كان السبب الرئيسي الذي دفعني إلى فراق أسرتي والتغرب عن بلادي هو التحصيل العلمي واستكمال مسيرتي الدراسية. لذا فإنني بدأت فور وصولي إلى أمريكا في التعرف على الجامعات والمؤسسات الأكاديمية المختلفة وشرعت في التواصل معها. كان من ضمن شروط القبول لبرنامج الماجستير الذي اخترته، أن أدرس بعض كورسات الاقتصاد (حيث أنني درست الهندسة في جامعة الخرطوم، لكنني آثرت أن أتخصص في مجال التمويل في مرحلة الماجستير، وبما أن خبرتي في الاقتصاد كانت أقرب إلى الصفر، فقد طُلب مني أخذ كورسات تحضيرية في الاقتصاد كـ prerequisites ليتم قبولي في برنامج الماجستير). نصحني منسق برنامج الدراسات العليا ألا أفكر في أخذ هذه الكورسات في الجامعة لتكلفتها العالية، ووجهني لإمكانية أخذ نفس الكورسات في أيٍّ من كليات المجتمع (Comunity College) بربع القيمة أو أقل.
بالفعل قمت بالتسجيل في الـ Comunity college وقضيت فيها فصلين دراسيين، وأذكر أنه تم إعفائي من رسوم الدراسة تماما. ثم عملت كـ Tutor في الـ (high school, community college, undergrad, and post grad) وهو ما منحني فرصة التعرف على المؤسسة الأكاديمية بمستوياتها المتباينة، من خلال عدسات مختلفة. ملخص القناعة التي خرجت بها أن المؤسسة الأكاديمية هي من أعظم مؤسسات الدولة الأمريكية، وأكثرها حيوية وأنشطها مساهمة في صناعة المارد الأمريكي. لذلك فإنني لا أبالغ حين أدعي أن الأبيات التي استهللت بها هذه الحلقة تجسد الواقع الأمريكي بصورة دقيقة.
بصورة عامّة، لا تعتبر أمريكا رائدة في التعليم تحت الجامعي، حيث أن كثيرا من الدول تتفوق عليها في مستويات الرياضيات والعلوم وحتى الحاسوب؛ وهذه الحقيقة تزعج المثقفين الأمريكيين كثيرا و تدفعهم إلى انتقاد صناع القرار والسياسيين. لكن الوضع يختلف تماما على صعيد التعليم الجامعي وما فوق الجامعي، حيث تتصدر الجامعات الأمريكية التصنيفات العالمية دون منازع.
على المستوى الشخصي لمست ضعفا في مستوي الرياضيات لدى الطلاب، لكنني في المقابل لاحظت الآتي:
١. يتمتع الطالب الأمريكي بعقليّة تحليلية مدهشة، يعود ذلك إلى أن المناهج المدرسية معدة لتنمية مهارات التخاطب والملاحظة والتحليل والعمل الجماعي. كنت أستمتع بمراقبة الطلاب وهم يتعاملون مع مسائل الرياضيات، تجدهم يقسمون الورقة إلى أجزاء، ثم يبدؤون بالتفكير (بصوت مرتفع) في الحل بطرق مختلفة. أحيانا يلجؤون إلى تحويل السؤال إلى رسوم توضيحية، حيث تساعد هذه الاستراتيجية في تبسيط السؤال، وأحيانا يحاولون التعامل بطريقة استبعاد الأجوبة الشاذة وتقليص الخيارات إلى أقل ما يمكن.
يبدو أن مناهجهم الدراسية مهتمة ليس فقط بتدريس القواعد والقوانين، بل بتمليك الطرائق المختلفة للتفكير ومناهج التحليل المنطقي، وهذا ما ينمي ملكة الملاحظة والتحليل لدى الطلاب.
