في الثاني من فبراير عام خمس وثلاثين وثمانمائة وألف (1835) وقف الكاتب والسياسي الإنجليزي اللورد ماكولي في البرلمان البريطاني قائلا: "لقد سافرت في الهند طولا وعرضا، ولم أر شخصا واحدا يتسول أو يسرق. لقد وجدت هذا البلد ثريًّا لدرجة كبيرة، يتمتع أهلها بقيم أخلاقية عالية ودرجة رفيعة من الرقي، حتى أنني أرى أننا لن نهزم هذه الأمة، إلا بكسر عمودها الفقري، وهو تراثها الروحي والثقافي. ولذا أقترح أن يأتي نظام تعليمي جديد ليحل محل النظام القديم، لأنه لو بدأ الهنود يعتقدون أن كل ما هو أجنبي وإنجليزي جيد وأحسن مما هو محلي، فإنهم سيفقدون احترامهم لأنفسهم وثقافتهم المحلية، وسيصبحون ما نريدهم أن يكونوا، أمة تم الهيمنة عليها تماما.
 لم أجد عبارةً تلخّص معنى الاستعمار الوجداني مثل هذا النصّ المقتطف، والذي يعبّر عن مدى التشوّه الذي ألحقه الاستعمار بهويات الشعوب المستعمَرة؛ لقد حاول الاستعمار إعادة تشكيل وعي شعوبنا بذواتها وبالآخر، وذلك من خلال فرض نظرته الفوقية التي تستند إلى علويّة الإنسان الأوروبي الأبيض ودونية ما سواه كما يقول ذلك أستاذنا الراحل جمال حمدان، إن الحركة الاستعمارية لم تنطلق من فراغ فلسفي، لقد جاءت نتيجة لعصر الأنوار وأفكار فلاسفة الحداثة الذين اضطلعوا بنزع القداسة عن كل شيء، فأصبح الإنسان والعالم مادة استعمالية يمكن توظيفها والتحكم فيها وترشيدها وتسويتها وتحويلها إلى وسيلة.
 
  إنّ الإنسان المستعمِر هو الإنسان الاقتصادي الماديّ الذي لم يكن ينظر للإنسان المستعمَر نظرة إنسانية تركيبية معقّدة، لقد كانت نظرته خالية من كل المقدّسات، أدّت إلى ظهور نزعة إمبريالية لديه لأنه كان ينظر للعالم بكونه مادة نافعة يمكنه استغلالها لحسابه. 

في الحقيقة؛ إنّ الحركة الاستعمارية مثّلت لحظة من لحظات تجلّيات العلمانية الغربية المتوحّشة التي لم تؤمن بأية قيم إنسانية أو أخلاقية أو دينية، حوّلت هذا الإنسان الأعلى - بالمفهوم النتشوي - إلى إله ! فحين لا تكون هناك قداسة ولا حرمات ولا مرجعية أخلاقية مُتجاوزة تحدُّ أطماع هذا الإنسان الاقتصادي فإنّه يتألّه !، ويقع في نقيض مقصد حركة التحديث التي وصفها ريتشارد رورتي  بأنها مشروع نزع الألوهية عن العالم !.

 بعد نهاية حقبة الاستعمار المُباشر وقع إنسان ما بعد الاستعمار - كما يسمّيه فرانتز فانون - في دوّامة من الأسئلة الوجودية والهويّاتية، كأنما أراد أن يُعيد اكتشاف ذاته بعد تجربته التاريخية المريرة مع الاستعمار، وراح في تيه ثقافي يبحث عن ملامحه قبل الاستعمار ليتعرّف على نفسه من جديد، وشهدت البلدان التي عرفت استعمارا استيطانيا كالجزائر صدامات ثقافية قاسية بعد سنوات قليلة من استقلالها، حيث استطاع الاستعمار أن يدمّر قاعدة الاستقلال الثقافي، ويقضي على الكثير من ملامح ومحددات الشخصية الثقافية للشعوب، ما جعل هناك اختلافات تصل حدّ التناقض في محاولة تعريف الهويّة.

