في ظلّ المشهد العربي الذي أضحت كلّ خيوطه الناظمة إمّا حروب أهلية وتوترات طائفية، أو تآمر قوى الاستبداد في الداخل والخارج لإفشال أي فرصة لبزوغ الديمقراطيّة التي بات الحديث عنها وعن حقوق الإنسان والتعددية والحريات العامة أشبه ما يكون ببكاءٍ على أطلال. وعلى ما في البكاء على الأطلال من جاذبية، وما لمقولات الظروف غير الموائمة والمؤامرات من سطوة كلامية بيننا كعرب، تظهر قراءة المشهد الراهن انطلاقًا منها العديد من الغيابات وأوجه القصور التي تستحق النقاش.
ذلك لأننا حين نبكي على الأطلال وننتهي بعد اهتمامنا خلال الأعوام الماضية بإمكانات التحول نحو الديمقراطية إلى تقرير إخفاق عربي عام على جميع المستويات، عادة ما نكتفي بإلقاء كامل اللّوم على نُظم الحكم القائمة لتَعنُّتها السُّلطوي، وكذلك على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كقوّتين خارجيّتين مؤثرتين في بلاد العرب لعدم التزامهما الفعلي بدعم الديمقراطية.
ولقد أظهر مؤشّر الديمقراطية الذي أصدرته مجلّة إيكونوميست البريطانية، والذي اعتمدت فيه على خمسة مؤشرات للقياس تمثلت في: التعدديّة الحزبيّة والانتخابات، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، ثقافة الديمقراطيّة، الحرّيّات المدنيّة. تراجع رهيب للعديد من الدّول، حيث تصدرت القائمة النرويج للعام السّابع على التوالي تلتها أيسلندا، فالسويد، ثمّ نيوزيلندا، في حين توزّعت الدول العربية بين الأنظمة المختلطة والأنظمة الاستبدادية، حيث جاءت تونس أولاً عربيًّا وفي المركز 69 عالميًا، واحتلت المغرب المرتبة الثانية عربيا والـ 101 دوليًّا، فيما جاءت لبنان في المركز الثالث عربيًّا والـ 104 دوليًّا، تلتها فلسطين في المرتبة الرابعة عربيًّا والـ 108 دوليًّا، والعراق بالمرتبة 5 عربيًّا و 112 عالميًّا، وجاءت الأردن في المرتبة السادسة عربيًّا و117 عالميًّا، في حين حلت كل من الكويت والجزائر على التوالي في المرتبتين 119 والـ 128 عالميًا، أمّا المركز العاشر فكان من نصيب دولة قطر والـ 133 عالميًا.
أما مثلاً في النرويج، فتقوم فكرة الديمقراطية المحليّة على حق الأغلبية في أن تحكم دون تخوين أو إتهامات، لكن فى نفس الوقت تفرض ضمان حقوق الأقلية بشكل دستوري وقانوني وشعبي يصعب التلاعب فيه على المستوى الحكومي والبرلماني، فعلى الأغلبية مراعاة آراء الأقلية عند تشكيلهم للسياسة العامة ليحظى السكان ببعض الحقوق والحريات، لذا فحكومات التحالفات دائمًا تمثّل سبيل الحُكم بالنّسبة لهُم وغير مقبول عرفًا أن يستمرّ حزب في الحكم أكثر من 8 سنوات.
كما تعزز المشاركة الشعبية في صنع القرار، وتمنح المواطنين حكما ذاتيا أوسع من وجود الحكومة المركزية الوحيدة، حيثُ ينتخب النرويجيّون مجالس البلديّة ومجلس المحافظة والأحزاب السياسية في البرلمان. وتشكل الحكومات المحلية رقيبًا على الحكومة المركزية، بحيث لا تنفرد في القرارات، وتعتبر عامل ضغط عليها، وهو مبدأ يتشابه مع مبدأ فصل السلطات الثلاث حتى لا تطغى واحدة على الأخرى.
وحسب الدستور النرويجي، فإن هناك صلاحيات واسعة للبلديات في مجالات: المدارس الأساسية والثانوية ورياض الأطفال، والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية بكبار السن والمعاقين، والتخطيط المحلي، وإدارة الشؤون المتعلقة بقطاعات الزراعة والبيئة والبنية التحتية، أما الحكومة المركزية فتختص في السياسة الخارجية للبلاد والتعليم العالي وأمور الجيش والشرطة. في حين المقاطعات التي يديرها محافظ يعينه الملك فتختص في شؤون التنمية الإقليمية والتراث والأمور البيئية.
ومن أجل ممارسة سليمة للمهام السياسيّة شكّلت الدّولة جهازين: جهاز مدني يختص بالمظالم المدنية وآخر يختص بالمظالم العسكرية كل منهما يحقق فيما يصل إليه من مسائل، ويتوجّب على كل مؤسسات الدولة تقديم الدّعم اللاّزم لتحقيق العدل من خلال ما تملكه من وثائق ومستندات، وفي ظل هذا لا ينشغل النواب بغير مهامهم الحقيقية من تشريع ورقابة ومناقشة للموازنة العامة للدولة. كما أنّ دور الجيش يقر في البرلمان مع الحكومة وهو بالكامل تحت السيطرة من كليهما.
