لقد جاء هذا العنوان في أحد فصول مقدمة ابن خلدون وكثرت استخداماته وتأويلاته، وهو ما جعلني أطرح تساؤلات حول سياقه الأصلي في المتن الخلدوني وما علاقة هذا الفصل بالفصل المعنون بـ: "كيفية طروق الخلل إلى الدول" والبحث عن الرابط المشترك بينهما إن وجد ولأجل هذا فقد استعنت بأحد بحوث مركز نماء للبحوث والدراسات والذي يحمل نفس العنوان والمُوقّع باسم الدكتور محمد صفار.
وهاته الورقة البحثية وضعت قدمي على بداية طريق الإجابة عن تساؤلاتي وقد كانت البداية من "الحكمة الدائرية " والآتية في البحث على نمط نموذج تحليل النظم لعالم السياسة الأمريكي "ديفيد إيستون".
فما هي هذه الحكمة الدائرية يا ترى؟
يرى الباحث أن عز الملك بالشريعة وقوام الشريعة بالملك، ويعني ذلك أن السلطة تبلغ المكانة العليا بفرض القانون والنظام على محكوميها، ومن جهتها القوانين لا تتحقق في الواقع دون سلطة مسيطرة تفرضها على الناس فرضا، وهذا هو المركب الأول أو بداية الدائرة ليتحرك بذلك النموذج حسب وصف ابن خلدون المنقول عن المسعودي كالآتي:
"لا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيّما وهو المَلك" -أي القائم بالملك أو السلطة-.
ومن النص السابق نجد أن ابن خلدون قد أرجع كل عنصر إلى سابقه مما يوحي لنا بأن الحركة تسير في اتجاه واحد والحقيقة أن العلاقة بين العناصر تسير في اتجاهين بواسطة عمليتين أساسيتين:
- الأولى وهي "التحويل" تقوم بها السلطة حينما تترجم تأييد ومطالب الرجال إلى سياسات تؤثر في العمران.
- والثانية هي "التغذية المرتدة" - وتتم في الاتجاه المعاكس - حينما تتحول الأرباح الناجمة عن الأنشطة الاقتصادية إلى الأموال اللازمة لتجنيد الرجال.
فمن هنا يمكن أن نقول أن فصل "الظلم مؤذن بخراب العمران" ينصب في الجانب المتعلق بالمخرجات في هذه الدائرة في حين أن فصل "طروق الخلل إلى الدولة" متعلق في الأساس بالمدخلات وبهذا يكمل الفصلان بعضهما كجزئين مترابطين في التحليل الخلدوني لنموذج نظام الحكم، غير أنهما يجسدان الحالة السلبية في النموذج التي يصيب فيها الخلل كافة عناصره بما يقود إلى الانقسام أو السقوط والتلاشي لنظام الحكم حسب ابن خلدون. إذ أن اختياره لهذين العنوانين بالضبط من حيث تركيبة الكلمات المستعملة لم يأت اعتباطيا حيث تركيبة العنوان جاءت مبنية على ثلاثة مفاهيم أساسية وهي: الظلم والإيذان والعمران، فلما وقع اختيار ابن خلدون عليها في الأساس؟
الظلم والإيذان والعمران.. تفكيك شيفرة العنوان
جاءت هذه الكلمات الثلاثة كمركب تحليلي غاية في الدقة، فمصطلح العمران يشير إلى تلك المهمة الوجودية التي أوكلها الله للإنسان في هذا الكون وتتعلق بالحفاظ على كافة أشكال الحياة الإنسانية وغير الإنسانية في جوانبها المادية والمعنوية.
فيأتي شاملا لذلك التقسيم الشائع لمستويات الحياة بين ضروري وحاجي وتحسيني، وقد استفاد ابن خلدون من هذا التقسيم حينما جعل أسبقية حياة البدو على الحضر زمنيا وحتمية ترقي الاجتماع الإنساني من البداوة إلى الحضارة تقومان عليه.
ومنه فإن خراب العمران لهو دخول عنصر ما على مادة العمران بما يؤدي إلى اختلاله وفساده ومن ثمة الهبوط بدلا من الارتقاء في مستويات الحياة المذكورة وما ينجم عن ذلك من دمار للحياة وفنائها.
