﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـٰزَعْتُمْ فِى ٱلْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلْءَاخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴿١٥٢﴾ ﴾، مؤاخذة شديدة من رب العالمين وجهها لأعظم جيل عرفه التاريخ الإسلامي، في فترة من الفترات الزاهية للأمة الإسلامية، ولو أن قارئا يقرأها بادئ الرأي قد لا يصدق أنها قيلت فيهم، لكنها قيلت، وسوف تبقى إلى يوم القيامة قرآنا يُتلى، لِيَدُلّنا منطوق القرآن على أن كمال الوعي مطلب يستحيل التحقق، وإنما له حدود يتوقف عندها وأماكن وأزمنة قد يتعطل فيها لدى بعض الأخيار، وله أشخاص معينون يطيقون الوعي وأعباءه، وآخرون يطيقون بعضه، وآخرون يتعذر عليهم الإلمام بمعظمه، هذا في شأن عموم الناس أولى، لأننا رأيناه في الصحابة العدول خاصة .. فلماذا ؟  

إذا أعدنا قراءة السياق التاريخي و اللحظة الحضارية، اللذان أُنزلت فيهما هذه الآيات ووقعت فيهما أحداث غزوة أحد، نجد أن السياق كان سياق تقدم للأمة الإسلامية، واللحظة كانت لحظة إقلاع حضاري؛ ففي غزوة أحد كان المسلمون حديثوا عهد بأول دولة إسلامية على أول أرض إسلامية بقيادة نبوية راشدة –يقينا-، وكانت في أجواء انتصار حديث ضمن سيل من الانتصارات منها غزوة بدر الكبرى التي سبقت غزوة أحد . أما اللحظة الحضارية فقد قررتُ أنها لحظة إقلاع  ، لأن بنية الحضارة قد تمايزت معالمها، من حيث الخلفية العقدية والفكرية، والمنظومة القيمية، ووضوح القيادة السياسية والعسكرية وطبيعتها، ووحدة الرؤية، واتحاد المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة، ووجود امتداد استراتيجي في الحبشة وبعض المسلمين الذين يخفون إسلامهم بمكة، كل هذا جعل المسلمين قوة مُتَراصّة، مثلت بجدارة نواة التحضر الإسلامي اللاحق، حتى إن بعض الدارسين قد استهجن اعتبار الجيش الإسلامي مهزوما في غزوة أحد، بل اعتبروه نصرا باعتبار النتائج بعيدة المدى للغزوة، غير أن هذا الوضع الحضاري المريح الذي كانت تنعم به الأمة الإسلامية الفَتيّة، لم يكن يعني أن المسلمين جميعا كانوا على درجة عالية من الوعي، بل أن يكونوا في مستوى واحد، والآية السابقة تنبه إلى أحد مظاهر ذلك، فقد أشارت الآية إلى وجود تباين في درجة وعي الصحابة الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة، ومنهم من اجتهد في موضع لا يقبل الاجتهاد، وموقف لا يحتمل التأويل كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره :" إذ كانوا قالوا –أي الرماة الذين خالفوا أمر الرسول- : إن الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلما نَصَرَ الله المسلمين فما لنا والوقوف هنا حتى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأولين، فإنما سميت هنا عصيانا لأن المقام ليس مقام اجتهاد، فإن شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل، أو لأن التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه، أو لأنه كان تأويلا لإرضاء حب المال، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرسول ". 

 الوعي هو :" الإدراك الرشيد للواقع، المتولد عن رؤية نظرية، وخبرة معرفية وعملية"، وبهذه النظرة للوعي فهو مطلب غير متاح لعموم الأمة، ولكن لا تطيقه إلا بعض نخبها، فلا يمكننا أن نلزم به من تهيأت قدرته لأعمال أخرى.

ما الوعي ؟

عند الحديث عن مفهوم الوعي، يفاجئنا سيل من التعاريف المختلفة، غير أن الوعي في أبسط صوره هو "الإدراك الرشيد للواقع، المتولد عن رؤية نظرية، وخبرة معرفية وعملية"، فثمرة الوعي هو الرشد في التعامل مع الواقع، هذا الرشد الذي يتشكل بنيانه من طُولِ النظر في الخلفيات النظرية ومختلف الفلسفات التي أنتجت هذا الواقع، وكذا الخبرة العلمية والمعرفية في التعاطي مع المستجدات، وليست الخبرة الانفعالية أو الارتجالية، وكذا الخبرة العملية في بناء المواقف ومعالجتها ومراجعتها، أما مبتدأ الوعي فهو الإدراك الذهني المجرد للمبادئ والقيم، والتصور النظري للسلوكيات والمواقف، والفرق بينه وبين الفكر هو شدة الارتباط بالواقع، فالتجريد عامل مشترك بينهما، أما الارتباط بالواقع فهو عنصر أساس في الوعي، وعنصر مكمل في الفكر . 
بهذه النظرة إلى الوعي، نفهم لماذا اعتَبَرتُ أن موقف الصحابة الذين نزلت فيهم الآيات السابقة هو موقف قصور في الوعي  -ولو آنيا وظرفيا-. 