والغريب أن تجد بلدًا غير عربي مثل النرويج لا يمنع قيام أي حزب على مرجعية دينية، بل من الممكن قيام حزب على مرجعيّة إسلامية 5 مثلاً، فيطالب بتطبيق الشريعة في النرويج ما دام ذلك بشكل سياسي وفي إطار القانون! في حين نجد في نصوص دساتير بعض الدّول العربيّة الإسلاميّة (الجزائر مثلا) ما يمنع ذلك.
من أهم مقوّمات النجاح السياسي للنّرويج -والذي يعد الأكثر استقرارًا في العالم وحتى بالقياس إلى ديمقراطيات أوروبية أخرى- هو نجاحُها الإقتصادي الذي تفخر به، والذي ساعد شعبها على توسيع اهتماماته في مجالات البحث العلمي والحفاظ على سلامة البيئة وحماية الحياة فيها، زيادة على ما تُوليه الدولة من اهتمام بمسائل الصحة والتعليم والثقافة، ممّا يضعه على الطريق الصحيح ليخطو خطوات متسارعة نحو المزيد من الإنجازات الحضاريّة، وأيضًا أكسبها المصداقية والثقة في نظرة الآخرين وفي تعاملاتهم معها.
وفي ظلّ كلّ هذا لايزال العالم العربي يلتمس طريقه نحو لحظة التفاعل مع قيم الحريّة والتقدم بسبب غياب الإطار الديمقراطي الذي يدله على الطريق السليم للتنمية والترقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وعلينا أن نعترف أنّ إلقاء اللوم على الغرب في إخفاق التحولات الديمقراطية في بلدان العرب، زد على ذلك التذكير المستمر بإزدواجية معاييره وعدم استعداده لتحمل كلفة الديموقراطية، ما هي إلاّ قراءة بالغة السطحية للأزمة العربيّة، وانسداد للأفق وجمود الرؤية المستقبلية... لأنّنا في الحقيقة مازلنا لم نصل إلى جوهر المشكلة، نكتفي بوصف الأعراض دون تسمية الدّاء.
إنّ الحديث عن التحول الديمقراطي والديمقراطية -التي تعتبر منهجًا لإدارة الاختلاف بطرق سلميّة فتسمح بالتنوع والتعددية والرأي والرأي الآخر وتداول على السلطة في إطار من حكم القانون والمشاركة الشعبية- في بلاد العرب في ظل هيمنة ثقافة العنف الإقصائية والغياب الكامل لقيمة الفرد أشبه بفقاعات هواء لا محتوى لها، لا إدارة للاختلاف، وغياب تام لقناعة السّلطة وقوى المعارضة بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينهما على نحو يضمن مصالح الطرفين ويصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل مبادئ التداول السلمي على السلطة والمساءلة والمحاسبة من خلال إطار النظام القضائي المستقل. إنّنا ببساطة نسعى دائمًا لاحتكار السياسة وإلغاء الآخر والصّراع من أجل الاستحواذ على السلطة والحكم عنوة ودون تفريط، وبالتالي نتسبب في وأد التجارب والمشاريع التي تروم الاستنهاض وتجترح قيم الديمقراطية والحريات السياسية وحقوق الإنسان والمجتمع ومؤسسات الدولة العامة.
فعلى مستوى الإنتخابات مثلاً والتي تعتبر أداة من أدوات ترسيخ الديمقراطيّة كقيمة قبل أن تكون مجرّد ممارسة، تشهدُ الكثير من الدول العربيّة مخالفات كبيرة تمنعها من أن تكون حرة ونزيهة، كما أنّ الضغط الحكومي على أحزاب المعارضة والمرشحين بات شائعًا، والفساد يميل إلى أن يكون واسع الإنتشار، وسيادة القانون ضعيفة. ومثل هذه الممارسات لا تُنتج سوى عسكرة شاملة للمجتمع وللسياسة، يتضخم فيها المكون الأمني حتى يطغى على بقية مكونات السلطة التنفيذية ويلغي استقلالية السلطات التشريعية والقضائية وينفرد بالفعل السياسي ممّا يجعل المجتمع المدني خاضعًا إما للاستتباع أو للحصار.
إنّنا إن نظرنا إلى الدّول المنهارة كسوريا واليمن مثلاً، والدّول المغيّبة كفلسطين، زد على ذلك الشتات العراقي واللبناني… نلحظُ أنّ ما يجري فيها يقود إلى إحتمالين إثنين: إمّا إلى إجهاز تام عليها أو البحث عن بداية تأسيس جديدة. دون أن ننسى التّعنت السلطوي على مصر في ظل تداعيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة على المواطن الذي جعله يعزف بطريقة ما عن المشاركة في الشأن العام. أما في الجزائر فقد صارت مظاهر الفساد تمثل مُعطى يومي يجري التعامل معه كأنه قدر محتوم يجب تسييره، واستمرار قناعة عجز الدولة عن إيجاد حل فيما يشبه إعلان ضمني عن إشهار إفلاس لنظامٍ يبحث أكثر عن مساعدات خارجية لإسعافه وإعادته إلى المسار الذي سلكته الدول الحديثة.
والحقيقة التي نغفلُ عنها أنّ الديمقراطية لا تكتفي بذاتها وإنما تحتاج إلى قدرات فعّالة في وجدان الأمة والمجتمع وإلى قوى إيجابية تعزز الطريق السليم لزيادة التنمية والتقدّم.
ومن هنا فالإخفاق الديمقراطي يرتبط في جوهره بتراجع مؤشرات الوضع الإجتماعي والإقتصادي للدّول.