 
  كما لعبت بعض المراصد "الثقافية" على وتر تصدّعات ما بعد الاستعمار، وراحت تحاول تقديم قراءة "علمية" لمفهوم الهوية، في إطار نموذج مادّي غربي، وهذه الدراسة لم تتفاعل سوى مع المعايير المادّية للهوية، وهي معايير عاجزة بطبيعتها ومحدودة عن إدراك الهوية بتركيبتها الإنسانية المعقّدة وتميّزها، وهذا أدى بها إلى تعريف الإنسان على أنه "إنسان طبيعي" يتّسم بسمات عامّة أضيفت إليه الحضارة، أي أنها ليست أصيلة فيه - كما يقول الراحل عبد الوهاب المسيري -، وهي في الحقيقة قراءة ناتجة عن حركة الاستنارة الغربية أو العقلانية المادّية كما يسمّيها صاحب موسوعة الصهيونية، وتسعى اليوم العولمة إلى العودة بالشعوب إلى هذا "الإنسان الطبيعي" البسيط غير المركّب، الإنسان ذو البعد الواحد كما سمّاه ماركوز، لتقولبه في قالب ضدّ حضاري، ولهذا فإنّ المحاولة المادّية لتعريف الهوية لا تمثّل تهديدا لهويّاتنا الإسلامية المتنوّعة فقط وإنما تطمس حتى الملامح الإنسانية والتنوعات الثقافية في هويات كل الشعوب، فخطاب العولمة يتحدّث عن حرية انتقال البضائع والسلع، ورأسمال عابر للقارات والحدود، وشركات متعددة الجنسيات، وهو يتجاوز التنوّع الثقافي والهويّاتي للشعوب، لأنه لا ينظر إليها نظرة إنسانية مركّبة بل يراها ذاك الإنسان الطبيعي ذي السمات المشتركة، والإنسان الطبيعي هو نفسه الإنسان الاقتصادي، هو نفسه الإنسان ذو البعد الواحد البسيط، الذي يدور في عملية الإنتاج والاستهلاك، كل هذا يقوم على ترويج فكرة أفضلية الوافد على الذات التي يكرّسها الاستعمار في نمطه الاقتصادي الحديث المُعولم.
 
  لقد قدّم الإسلام نماذج حضارية متنوّعة بتنوّع المشتركات الإنسانية دون أن يطمس هوية أي شعب من الشعوب، لم يُخرج الإسلام الإنسان الصيني عن معطياته الزمانية والمكانية ليُنتج مُعطى إنسانيا آخر، بل أتاح لكل الشعوب أن  تعبّر عن إمكاناتها الإنسانية ضمن معطياتها الخاصّة، أي تحقق هويّاتها بتحقّق إمكاناتها في إطارها الزماني والمكاني الخاصّ بها، فالإمكانية الإنسانية الكامنة حينما تتحقّق في الزمان والمكان العربي تنتج الإنسان العربي والإنسانية العربية، وحين تتحقق في الزمان والمكان الغربي تنتج لنا الإنسان الغربي والإنسانية الغربية، ذلك أن الإنسان لا يمكنه أن يبدع من مرجعية غيره، إن هناك ارتباطا وثيقا بين الهويّة والإبداع، وهو بالتالي يذوب فيما يردّدونه من آراء وأفكار ورؤى، ويصبح تابعا لهم ومردّدا لما يبثّونه في روعه، ومن ثمّ يتشكّل وعيه عن ذاته كما يرونه هم لا كما يرى نفسه، ويتشكّل وعيه بما حوله وفق رؤيتهم هم لا رؤيته هو، وهذا مع الأسف ما تعانيه الشعوب التي عانت الاستعمار، حيث لا تزال ترتبط بفضائه الثقافي، وترى نفسها معنيّة بتراثه الفكري والأدبي.
 

إنّ الاستعمار عن طريق وكلائه لا يزال يصوغ الكثير من رؤانا الثقافية والهويّاتية، ولهذا نجد التابع للمنظومة الثقافية الاستعمارية عندنا يحمل نظرة دونية عن ذاته مقدّسة للغربي ورافعة من شأنه، تلكم هي النظرة البراغماتية للإنسان الأدنى، الذي يحاول التكيّف مع كافّة الظروف التي يفرضها عليه الإنسان الأعلى.

وهذا يعود بنا إلى العبارة التي افتتحنا بها مقالنا للّورد ماكولي الذي قال للبريطانيين إنه عليهم أن يكرّسوا نظام تعليم جديد يجعل الفرد الهندي يعتبر كل ما هو إنجليزي جيّدا وأحسن مما هو محلّي، وبالتّالي سيفقد احترامه لذاته وثقافته وهويّته، شيطنة الذات وتقديس الأجنبي، ذلكم هو الاستلاب الغربي الذي يُنازع إنسان ما بعد الاستعمار.