أما المصطلح الثاني فهو الظلم وهو عكس العدل، والذي تتضح أهميته في تراث الفلسفة الكلاسيكية كمقصد رئيسي، فنجد أن أفلاطون أسس نظاما للحكم على قيمة العدل باعتبارها فضيلة الفضائل أو القيمة الحاكمة لكافة القيم الأخرى؛ ولا تتوقف في كونها فضيلة أخلاقية وفقط وإنما قضية سياسية بامتياز، وليس ذلك لأن أفلاطون جعل منه قاعدة للحكم وحسب بل لأنه أيضا يتطابق مع تعريفها الحديث عند ديفيد إيستون باعتبارها التخصيص السلطوي للقيم أي توزيع الموارد والفوائد من قبل السلطة.
وفي تصوره عن الظلم والعدل يرى ابن خلدون أن الظلم لا يقتصر فقط على الاعتداء على المال وأخذه من يد صاحبه دون مبرر أو تعويض كما هو شائع بين الناس بل يؤكد على أنه أشمل من ذلك ليشمل الاستيلاء على الأموال والممتلكات، وأعمال السخرة ومنع الحقوق المقررة شرعا والإتاوات.
ومن هنا فإن المركب الخلدوني البائن في العنوان يشير لوجود علاقة بين خراب العمران والظلم وتتضح هذه العلاقة عند تحديد دلالة كلمة مؤذن الواردة في العنوان والتي تأتي بمعنى أن الظلم "يسمح" أو "يُعلم" أو "يُسمع" بخراب العمران وتدل على علاقة السببية بين الظلم وخراب العمران فالظلم لا ينتج خراب العمران مباشرة وإنما يسمح به.
تحليل العلاقات التي يرتكز عليها المركب الخلدوني
- ونبدأ في تحليلنا بالعلاقة الأولى التي يطلق عليها اسم المتوالية النفسية الاقتصادية للظلم وتتوضح في أن العدوان على الأموال يؤدي إلى ذهاب الآمال في الاكتساب وهو ما يؤدي إلى انقباض الأيدي عن السعي للكسب، وقد أورد ابن الخلدون المال في مثاله لعلمه بأنه شكل مشهور من الظلم بين الناس.
حيث يأتي العامل النفسي الفردي كوسيط بين العمل السياسي المتمثل في عدوان السلطة على الأموال والفعل الاقتصادي المتمثل في التقلص التدريجي للسعي في طلب المال من الأفراد، وهي علاقة طردية ينقص فيها السعي بزيادة العدوان والعكس.
- أما العلاقة الثانية: فتسمى القانون الاقتصادي للعمران ويلخص ابن خلدون هذه العلاقة في "العمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح ذاهبين وجائين"، إذن يتحدث ابن خلدون فعلا عن علاقة طردية بين متغييرين هما العمل والسعي للمصالح والكسب والذي يؤدي إلى رواج وانتعاش العمران والعكس المتمثل في القعود عن المعاش وانقباض الأيدي عن السعي وما ينجر عنه من كساد للعمران وركوده.
- في حين أن العلاقة الثالثة وهي عبارة عن التفاعل المتسلسل الناتج عن تحقق المتتالية النفسية الاقتصادية للظلم في الواقع ومن ثمة تفعليها للوجه السلبي لقانون الاقتصاد للعمران والذي يبدأ بالعدوان على الأموال وما يليه من ذهاب للآمال في الكسب وما ينتج عنه من انقباض الأيدي عن السعي ومنه كساد العمران وما ينجر عنه من اضطراب للأحوال واختلالها وهو ما يقود إلى فرار الناس من البلاد ومنه خلو الديار وما يجلب معه من اختلال لحال الدولة والسلطان.
- وهنا تأتي العلاقة الرابعة - التي نجد فيها تشابها بين فكر ابن خلدون وما جاء به أرسطو في كتاب السياسة- وملخص هذه العلاقة أن الدولة صورة للعمران تفسد بفساد مادتها بالضرورة، والمقصود بالعمران هنا عند ابن خلدون هو الاجتماع البشري فهو المادة التي تحمل صورة الدولة وفساده يعني زوال صورتها.
وهنا يمكننا ملاحظة المكانة التي يعطيها ابن خلدون للمجال السياسي في تحليله فالبدء بالسياسة بفعل الظلم الذي هو نقيض العدل وهو أمر سياسي بامتياز ويرتد الأمر إليها بانهيار الدولة التي هي التنظيم السياسي للمجتمع.
أهمية العامل النفسي في المركب الخلدوني
حيث نلاحظ تغطية الأثر النفسي لكامل مراحل المركب الخلدوني بداية بكونه الدافع وراء الظلم متجليا في اللذة الناجمة عن سداد نفقات الترف التي لا تستطيع العوائد المعتادة للدولة تغطيتها وبالتالي تجعل الترف نمطا دائما للحياة، مرورا بناتج ذلك الظلم من ذهاب للإحساس بالأمل في المكسب والذي من خلاله يتم توزيع تأثير الظلم على كافة أفراد المجتمع، وبذلك يتحقق الوجه السلبي للقانون الاقتصادي للعمران على المستوى الجمعي ليبدأ بذلك التفاعل المتسلسل الذي ينتهي باختلال الدولة.