هل يشترط في الوعي أن يشمل عموم الأمة لصناعة النهضة أو المحافظة عليها ؟

 لا شك أن المتأمل في الحادثة التي اسْتُفتِح بها المقال يفهم أن توجهه هو الإجابة بالنفي على هذا السؤال. وقد يكون الجواب مفاجئا للبعض، ذلك أنه قد استقر في الأذهان بسبب ممارسة كثيرٍ من الدعاة والمصلحين والمفكرين الذين أرهقوا أنفسهم وأرهقوا الأمة معهم في محاولة فرض الوعي على عموم الأمة، ولم يزد هذا الفرض من عامة الأمة إلا مقاومة مباشرة أحيانا وغير مباشرة غالبا، فمنذ الصحوات الإسلامية الإصلاحية الأولى في القرن التاسع عشر الميلادي كان الخطاب الإسلامي الموجه لعموم الناس يهدف لتوعيتهم بدينهم، وبتاريخهم وفلسفة هذا التاريخ، وبواقعهم المُرهَق، والعدو المتربص بهم وخططه لمحو كيانهم، وطول هذه الفترة لم تكن استجابة عموم الناس إلا في حدود أضيق من مراد المصلحين، هذا الخطاب الذي تحول إلى شعارات وكلام جدلي لا يغير في واقع المجتمعات إلا القليل.
 

 إن الوعي المتكامل مطلب عزيز، لا يطيقه جميع الناس، وليس تحصيله متيسرا إلا لمن تفرغ للعناية بآلته، والوعيُ بمفهومه الدقيق لا يتأتى لمن كانت تتزاحمه مطالب الحياة وتفاصيلها.

بل إن الوعي الذي ينبني عليه التحضر الحق، هو خصيصة نُخبوية، ونحن نظلم عامة الناس إذا ألزمناهم بما لا يُلزمهم، وفرضنا عليهم ما لا يطيقون، بل سوف تتزايد الفجوة بين نخب الأمة وعامتها إذا استمرت النخب في مخاطبة الأمة بما لا تطيق ولا تفهم، وهذا ليس عيبا في عموم الأمة بل هو من خصائصها، جاء في صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب-موقوفا- :"حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله" وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود :"ما أنت بمُحَدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"، ولذلك إذا أطلق لفظ "الوعي" على عامة الناس لا يطلق إلا على سبيل المجاز أو في سياق الحديث عن "وعي جزئي"، أما إن أطلق على سبيل الحقيقة فهذا يرجع للجهل بحقيقة الوعي، فنظلمهم ونظلم "الوعي" !!!  ودعنا نضرب بعض الأمثلة على هذا التوجه : 

أولا : كما لاحظنا في المثال الأول أن الصحابة الذين مثلوا نواة التحضر الإسلامي كانت تأتي من بعضهم سلوكات ومواقف، فردية أو جماعية، تدل على أن الوعي –بمفهومه العام- لم يكن خاصية جميعهم، ولو أن المقام يسع لأوردت العديد من النماذج على ذلك، لكن يكفي الإشارة إلى أن الصحابة كانوا أقساما مختلفة، فمنهم من رفعه وعيه لمجلس الشورى النبوي كالأربعة الذين خَلَفُوا النبي صلى الله عليه وسلم والبدريين ، ومنهم من لم يكن حظه إلا فضل الصحبة والسبق بالإسلام ، وكان الذين أسلموا قبل الفتح غير الذين أسلموا من بعده، وهكذا، ولكن هذا لم يكن مانعا قط في السير العام للحضارة الإسلامية ولا لقوة الأمة، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان شأن بعض الصحابة هو القيادة والإمامة وهم فئة قليلة، وطبقة دون القادة وهم المستشارون كأهل بدر والقراء، وطبقة عامة الصحابة وهي الأوسع والأكثر، وطبقة التابعين التي بدأت في النشأة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخذت دورةً حضارية جديدة لها نفس الهيكل تقريبا؛ قيادةٌ فكرية وسياسية، ثم عامة الناس، واستمر الحال على ذلك، ولم يكن الوعي قط خاصا بالناس جميعا بل كان منحصرا في نخب الأمة، دون أن يعرقل هذا عجلة التقدم والتحضر.

