التَّعليم العالي والتّدريب في الوطن العربي.. أزمةٌ وإشكالات؟

إنَّ التقهقُر الذي يشهُده الواقع العربي اليوم هو نتيجةٌ لتراكمِ العديدِ من الأزماتِ، من أكثرها تأثيرًا وعُمقًا أزمة التّعليم المُنحَط التي أدّت بدورهَا إلى تأزمٍ فكريٍ حَضاريّ تظهر أبسطُ تجليّاته في الأجيال ذاتِ الاهتمامات الهابطَة والفاعليّةِ المُنعدمَة، أجيالٌ  تتلمذت سنينًا طِوالًا ثمّ تخرّجت من مدارس تُدْعى تجاوزًا بالتّعليميّة، فلا أنتجَت عقولًا تدفع بمستقبل أمّتها في مدارجِ التطور العلمّي ولا هيّ قوّمت سلوكياتٍ ولا غيّرت من العادات المُتوارثَة في بيئةٍ يسودُها التخلُّف.
إذن، أزمّة التّعليم في أغلب أوطاننا العربيّة من كَبائرِ التخلّف الحضاري والتي جرَّت لنا آثامًا لا حصر لهَا، بدءً من الحشو المعلوماتِي الذي خَرّج عقولًا هي أبْعد ما يكون عن فهم التطور الحاصل عالميًا ناهيكَ عن مواكبته أو الإسهام فيه، مرورًا بعمليّة الوأد المُمنْهَج لإمكانات وقُدرات المُتعلِّمين والمُعلّمين على حدٍ سواء، وصولًا إلى انْغِلاق الوعي المُجتمعي في دوائرِ الاستِهْلاك المُتنامّي، ودُون دِرايَةٍ بأساسياتِ التحضّر والعيش الكريم في حاضرٍ يسبقنا بأشواط، ومُستقبلٍ نجهلُ أبعادَه التي تزداد امتدادًا واتساعًا.

 
تجدر الإشادُة هُنا بتطوراتٍ كبيرةٍ ومُتسارعة في بعض دُول الخليج العربي، التي أوْلَت التّعليم اهتمامًا بالغًا ما مكنّها الدخولَ في التنافس العالمّي طيلة السّنوات الماضيّة. 
فأفضل ما يُقربنا لتشخيص هذا الواقع لُغة الأرقام التي تُزودنا بإحصاءاتٍ تنطق بحجم التحدّيات والأزمات التي يعاني منها العالم العربي، على أن نأخُذ تلك الأرقام كمؤشراتٍ هامّةٍ لا كحقائق أكيدَة، وذلك بسبب التخلُّف الذي انْعكس بلا شَك على دِقّة الاستقراءات. 

 

سلّم التنافسيّة العالميّ.. مُؤشر التَّعليم العالي والتّدريب


يستعرض التقرير السّنويّ الصادر عن المُنتدى الإقتصادي العالميّ لسنة (2017-2018م) الترتيب التنافُسيّ لـلدّول التي يبلغ عددها 137 دولة حول العالم منها 14 دولة عربيّة (وباستثناء ثماني دولٍ عربيّة).
اعتمَد التصنيف على اثني عشر معيارا، لكلّ معيار مجموعة مؤشرات، ولكلّ معيار درجَة إجمالية تتراوح من واحد إلى سبعة (1-7)، باعتبار الدرجة الأولى هي الأدنى في مستوى الترتيب. 
  يُعتبر التَّعليم العالي والتّدريب المعيار الخامس في التقرير، ويُشير المنتدى إلى أهميّة هذا المُؤشر في الارتقاء بالاقتصاد المحلّي إلى ما وراء عمليّات الإنتاج والمُنتجاتِ البسيطة، حيث يتطلّب اهتمامًا ورعايةً بالمُوظفين ذوي التّعليمِ الجيّد لتمكينِهم من أداء مهامهم الحضاريّة المنوطةِ بهم، ولإكسابهم القدرةَ على التكيّف السريع مع البيئة المُتغيّرة بتغيّر الاحتياجات وازديادها.   
وقد تمّ تصنيف كلّ دولة محلّ الدراسةِ وفقًا لمعايير مُحدّدة وهي: 

  • كَمّ التّعليم: بقياس معدلات الالتحاق بالتّعليم العالي والثانوي. 
  • جَودة التّعليم: بقيّاس جودة نظام التّعليم، جودة تعليم الرّياضيات والعلوم، وجودةُ إدارة المَدارس والمُؤسّسات التّعليميّة، ومدى وفرةُ الانترنت فيها. 
  • التدريب الوظيفي: بقياس الإتاحة المحليّة لخدمات التّدريب المُتخصصة، وحجم تدريب الموظفين. 

