إنّ جميع المحاولات التي بُذِلَت لإصلاح شأن هذه الأمـَّة باءت بالفشل، لأنـَّها أهملَت، إلى حدٍّ بعيد، إصلاح "عقلها" قبل شَهرِ السيوف لمقاومة المُحتـلّ أو الغاصِب. وواقع الانسداد الذي تشهدُه غالبية دول العالم العربي الإسلامي بين أنظمة الاستبداد والحركات الإسلامية أو بين الجيش كمؤسسة الدولة "العميقة" والقوى المُنبثقة من الإسلام السيّاسي على تنويعاته والتي أخذت تحتكرُ ساحات المُعارضة (معادلة القصر والجَامع) نظرًا لانحسار مساحة الحريات.

والذي يظهرُ بشكلٍ جليّ فيما تعيشُه دول المشرق حالياً من ترنُّحٍ واسقاطٍ للحدود وضرب دوله المركزية، كرقصة بين التّاريخ والجغرافيا، فتبرز كيانات مذهبيّة ومُنظّمات جهاديّة عابرة للحدود وناقضة بشكلٍ حاسمٍ لمفهوم الدولة الوطنيّة أو الدّولة-الأمّة، ورغم الاستقلال الذي حقـّقـته مُعظم البلدان العربية إلاّ أنّه لم يؤدّ إلى تحسين الأوضاع القائمة بقدر ما ازدادت تعقيدًا وترديًّا وتخلّفًا. بل إنّ الدول العربية الغنيّة التي حققت آلاف المليارات من العوائد النفطيّة، أظهرت نموًّا سلبيًّا، أو تخلّفًا في اقتصادها خلال الرُّبع الأخير من القرن الماضي. كما أدّت تلك الأزمة إلى ما وصلت إليه الأوضاع في بُلدانٍ مُختلفة كالعراق وفلسطين والسّودان والجزائر ومصر من تردٍّ، أمّا بقيّة البلدان العربيّة فأوضاعُها طبعًا لا تبشّر بالخير. إنها مشكلة الشرعيّة في منطقة كادت تُصبح فيها الشرعيّة الحقيقيّة للحاكم أو للسّلطة سِلعة نادرة، ومما لا شكّ فيه أن هذا المأزق السّياسي والعملي هو شللٌ فكريّ أصاب الأمّة الإسلاميّة ككل، وتخلّفٌ ما برح مكانه منذ قرون خلت، فصار همُّ الفرد العربي الوحيد هو الرَّكض وراء قوته اليوميّ، فساهم كلّ هذا في تكوين عقلٍ مُجتمعيّ مُتخلّف أو مُنغلق، وذلك نتيجة العقليّة البدويّة، والتي تقفُ وراء جَميع مشَاكلنَا ونكَباتنا الحاليّة.

 ومن خلال هذا المقال وانطلاقًا من حرصنا الشّديد على بقاء هذه الأمّة ورقيّها، فإنّنا نُحاول دقَّ جرسِ الإنذَارِ عاليًا، لنُنبّه المعنيّين إلى أنّ الأمّة العربيّة إذا استمرّت في هذه المسيرة المأساويّة المُتعثّرة، وهي على شفا حُفرةٍ ليس لها قرار، والتي ينهشُها الأصدقاء قبل الأعداء بكلّ شهيّة، والأسوأ من ذلك أنها وليمةٌ مفتوحة بدعوةٍ رسميّة من جانب مُعظم أصحاب الحل من أبنائها، الذين يُشاركون بالتلذّذ بهذا الطّبق. فمصيرُها الاندثار، كأمّة لها هويّتُها اللغويّة والثقافيّة والتّاريخيّة والفكريّة المُتميّزة، فضلاً عن حيّزها الجُغرافي المُتّصِل.

