للجمعية هو الترويج لفكرة الأمة الجزائرية والدفاع عن أصالتها، وذلك عبر تطوير الوعي الوطني، فقاوم رجال الجمعية بالقلم الاستعمار وأذنابه من نخب ليبرالية إدماجية، ورفضت الجمعية فكرة انصهار المجتمع الجزائري واندماجه مع الثقافة الفرنسية.
لكن رغم هذا لم تنجح فكرة التركيز على المقاومة الفكرية حيث غابت النزعة الاستقلالية على خطاب الجمعية، فكان توجه الجمعية الحركي بعيد عن التيار الاستقلالي الذي نال شرف قيادة حرب التحرير الكبرى، وجر كل التيارات إلى الثورة وتخليلها على كل تنظيماتها وكياناتها وانصهارها داخل جبهة التحرير الوطني، إلا أنه لا يمكن أن نزدري جهود الجمعية حيث عملت على تطوير المفاهيم ونشر الوعي والدفاع عن هوية الجزائر الإسلامية والتي من خلالها آمن الجزائريين بمشروع الأمة الجزائرية ليتجسد إيمانهم في حرب التحرير ونيل الإستقلال.