مما استوقفني في بداية أمري الاستخدام المفرط لعبارة “?does this make sens“ أي "هل يستقيم هذا مع المنطق؟"، للتأكد من موافقة الطلاب للمعلومة التي يعطيها الأستاذ، بل إن الطالب لا يجد حرجا في مقاطعة أستاذه أثناء المحاضرة لتنبيهه أن الفكرة التي أوردها لا تستقيم مع المنطق "what you have just said doesn’t make sense to me” ومن الغرائب أن الأستاذ يتقبل هذه الجرأة بصدر رحب بل ويحاول توضيح فكرته بطريقة جديده تتسق مع تفكير الطالب. من اللطائف هنا، أن ابنتي الكبرى والتي كانت تدرس في المرحلة الابتدائية تأثرت بالقوم وأخذت تفرط في استخدام هذه العبارة، والتي لم تكن ترق لي مطلقا. لكنني مع مرور الزمن أصبحت من المغرمين بها، لدرجة أنني أصبحت من يبادر باستخدامها عند محاولة إقناعها بقضية ما. بل إنه قد تبين لي سحر هذه العبارة والتي تمكنك من معرفة اتجاهات تفكير الطرف الذي تحاوره وبالتالي تجعلك قادرًا على إعادة ترتيب وتنظيم أفكارك بصيغ مختلفة سعيا وراء إقناع الطرف الآخر.
٢. يتمتع الطلاب الأمريكيون بمقدرات لغوية مدهشة، ليس على مستوى التعبير والتخاطب فحسب، ولكن على مستوى صياغة الأفكار بصورة مبسطة، والاختيار الدقيق للمفردات وسرعة التفكير في الردود المناسبة. لاحظت أن من ضمن المهارات التي تدرس ابتداءًا من المرحلة المتوسطة مهارات المناظرة debating، أعتقد أن هذا الفن هو ما يفسر مستواهم الراقي في إجادة فنون التخاطب. ثم إن هناك أمرا آخر يفسر إجادتهم للغة، وهو أنهم يستخدمون نفس اللغة في حياتهم العامّة ودراستهم الأكاديمية ومحيطهم المهني. هذا الشيء يمكنهم من ممارسة اللغة على نطاق واسع وهذا يؤثر إيجابا على تمكنهم منها. أما عندنا، فنستخدم العاميّة في حياتنا العامة، والفصحى للدراسة، ومزيج بين العربية والانجليزية في العمل. هذا التشتت يؤثر على مهاراتها اللغوية، لأننا في حقيقة الأمر نتحدث ثلاث لغات، ذات تراكيب متباينة ومفردات مختلفة. فتجدنا نستخدم العاميّة في عقلنا الباطن، ثم نحاول ترجمة الأفكار للفصحى عند التحدث بها، هذا ما يجعل ألسنتنا أقل طلاقة وأكثر تعتعة.
من الجدير بالذكر هنا أن هناك تفاوتًا كبيرًا في مستويات اللغة الانجليزية بين الأمريكيين البيض والأفارقة والهسبانك والمهاجرين. قد لا تبدو هذه الفوارق واضحة للشخص الذي لم يعش في أمريكا، لكنها موجودة. بصورة عامة، يعتبر البيض الأكثر اهتماما بتدريس أبنائهم قواعد اللغة ودفعهم باتجاه الأدب الانجليزي الكلاسيكي، وهذا ما يجعل لغتهم أكثر بلاغة وفصاحة. أما الأمريكيون من أصول إفريقية فيعمدون إلى السرعة في الحديث واستخدام لغة الجسد (طريقة الدراما) في الحوار، لذلك فإن طريقتهم جاذبة جدا للمستمع. أحسب أن الرئيس أوباما (وهو من أكثر الرؤساء المعاصرين بلاغة ومقدرة على التخاطب) استفاد من الأصول البيضاء لوالدته والأصول الافريقية لزوجته فجمع بين المدرستين.
