لم يعد خافيا على أي عقل محترم أن الأمة اليوم تخوض غمار مخاض صعب، و لعله ليس أصعب في المخاض من الساعات التي يوشك فيها المولود أن يرى نور الحياة .. ذلك أن حياته وحياة أمه تكونان جميعا على المحك.. وفي تلك اللحظات الفارقات.. يحتاج الجنين منأمه كل ما لديها من طاقة ومن جهد ووسع.. أليس حين تفقد الأم حياتها في المخاض تعتبر عند الله شهيدة.

كم عانت الأمة من الاجهاض، وكم لاقت من الركل، وكم قاست من صروف الدهر، حالت دون ان تقر عينها بمولودها المنتظر، ولعل الأم أشد حذرا ما تكون وهي في شهورها الأخيرة، سيما وقد جربت من الاجهاض مرائر و مصاعب شتى.

في هذه الكلمات، نحن نسعى إلى تذكير ببعض البديهيات التي ينبغي على الخلايا الحية في الأمة استصحابها حتى تكتحل الأعين بمولود جديد يبعث حياة جديدة لأمة اعتقد الكثيرون أنها آيس، وجزم الكثيرون بأنها فوق ذلك عقيم، وراهن الكثيرون على أنها تلفظ انفاسها الأخيرة.

ما نسعى لتسليط مزيد من الضوء عليه هو تلك الطاقة الفاعلة التي يحتاجها أي جنين من أمه، وهو يسعى نحو نور الحياة، إنها طاقة الوعي، نعم هي الطاقة التي نعتقد أنها الوحيدة الضامنة لجنين النهضة المنشودة فلا نهضة دون وعي.

صحيح أن الكلام عن الوعي قد انتشر بشكل كبير، حتى أصبح في كثير من المواضع مبتذلا، وفقد الكثير من قداسته وأهميته، ومع ذلك لا بأس أن نعيد له شيئا منالأهمية وذلك حين نعي جيدا ما الوعي. يتساءل الدكتور مسفر القحطاني، في كتابه الوعي الحضاري، عن مفهوم الوعي الاصطلاحي بعدما قرر أنه لا أحد ينكر أو لنقل يجهل ما الوعي في مجاله الاستعمالي، فالجميع يعتقد أنه واع والجميع يجمع على ضرورة الوعي، والجميع يختصر حل أي أزمة في الوعي..

لكن لا تزال الاجابة عن السؤال: ما الوعي؟ تفتقد الى إجابة حقيقية!

لم يعجز عوام الناس وحدهم عن الاجابة عن هذا السؤال، بل جاوزهم العجز فطال المفكرين والعلماء والفلاسفة وحتى علماء النفس والأعصاب والإدراك، وكمثال على ذلك يقول الكاتب (دانيال دينيت) إن الوعي الإنساني هو تقريبا اللغز الأخير المتبقي.

و لأننا لا نريد أن نطيل في الكلام عن الوعي كمصطلح يحتاج الى مزيد من التفكيك، فإن أهمته البالغة عندنا تكمن في شقه العملي، كما أن الحقل الدلالي لمفهوم الوعي يتسع ليشمل قطاعات شاسعة ليس في وسعنا الاحاطة بها.

لا بد من مزيد من الوعي يحدد بدقةٍ استراتيجية العمل العامّة، ويحدد لكل عامل موقعه بدقة أكثر من مجرد التواجد في النفير العام.

بيد أن ما نسعى لترسيخه هنا هو نوع خاص من الوعي، إنه وعي الخلايا الحية في الأمة بوعيها. هل الوعي بالوعي هو مجرد سبك لفظي لا دلالة جديدة فيه أم هو مفهوم يتضمن الكثير من الأهمية؟ الوعي بالوعي يتجاوز الوعي الإجمالي ليصل إلى عمق الوعي الخاص،فالوعي العام بضرورة العمل للنهضة درجة من الوعي،ومع ذلك فإن الوعي بالموقع المحدد للعمل، والوعي بخطورة التخصص درجة أكثر أهمية. كثيرة هي المعارك التي تخوضها الأمة في غير ما ينبغي أن تخاض، فتبذل جهدا ووقتا ومالا وربما أنفسا عزيزة لكن في غير محلها تماما، فبدل أن تحفظ الأمة مكتسباتها فتبذلها في الاتجاه الصحيح، تذهب مقدراتها نتيجة غياب الوعي العام أدراج الرياح. كما أن استحضار الفلسفة العامة التي بني عليها وجود هذه الأمة في كل وقت وحين، يعتبر الشبكية التي تنطبع عليها كل صور الواقع، فتتعامل مع القضايا بحجمها الحقيقي لا أكثر ولا أقل.

لكن مع هذه الأمواج الجارفة من المعلومات والمعارف بكل ما فيها من سيولة، وقع إرباك حقيقي للوعي، ليس على مستوى آحاد الأمة فحسب، بل حتى على مستوى صناع الرأي فيها.

يقول الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه تجديد الوعي والحقيقة أن كثافة المنتجات الثقافية، وسرعة التغيرات الاجتماعية، قد جعلت الوعي قاصرا عن ملاحقتها واستيعابها وبالتالي ترميزها، وإرسال الاشارات الملائمة للتعامل معها.

ونحن لا نتحدث عن وعي الأفراد إذ من الطبيعي والمألوف أن يظل من الناس من هو عاجز عن ذلك، ولكننا نتحدث عن الوعي المجتمعي الذي يشكل حصيلة وعي الأفراد والمؤسسات الاجتماعية المختلفة.

وكثيرا ما يظهر هذا الوعي أنه لا يملك من الحساسية ما يكفي لإدراك المتغيرات المتسارعة، وتأسيس الاستجابة الملائمة لها، ولاسيما في الأزمات، حيث يرتبك مثقفو الأمة في تشخيص الأزمة، كما يختلفون إختلافا واسعا في أسلوب مواجهتها.

ولهذا نرى أن الوعي العام الذي حول الإنسان من مجرد مستهلك مادي إلى إنسان حقيقي، ينتمي لأمة لها قيمة مضافة تحتاجها البشرية لم يعد كافيا بعد أن كان في فترة ما كافيا. بل لا بد من مزيد من الوعي يحدد بدقة استراتيجية العمل العامة،ويحدد لكل عامل موقعه بدقة أكثر من مجرد التواجد في النفير العام. فإن أكثر ما يمكن أن يقدمه أي عامل من فاعلية وهو واع تماما بموقعه في الجلبة العامة،وواع بمدى قدرته على تحقيق الهدف المرجو منه، وواع تماما بخطورة ما يترتب عن تضييع أي جزء من مقدراته في غير ما ينبغي أن توجه إليه.

هكذا فقط ننتقل من الموت الى الحياة، ومن الحياة الى التحرك، ومن التحرك الى التقدم، ومن التقدم الى صنع نهضة شاملة وحضارة واعدة.