إن عودة موضوع الهوية في ظلّ ما يشهده العالم من تنميط وأمركة "The Americanization" مهمّ جدا لمقاومة الزحف المعولم لثقافات وهويات الشعوب، على أن لا تكون هذه الهوية كما يقول أستاذنا المسيري غيتو ينغلق فيه الإنسان عن غيره أو يعتبر فيه نفسه ذو حقوق مطلقة، بل إنّ تطوير هويتنا وإلباسها لبوس التحديث وتطوير مظاهر تجلّياتها وأساليبها وتجديد فنونها هو أحد أهمّ عوامل المقاومة والمواجهة.

إن العالم الإسلامي في حقيقته متحف جامع لهويّات مختلف ومتنوّعة، ضمن الإسلام؛ لكل منها فضاء تعبّر فيه عن وجودها ضمن صورة من الوحدة الفضفاضة التي تسع الجميع، حرص الإسلام على وحدة العامل الروحي والذي يتجلّى في عقيدة التوحيد، ولكنه ساهم في تنوّع ثقافي إنساني فريد، فنجد الفنون الإسلامية تختلف من بلد إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فالفن الإسلامي الهندي غير الفن الإسلامي الفارسي، وفي الفن الإسلامي العربي، نجد على سبيل المثال أن الفن الإسلامي المصري غير الفن الإسلامي المغاربي أو الأندلسي، وفي الفنّ الإسلامي المغاربي، نجد الفنون الأمازيغية والعربية، ونجد حضورا للروح الإفريقية في هذه الفنون وهكذا..، هذا الثراء الإنساني الفريد جعل بعض العلماء ينفون فكرة وجود فن إسلامي، وفي الحقيقة توجد فنون إسلامية لا فنّا واحدا، ذلك أن الإسلام لم يقمع الإمكانية الإنسانية الكامنة لدى هذه الشعوب في أن تبدع ضمن المُعطى الزماني والمكاني الخاص بها، بل لقد سمح الإسلام حتّى للأقليات الدينية بأن تساهم في الثراء الإنساني والثقافي لحضارته، فنرى مساهمة المسيحيّين واليهود في الكثير من المظاهر الثقافية في العالم الإسلامي، فلم يعرف بذلك التاريخ نموذجا للتسامح والتعايش كالنموذج الإسلامي، ودليل ذلك هو بقاء هذا التنوّع إلى يوم الناس هذا رغم الاقتتال والحروب الطائفية التي تُذكيها القوى الغربية، لا يزال الشيعة يعيشون إلى جانب السنة، والمسيحيون واليهود إلى جانب المسلمين، فالعالم الإسلامي لا يزال يمثّل فسيفساء لكل هذه التجلّيات الإنسانية المتنوّعة، عكس العالم الغربي الذي قضت فيه الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، على الكثير من الأقليات واللهجات مثل الأوكستانيان والبروتون، وهذه صفة في أوروبا منذ القدم.
 
  الهوية العضوية الصلبة المرتبطة بالحدود الجغرافية واللسان والمظاهر المادّية التي تقوم عليها فكرة "الدولة الأمّة" انتقلت إلينا عن طريق الاحتكاك التاريخي بالتجربة الاستعمارية المريرة، لقد صاغ الاستعمار رؤيتنا للهوية والدولة وربطها برؤية مادّية قاصرة، عكس الإسلام؛ الذي جعل الهوية مسألة إنسانية مركّبة لا ترتبط بكلّ هذا، فقد كانت في الدولة الإسلامية هويات متعددة؛ عربا وأكرادا وأمازيغا وفرسا، دون أن تكون متنازعة، فكان الرجل يسافر من المغرب إلى مصر فيلقى الترحاب والاستقبال، ويرحل من الشام إلى بلاد فارس فيُرحّب به، لهذا وجب علينا إدراك أن تفعيل الهوية أساسي في عملية النهوض الحضاري، مثل تطوير المعمار الإسلامي، وتحسين الأداء الإنساني للمؤسسات التي ترعى الإنسان قبل تعامله مع المجتمع الكبير، مثل الأسرة والجيرة، حتى نتمكن من إدارة مجتمعاتنا إدارةً إنسانية سليمة.