العقلُ المُجتمَعيُّ بين العقلِ الفاعِل والمُنفعِل

ممّا لا شكّ فيه أنَّ كلَّ مجتمعٍ يحملُ في طيَّاتِ كيانه قِيَمًا وأعرافًا وقواعدَ ومعاييرَ مُتميِّزة والتي تُشكّلُ في مجمُوعِها خصائصَهُ، أي أنَّ للمجتمع ذاكرةٌ أيضًا، بل إنَّ ذاكرةَ المجتمع أقوى آلافَ المرَّات من ذاكرة الإنسان العاديّ، لأنَّها تحملُ جميع ما مرَّ بالمجتمع من أحداثٍ وتجارب، تحملُ نتائج الأحداث التي لا نعرف عنها شيئًا، لأنـَّها ضاعت في بطُون التاريخ غير المسجَّل وغير المعروف. وبناءً على هذا يُمكنُنا القول بأنّ لكلّ مُجتمع يتكوَّن عقلٌ مُجتمَعي لا شعوريّ نتيجةَ لتراكُم الأحداث التي مرَّت عليه خلال سَيرورته وتشَكُّلِه. إذن هُو يرتبط بالمجتمع ككيان لهُ شخصيّة معنويّة بل قانونيّة أحيانًا، فمُعظم أفراد المُجتمع يخضعون للعقل المُجتمعي بعقلهِم المُنفعِل به، بشكلٍ تلقائي غير واعٍ، فيصبحون عبيدًا فيه بطريقةٍ ما، باستثناءِ فئةٍ قليلة وهي تلك التي لها القُدرة على استخدام عقلِها الفاعِل فيُخضعُون العقل المُجتمعي لعددٍ لا يُحصى من الأسئلة، ويقيّمُونه ويشكّكون في مبادئه وعقائده من أعراف وتقاليد ومُسلّمات قد لا تكون لها أيّة علاقة بالشّريعة الإسلاميّة بل قد تُنافيها أحيانًا.

"فالسّبيل الأمثل لإطلاق طاقات العقل العربيّ وتحقيق مُنجزاتٍ إبداعيّة جديدة، هو استخدام العقل الفاعل لمحاسبة العقل المُنفعل، وتحليل مفاهيمه وقيمه ومُعتقداته، للتمييز بين الصّالح والطّالح، أي أن ينظُر الوجهُ الفاعل في وجه المُقابل "المُنفعل"، يحاوره ويُجادله، فيصل الفرد إلى ما أسماهُ الجابريّ "التفكير بالعقل في العقل"

وبدايةً علينا أن نُعرّف ولو بشكلٍ بسيط مفهوما العقل الفاعِل والمُنفعل:

أوَّلاً: العقل المُنفعِل، هو تلك الملَكة التي يكتسبُها الفردُ من مُحيطه، ويستخدمُها في التفكير والتعامُـل مع الآخرين، أو مجموعةُ المبادئ والمعايير التي يفرضُها "العقلُ المُجتمَعيّ"، والتي يتَّخذُها الفردُ مِقياسًا لمعظم أحكامِه وقراراتِه.
فنحن حين نُفكِّرُ أو نتعاملُ مع الآخرين، أو نتَّخذُ قراراتِنا، نضعُ غالبًا في اعتبارنا، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، المُستلزَماتِ والقـيّم التي يفرضُها المجتمع، والتي نخضعُ لها عادةً أو نحترمُها في الغالب، شئنا أو أبَينا، وهي مُتغيِّرة بتغيُّر الزمان والمكان.
ثانيًا: العقل الفاعِل، فإنه يدلُّ على تلك الملَكة الذهنيَّة الطبيعيَّة التي تولَد مع الإنسان، ثمَّ تَضمرُ تدريجيًّا، بسبب تأثير العقل المُنفعِل وسيطرته على العقل الفاعل، وقد تنمو لدى بعض الأشخاص، فتـُؤَدِّي إلى تساؤلِها عن قيمة مبادئ المجتمع وأعرافِه ومُعتـقـداتِه ومدى مِصداقـيَّـتها وصلاحيَّـتها للعـقـل الفاعل وللمجتمع؛ أو قد تـُحاور، لِمامًا، "العقلَ المُنـفعـِل" و/أو تـُجادلُه، و/أو تحـلِـلـُه وتحاسبُه على ما يحملهُ من قِيَمٍ ومفاهيم ليست من مُبتكَراتِه، بل ممَّا فرضَه عليه العقلُ المُجتمَعيّ.