ثانيا : لا يختلف اثنان على أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القوة الأولى في ركب التحضر الغربي المهيمن على العالم اليوم، ولنعد مثلا لشهادة "جورج كينان" الذي يعتبر من كبار مهندسي العلاقات الخارجية الأمريكية في فترة الحرب الباردة، أي  يمكن القول أنها فترة –شبه- تكافؤ في القوة بين المعسكرين القطبين آنذاك، يقول كينان :" عندنا حوالي 50 % من ثروات العالم وفقط 6.3 % من سكانه .. وبمثل هذا الوضع لا يمكننا تجنب حسد واستياء الآخرين. مهمتنا الحقيقية في الفترة القادمة هي ترتيب نموذج للعلاقات يحافظ على استمرار ذلك التفاوت ..."، هذه الشهادة تعطينا تصورا عن المحورية العالمية لأمريكا في تلك الفترة، ولماذا تتبوأ هذه المكانة اليوم، إذ أنها مازالت القوة العسكرية والاقتصادية والإعلامية الأولى، حتى أطلق على ظاهرة العولمة " الأمركة" نظرا لشدة هيمنة الو.م.أ، كما أنها ما زالت تحقق الاستقرار النسبي داخليا ، وموقفها لم يزل مرجحا وقويا في كثير من القضايا الدولية، السؤال الآن هل الشعب الأمريكي أو عامة الأمريكيين على مستوى متقدم جدا من الوعي يناظر الدور الحضاري الذي تلعبه أمريكا ؟ وهل يساهم عامة الأمريكيون بشكل إيجابي في صناعة أو الحفاظ على هذه المكانة ؟ 
     إن الإجابة على هذين السؤالين مفاجئة حقا، وقد تكون صادمة للبعض، إذ غالبية الأمريكيين مغيبون بصفة كاملة عما تفعله حكومتهم في العالم، بل إن هذا الجهل الأمريكي هو صنيعة مقصودة من قادة الرأي العام الأمريكي للحفاظ على الصمت الداخلي، والاستقرار الاجتماعي، بل أكثر من ذلك إن أغلب الأمريكيين لا يعلمون على وجه الدقة كيف تدار شؤونهم الداخلية، ولندع "نعوم تشومسكي" يحدثنا عن هذا الشعب؛ يقول :" في أوائل التسعينيات ، عندما هددت الإدارة الأمريكية –علنا- بغزو هايتي، أظهر استطلاع للرأي أن 23 %من الأمريكيين لم يسمعوا عن هايتي برغم التغطية الإعلامية المكثفة في ذلك الوقت"، ويقول :" وحتى الشرق الأوسط حيث مصادر البترول وملتقى القارات –ناهيك عن أنه منبع الحضارات والأديان – وبرغم استمرار مشكلته بؤرة ساخنة في العالم لمدة تزيد عن نصف قرن، فالأغلبية العظمى من الأمريكيين لا يعرفون أصل المشكلة ولا تطوراتها وأحداثها الحقيقية " ، ويقول :" كذلك جاء في الأهرام 26/2/1996 أن اتحاد المدرسين رفع قضية أمام المحكمة الفدرالية في كاليفورنيا يطالب بإلغاء قرار مجلس الإشراف على المدارس والتعليم في الولاية، الذي يقضي بضرورة اختبار المدرسين قبل تعيينهم، وذلك بعد أن رسب 50.000 مدرس في اختبار المعلومات والقراءة"، إذًا من يقود الو.م.أ ؟؟ يجيب تشومسكي:" إنهم حفنة قليلة جدا، جد قليلة، من محترفي السياسة وكبار رجال المال والإعلام، تهمهم بالدرجة الأولى مصالحهم ثم تأتي مصالح الشعب الأمريكي"، لكن هذا التغييب الحاد للعامة الأمريكيين لم يمنع ولم يعرقل المكانة الحضارية للو.م.أ . 

خلاصة : 

في الأخير يمكننا أن نوجز ما سبق ذكره في مجموعة من النقاط : 
1- الوعي هو :" الإدراك الرشيد للواقع، المتولد عن رؤية نظرية، وخبرة معرفية وعملية"، وبهذه النظرة للوعي فهو مطلب غير متاح لعموم الأمة، ولكن لا تطيقه إلا بعض نخبها، فلا يمكننا أن نلزم به من تهيأت قدرته لأعمال أخرى. 
2- القصور في الوعي العام، لدى العامة لا يؤثر في سير عجلة التحضر والتقدم، ولكن الخلل يقع عند انحراف وعي النخب. 
3- ثمرة هذه النظرة إلى الوعي وعلاقته بالعامة أنها تهيئء للتّخفيف من حدة الشقاق بين النّخب والعامة، بسبب سعي النخب لإلزام العامة بما لا يطيقون ومخاطبتهم بغير ما يفهمون ومحاولة إلزامهم بما لا يُلزمهم، فتخلق جوا من التفهم والتراحم والحد من التلاوُم الفارغ بين هذين الفئتين، وتقدير كل لدور الآخر في البناء الحضاري الذي يحتاج للجميع كل في موقعه وعلى قدر وسعه. 
4- في الأخير قد يتساءل القارئ : مادام الوعي العام بهذه الصورة ليس مطلوبا من العامة، فما هو المطلوب منهم ؟ وما هو دورهم الإيجابي في البناء الحضاري ؟ وما هو الهدف الذي ينبغي أن ترسمه النخب الإصلاحية وهي تسعى لترشيد عموم الأمة وقيادتها ؟ هذا ما يجيب عنه الجزء الثاني من المقال بإذن الله تعالى.          
                                                                                     يتبع ...