هكذا وصلت للإجابة على تساؤلي:
بدأت هذا المقال بتساؤل حول فصلين من مقدمة ابن خلدون كثر الحديث حولهما وتوسعت أطرافه حتى أُخرجا عن سياقهما وهو ما حاولت توضيحه من خلال الفقرات السابقة من المقال وبقي لي الإجابة عن تساؤلي الأخير عن الرابط المشترك بينهما؟
استنادا للحكمة الدائرية التي نقلها ابن خلدون عن المسعودي والتي قام الباحث محمد صفار بوضعها في إطار نموذج تحليل النظم لايستون يمكن القول أن فصل "الظلم مؤذن بخراب العمران" يتحدث عن المخرجات لنظم الحكم في حين يتناول فصل "كيفية طروق الخلل للدولة" جانب المدخلات ولذلك يكمل الفصلان بعضهما في بيانهما لعملية انهيار الدولة عند ابن خلدون.
فالعدل يفضي إلى العمارة التي تنتج المال الذي يُدفع للرجال والذين يمثلون أحد أساسي مبنى الملك:
فالأول هو الشوكة والعصبية -الجند-:
ويتسلل الخلل إليهم بالقهر الناتج عن تغير صاحب الملك عليهم والترف الذي يضعف نفوسهم وقواهم وهو ما يؤدي إلى فساد هذه العصبية الجامعة الحاملة للدولة وانحلال عراها وبالتالي هلاكها.
وذلك بأن يصنع صاحب السلطان عصبية موالية له إذا ما أحس تهديدا لملكه ممن حوله، ومن هنا يبدأ الانقسام بداية بتلك العصبيات الصغيرة التي استضعفتها العصبية الطبيعية الجامعة وأصبحت ترى ضعف الشوكة الحامية للدولة فتتجرأ عليها وهو ما يجر وراءه سلسلة من الانقسامات الداخلية التي تتكتل على الأطراف ليَضعُف بوجودها كيان الدولة الأساسية وتنقسم بذلك إلى دويلات ما تلبث أن تتلاشى أو تجتمع تحت راية واحدة بقيام الدولة الجديدة.
أما الثاني فهو المال -قوام الجند-:
فباتساع الرقعة الجغرافية للدولة وزيادة العمران تزداد أعطيات الجند ورواتب أهل الدولة فضلا عن ترسخ عادات الإسراف في النفقات والترف لدى المحكومين وذلك أن الناس على دين ملوكهم ولأجل حاجة السلطان لتغطية كل تلك النفقات تستطيل الدولة في جمع المال من الرعية من أي وجه كان. وكون الترف يترافق مع ضعف العصبة الحاكمة وازدياد الاعتماد على الجند من أصحاب الرواتب يتجاسر هؤلاء على الدولة بسبب ضعفها فتلجأ الدولة مدارة لهم إلى اتباع سياسة العطايا وكثرة الإنفاق عليهم وتصل إلى حد رشوتهم وهنا يصبح المال هو المشكلة والحل في آن واحد وتَعظُم الحاجة إليه حيث صار العصب الحقيقي للحكم لتبدأ مصادرة أموال الجباة أنفسهم وأصحاب الثروات من الرعية وهنا يقدم لنا ابن خلدون نفس السيناريوهين السابقين وهو ما يعني أن "المال والرجال" يتحركان في مسار نفس النموذج، إذ بنزول الهرم بالدولة وانحلال عراها يتقدم طالب جديد للسلطة فينتزعها من أيدي القائمين بالدولة وإلا بقيت الدولة وهي تتلاشى وتضمحل.
وخلاصة ذلك أن ابن خلدون يقدم في هذا الفصل تفسيرا سوسيولوجيا تاريخيا للقاعدة التكوينية التي وردت في فصل "خراب العمران" في أن الدولة صورة والعمران مادتها مستدلا بالعلاقة بين المادة والصورة على المستوى التجريدي فإن فصل "طروق الخلل إلى الدولة" يفصل ويشرح على المستوى العياني وقد تجسدت على هيئة تكوينات اجتماعية وكيف يؤدي فساد العمران إلى فساد الملك بمكونين أساسيين "الرجال والمال".