نظرة على مدى قُدرة العَقل المُجتَمعيّ على التحكُّم فينَا وخُضوعِنَا له

الحقيقة أنّنا خاضعون جميعًا لذلك العقلِ الجبّار والحاكمِ المُطلق حينما نُدافعُ عن قِيمِنا وتقاليدنَا وتُراثِنا ومُعتقداتِنا، بل حتّى عن آمالِنا وتطلّعاتِنا، إذ نتصوّرُ بذلك أنّنا بطريقةٍ ما نُعبّرُ عن آرائنَا وأفكارِنَا. في حين أنّنا في الواقع نُعبّر عن الأفكار التي تدور في عَقلِ ذلك المُجتمع، إذ يفرضُها علينا فرضًا من حيثُ لا نشعُر!
إنّ العقل البشري ما هو إلاّ نِتاجُ عوامل وراثيّة وأخرى بيئيّة، وهذه الأخيرة طبعًا تمثّل العقل المُجتمعي الذي يتغذّى منه الفرد منذُ طفُولته بإيديولوجيَّته ومفاهيمه وقِيمه، لذا ينشأ الفردُ راضخًا، خاضعًا لكلّ تلك المفاهيم لأنّهُ سيُعاقبُ إن هو عصاها بشكلٍ أو بآخر، وسينالُ استحسان وإعجاب من حوله إن اتّبعها، ونادرون هُم من يتساءلون عن مدى صلاحيّتِها وعقلانيّتها، وهُنا يدخُل "العقل الفاعِل" حينما يشرعُ بالتّحليل والتّساؤل في مُقابل "العقل المُنفعل" الذي يخضعُ لكلّ ما يفرضُهُ عليه العقل المُجتمعي دون اعتراض.
وبناءً على كلّ ما سبق ومُقارنةً بالواقِع، يتّضحُ أنّ هُناك تفاوُت بين المُجتمعات في مدى فرضِ هذه القواعد واحترامها، فكلّما ارتفع المُجتمع في سُلّم التطوّر والتقدّم والديمقراطيّة، مُنح الطّفل قدرًا أكبر من الحريّة والاختيار. وكُلّما انخفض في ذلك السلّم كان العكسُ صحيحًا، وهذا يؤدّي بالأغلبيّة العُظمى من أفراد المُجتمع إلى بناء شخصيّة الفرد، وتحفيز قُدراته الذاتيَّة للخلقِ والإبداع. وهذا هو الجزء المفقود في عالمِنا الإسلامي، لأنّ الطّفل ينشأ مُنذ نعومة أظافره خاضِعًا للعقل المُجتمعيّ، قُتلت فيه روحُ الاستقلال والتفتُّح والإبداع. ممّا أسفرَ عن إنشاءِ جيلٍ واهنٍ قلّما يُحقّق مُنجزات كبيرة، سواء على الصّعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو العلميّ.

ما السبيل لإطلاق الطاقات الجبَّارة التي يملكُها العَقل العربيّ من عِقالها، وهل يؤدّي ذلك إلى تحقيق طفرة تُنقذُ الأمّة؟