يجب أن أشير هنا إلى أنني لم اهتم بالأدب العربي إلا بعد مجيئي إلى أمريكا، كنت قد استمعت إلى محاضرة للمرحوم الدكتور حسن الترابي يتحدث فيها عن فلسفة اللغات، ومما التصق بذهني من تلك المحاضرة قوله: "إن الانسان كلما تعلم لغة جديدة، كلما ازداد إعجابا بلغته الأم، ذلك أنه يقع أسيرا للمقارنة والمناظرة والمقاربة بين لغاته المكتسبة ولغته الأم، هذه المقارنة الدائمة تمكنه من لغته الأم وتجعله أكثر استمتاعا بها".
أحسب أن الدكتور الترابي كان موفقا جدا في ملاحظته تلك، فقد عشت التجربة التي أشار اليها، لدرجة أنني أصبحت نادما على عدم اهتمامي باللغة العربية، وحانقا على أساتذتنا اللذين عقدوها حتى نفرونا منها وفشلوا في إدخالها لقلوبنا. لا شك أن اللغة العربية هي أكثر اللغات حيوية وذخرا بالألفاظ ومقدرة على التوصيف الدقيق، كيف لا وهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، لكننا بحاجة ماسة إلى إعادة إحيائها وتطوير طرق تدريسها.
٣. من الواضح بالنسبة لي أن المناهج الدراسية تولي قضية تطوير شخصية الطالب حيزا كبيرا، فتعريف النجاح عندهم لا ينحصر على التفوق الأكاديمي فحسب، بل يشمل الرياضة والفنون والموسيقى والمناظرات والحوار، لذا فإن الطالب الموهوب يجد الرعاية والاهتمام منذ وقت مبكّر. ثم إن المدرسة تعمد إلى تطوير الموهبة والمهارة المعينة وتسويقها على مختلف الأصعدة. فتجد الطالب المتفوق في الرياضة ينظر إليه بنفس درجة الإعجاب للطالب المتفوق في الفيزياء (وربما أكثر). بل إن الطالب الرياضي هذا ربما قادته موهبته الرياضية إلى أرقى الجامعات الأمريكية قبل الطالب المتفوق في الفيزياء. هذه الروح الإيجابية تدفع الجميع إلى الاهتمام بهواياتهم واهتماماتهم وهذا يساعد في خلق الشخصية واعتداد الشخص بنفسه وتقديره لذاته. ثم إن الاهتمام بالمواهب هذا يحفز الطالب إلى الاهتمام بها والتخطيط المبكر لمستقبله. وهذا ما يزيد من وعيه وينمي آفاقه. أذكر أنني حاورت طلابا مهتمين بالموسيقى، ذكروا لي تفاصيل دقيقة عن تمارينهم وتدريباتهم وقد دهشت من المجهود الكبير الذي يبذلونه لصقل مواهبهم، لكن دهشتي زالت لما أسروا إلي بحجم الأموال التي تنتظرهم إذا ما وجدوا من يتبنى عملهم الفني الأول.
٤. من الأشياء التي لفتت نظري وأعجبت بها جدا أن الأمريكان لا يجنحون إلى تبني الأحكام القطعية والمواقف المتطرفة في الحوار، وهذه ربما من الأشياء التي تزرعها المدرسة فيهم. مثلا، تجدهم في حواراتهم يكثرون من عبارات مثل probably, most likely, maybe, perhaps حتى إذا كانوا متأكدين مما يقولون. في بداية الأمر كنت أستهجن ذلك المسلك خاصة عندما يقول لك البروفيسور probably this is the best answer، فكنت أرى في عبارته هذه نوعا من التهرب، ذلك أن دراسة الهندسة علمتنا أن هناك حلًّا واحدًا لكل سؤال. لكنني مع مرور الأيام أصبحت أكثر قبولا ومرونة مع هذه العبارات إذ غدت تمثل لي مزيجا من تواضع العلماء (حيث أن إستخدام العالم لهذه المفردات هو دليل تواضع وليس دليل تشكيك) وترك الباب مواربا لنظريات جديدة ربما تأتي وتغير المسلمات الحاليّة، وقبل هذا وذاك استشعارا للآية الكريمة "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". لا أستطيع تحديد الدافع وراء استخدامهم لهذه العبارات، لكن الأمر فيه نوع من التواضع الجميل.