يذكر شيخ الإسلام كلاما عجيبا حول قصة نبي الله وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام في القرآن قائلا (عند الحديث عن أصل القرآن أنه كلام الله حقيقة، والأدلة من القرآن على ذلك في بدايات السور)، إلى أن قال: (وأما في أثناء السور من ذلك فكثير جدا، وثنى في القرآن قصة موسى مع فرعون، لأنهما في طرفي النقيض في الحق والباطل، فإن فرعون في غاية الكفر والباطل، حيث كفر بالربوبية وبالرسالة، وموسى في غاية الحق والإيمان، من جهة أن الله كلمه تكليما، لم يجعل الله بينه وبينه واسطة من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة وكمال التكلم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت.
وهذا بخلاف أكثر الأنبياء مع الكفار، فإن الكفار أكثرهم لا يجحدون وجود الله، ولم يكن أيضا للرسل من التكليم ما لموسى؛ فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص، وأعظمها اعتبارا لأهل الإيمان ولأهل الكفر؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص على أمته عامة ليله عن بني إسرائيل، وكان يتأسى بموسى في أمور كثيرة، ولما بشر بقتل أبي جهل يوم بدر، قال: هذا فرعون هذه الأمة) - (تفسير آيات أشكلت 709-711). وقد صدق الإمام فيما قال!
فقصة موسى عليه السلام، فيها غرائب وأعاجيب، فهي تعبر عن الثقة بالله، والخوف البشري، وعناية الله بالمؤمنين، وبقوة موسى الجسدية، وكذلك سرعة غضبه، وسرعة فيئه، والاعتماد على الله وحده، وإليك التفاصيل.
1- الثقة بالله وبوعده
وهذه القضية تكاد تكون الجامعة لكل الأنبياء عليهم السلام والتابعين لهم، فمثلا أم موسى عليه السلام، عندما ألقته في اليم، كانت واثقة بوعد الله، ثم غلبها الخوف البشري، ولكن جاءها تثبيت الله تعالى:
(وأوحينا إلى أم موسى..)، وهو تصوير عجيب، وهو الوحي إلى أم موسى، وإلهامها، بما لا يعرفه البشر، ولا يحسون به، ولكنه شيء يقذفه الله تعالى في قلوب المؤمنين، ولا يمكن تفسيره تفسيرا بشريا، لأنه ليس وحيا كجبريل عليه السلام، ولا تكليما مباشرا كموسى عليه السلام.
ثم تأمل قوله تعالى في القصص، (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم)...يقف القارئ حائرا، فهذا ليس معهود البشر، لأن معهود البشر، أن الخوف مدعاة للاختفاء والتخفي والستر، والهروب من المخوف، أما أن يكون الخائف يلقي بمن يخاف عليه في اليم، وقد يغرق وقد تأكله هوام البحر، أو يكون تحت يد من يخافه المرء فهذا غريب وعجيب!
ثم جاءتها البشارة كما هو معروف.
إننا أمام حدث ضخم جدا، لو تدبره المسلم، بل لو تدبره كل انسان، طفل رضيع، يحتاج إلى عناية ورضاع وتغيير وتبديل، وستر من البرد والحر، وتنظيف وحنان ورعاية، يقذف في البحر بعيدا عن أمه! يا للهول! ولكن هل هناك أكثر حنانا من رعاية ربه سبحانه وتوليه وليصنع على عين الله!
ثم رأينا الثقة بالله تعالى يقولها موسى عليه السلام، عندما تبعهم فرعون وجنوده، وصرخ بنو إسرائيل (إنا لمدركون)، وهذا فارق قوي بين من يعتمد على ربه وحده، وبين من يعتمد على الأسباب وحدها، فمع اتخاذ موسى ع كل الأسباب، ومع أمر الله تعالى له بالذهاب إلى البحر، ولكن لم يعلمه ماذا سيكون، ولكن ثقته بالله دفعته إلى الاستجابة لربه، ثم التفت إلى البحر ليعيده كما كان، وهذا تصرف بشري بحت، فكان ما كان!
2- الخوف الطبيعي البشري
وهذه ملحوظة وجدتها أكثر عند موسى عليه السلام، مع قوته الجسدية، إلا أنه ذكر الخوف عنده عليه السلام في عدة مواضع:
- (وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب، يا موسى لا تخف)، في موضع تكليم الله تعالى له.
- (فخرج منها خائفا يترقب)، في موضع الخوف من فرعون ملئه.
- (فأوجس في نفسه خيفة موسى) في موضع المواجهة مع السحرة.
وهذا خوف طبيعي بشري، ولا يعد نقصا لهذا النبي عليه السلام، فالمواضع الثلاثة، تخيف، وليست بمواضع واقع اعتيادي، بل أقول أن الموضع الأول كله رهبة وخوف واستحضار عظمة الرب تعالى، فهذا منه والله تعالى أعلم.
وهذا يدلنا على أن الانسان قد يجبن في موضع، ويكون شجاعا في آخر، وقد يضعف، وقد يخاف، فالإنسان-وحتى الأنبياء ليسوا معصومين في مثل هذه المواضع- فهذا ليس مرضا أو "فوبيا" على ما يسمى، بل هو شيء ملازم للإنسان، مادام في حدود المعقول.
3-الاتكال على الله وحده
وهي قضية مفصلية في حياة المؤمن والداعي بخاصة، فالاتكال على وحده دون سواه، مع العمل بالأسباب، هي قضية محورية في الحياة، فهذه أم موسى، وقد ذكرنا جانبا عنها، وهذا نبي الله موسى عليه السلام، يتصرف بوضوح التوكل عليه سبحانه، انظر عندما خرج هاربا من فرعون وجنوده، قال:
(فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ - وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، الخوف والترقب، فالخوف جعله يترقب، وهو ما يأخذه الخائف من أسباب، يترقب ويرصد ويتوجس، ولكن مع ذلك لم ينس دعاء الله تعالى له بالنجاة.
وكانت هذه مصاحبة له طوال حياته فالآية الثانية تخبر أنه طلب من ربه هداية الطريق، وقد كان، وهذه الآية تحديدا لي معها تجربة، فقد ضللت طريقا خارج البلاد، ويعلم الله عندما تلوتها وبصورة لا أعرف لها تعليلا، دللت الطريق دون سبب!
4-الحوار وتبيان الرسالة بوضوح تام
وهذه نقطة مهمة جدا لدعاة اليوم وعلمائها ومفكريه، أن يدعو لهذا الدين دون لجلجة، ولا تلعثم بل بكل وضوح وقوة وثقة بما عندهم من حق، وما عند غيرهم من باطل، فلنتابع شيئا من الحوار بين طاغية الدنيا وكليم الله تعالى، عليه السلام.
وأقول تأمل في هذا الحوار القرآني العظيم، وتتبع أسلوبه وكلماته، فيغنيك عن كثير من الكلام:
- (قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ
- فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
- قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
- وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
- قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ
- فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ
- وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
- قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
- قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ
- قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ
- قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ
- قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
- قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
- قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
- قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ) القوة والثبات والدعوة بثقة.
- وإلى لقاء قريب نتناول فيه شيئا من هذه الأساليب القرآنية.