إذا أردنا حقًّا تحريرَ الإنسان العربيّ لإنجاز نهضته وتقدُّمه، فينبغي علينا أوَّلاً، وقبل كلِّ شيء، تحريرُ عقله الذي تعرَّض للقهرِ على مرِّ العصور، فأصبح خاضعًا خانعًا تابعًا، مُقـلـِّدًا مُردِّدًا لا مُجدِّدًا.
الحقيقة أنّنا أوهمنا أنفُسنا بأنّنا نستطيع الحفاظ على قيمِنَا ومبادئنا، وفي نفس الوقت اختيار ما يُلائمنَا من حضارة الغرب الصّاعدة دون التّفريط بتلك "الأصول" الأولى التي تربطُنا بماضينا، فأصبحنا شخصيّةً هشّةً مزدوجة، نؤمنُ بقيمنَا ونُقدّسُها تارةً ونحتقرُ قِيم "الآخر" ونفضحُها تارةً أخرى، لكنّنا نلجأ إليه في أتفهِ احتياجاتنا وحتّى لحلّ مشاكِلنا الخاصّة.
لقد تنوَّعت الآراءُ والاتِّجاهاتُ في تشخيص أدواءِ الأُمـِّة ومعالجتِها، كلٌّ يُحلِّلُ الخَلَل ويُعالجُه بمنظاره المنفرِد. "بفكر" يرى أبعادَ الخلل،لا بالشكل الذي تكون عليه تلك الأبعادُ بالفِعل، بل بالشكل الذي يُصوِّره له ذلك "الفكر" الملوَّن بالاتِّجاه المسبَق. أي أنه صادرٌ عن عقل مُـنـفعلٍ إما بـ "الأنا" الذي فاتـَه قطارُ الحضارةِ السريع منذ زمن، أو بـإيديولوجية مقتبسة أو منقولة. في حين كان عليهم إمعانُ النّظر لتشخيص الدّاء ونقدِ الأوضاع، ثمّ تأتي مرحلة وصفُ الدّواء. إذن فالأحرى بنا أن ننقدَ أوَّلاً،  "العقل" الذي يتوجَّهُ بالنقد إلى الأوضاع،كما يقول الجابري: "فإذا كان "سلاح النقد" نفسه معطوبًا -أي مُنفعلاً-فإنَّ نتائجَ نقده ستكون ناقصة، بل باطلة. وبالتالي فإنَّ تشخيصَه للداءِ سيكون خاطئًا، ووصفَه للدواء سيصبح قاتلاً، أحيانًا!"

ولهذا لم نتمكن، حتَّى الآن، من مُواجهة مشكلاتنا بابتكارِ حلولٍ نابعةٍ من "عقلنا الفاعل"، لا "عقلنا المُنفعل"، سواء بآراء "الأنا" الماضي أي السَلَف، أو بآراء "الآخر" الحاضر أي الغرب. لأنّنا نجترُّ مُنتَجاتِ الحضارةِ العربيَّة الإسلامية ونردّدُ مفاهيمها ترديدًا ببَّغائيًّا، في حين كان علينا البحثُ والاستقصاء، ثمّ نقدِها بموضوعيّة ومنهجيَّة علميَّة صارمة، لفهمها واستيعابها، بعقلٍ مُتـفـتِّحٍ فاعل، لا بعقلٍ مُنغلِقٍ مُنفعِل، لا يَرى إلاَّ بعضَ جوانبها السطحيَّة.
فالسّبيل الأمثل لإطلاق طاقات العقل العربيّ وتحقيق مُنجزاتٍ إبداعيّة جديدة، هو استخدام العقل الفاعل لمحاسبة العقل المُنفعل، وتحليل مفاهيمه وقيمه ومُعتقداته، للتمييز بين الصّالح والطّالح، أي أن ينظُر الوجهُ الفاعل في وجه المُقابل "المُنفعل"، يحاوره ويُجادله، فيصل الفرد إلى ما أسماهُ الجابريّ "التفكير بالعقل في العقل". وكذا تحرير الذّات من إيمانها بكلَ المسلّماتِ المقبولة سواء على النّطاق العام أو حتّى في الأوساط العالِمة أو التي تُعتبرُ موثوقة لدى الطّبقة المُثقّفة، باستثناءِ بعض النّظريّات العلميّة التي وصلت إلى حدّ اليقين وسمّيت "قوانين"، ينبغي أن تظلّ جميعُ الأمور خاضعة للشكّ والبحث.

وبالتّالي نتمكّن من خلال كلّ ما تمّ ذكره، من إدراك أنَّ المعايير والمبادئَ التي كانت تَسُود الحضارات السّابقة وُضِعَت لذلك الزمان، وأنَّ زمانَنا بحاجةٍ إلى استنباط مفاهيمَ ومبادئَ جديدة تنسجم مع ظروفه وأحواله. ومن خلال هذا الفِعل والتفاعُل بين استيعاب الحضارتَين قد يتوصَّلُ عقلُنا الفاعل إلى إبداع نهجٍ لإنقاذ هذه الأُمـَّة من هذه الغمَّة.