 

ما هو ترتيب دولتكَ في سلّم التنافسيّة العالميّ؟


أحرزت دول الخليج العربي تَقدُّمًا ملحوظًا على باقي الدُول العربيّة، إذْ تربعت هذه السّنة الإمارات العربيّة المُتحدّة على الرتبة الأولى عربيًا و36 عالميًا ، لتَليَها قطر بدرجةٍ واحدة حيث بلغتا الدرجة الخامسة كدرجةٍ إجماليةٍ متوسطة، ثمّ دولة البحرين في الرتبة الثالثةِ عربيّا و39 عالميّا، ثمّ المملكة العربيّة السعوديّة في الرتبةِ الرابعة عربيًا و48 عالميّا، في حين تذيّلت موريتانيا الترتيب عالميًا برُتبة 137 وبدرجة إجماليّة تقديرها 1.9، وقبلَها اليمن بدرجةٍ واحدة. 

 


الشكل1: الدرجات الإجماليّة المتوسطة للدول العربية في سلّم التنافسيّة العالمي حسب مؤشر التّعليم العالي والتّدريب

 

 

ترتيب الدول العشرة الأولى وفق معيار التعليم العالي والتدريب:

 

الامارات قطر البحرين السعودية الأردن عُمان لبنان تونس الجزائر الكويت مصر المغرب اليمن موريتانيا
36 37 39 43 63 71 74 82 92 95 100 101 136 137

 

الشكل 2: ترتيب الدول العربية في سلّم التنافسيّة العالمي حسب مؤشر التّعليم العالي والتّدريب عالميا وعربيا.

يعكس هذا الترتيب مدى نجاعة السياسات المُنتهجَة في كلّ دولة، إذْ سجّلت الدول العربية المُتصدّرة نجاحًا مُعتبرًا بفضل تصميم المناهج التّعليميّة، وتطوير وتحديث وسائل المنظومة التّعليميّة المُبتكرَة، والاهتمام بإعداد جيلٍ مُتمّكنٍ من أدواتِ التميّز والابتكار ومعارف المُستقبَل، وتزويدٍ الموظفين بالكفاءةِ المطلوبة، وقد ساهم هذا وبشكل كبير في تعزيز التنافسيّة على صعيدٍ عالمي. 
قد يتحجّج البعض أنّ ما حققته هذه الدول العربيّة يُعتبر استثناءً نظرًا للانتعاش الاقتصادي الذي كان رافدًا هامًا ساعد على تحقيق هذا الإنجاز، لأجل ذلك سنُقدّم أنموذجًا آخر لدولةٍ تتصدّر الآن مؤشر التعليم العالي والتّدريب بينما كانت قبل خمسين سنة دولة فقيرةً بنظامٍ تّعليميّ مُتهالك واقتصادٍ راكدٍ.. فما سرُّ نّهضتِها؟ 

 

التعليمُ أولًا.. خارطة نُهوض النّمر الآسيوي سنغافورة 


"الدُول تَبدأ بالتعليم، وهَذا ما بَدأت فـيه عندما استلمت الحُكم فـي دولةٍ فقيرةٍ جدًا، اهتممتُ بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتّعليم أكثر من نظام الحكم، فبَنَيتُ المَدارس، والجامعات، وأرسلتُ الشَباب إِلَى الخَارج للتعلُّم، ومن ثمّ الاستفادةِ من دراساتهم لتطوير الداخل السنغافوري". 
  لي كوان يو- Lee Kuan Yuw - مؤسس دولة سنغافورة الحديثة ومُهندس نهضتها-

 

لم يكن تصدرُ سنغافورة لمؤشر (التعليم العالي والتدريب) في تقرير التنافسية العالمي بفضل انعكاسات الانتعاش الاقتصادي والذي كان راكدًا إبان انطلاقتها، ولم يكن أيضًا نتاجًا لأيٍّ من سياساتِ الدعم الخارجي، أو استيرادِ المناهجِ والعُقول، بل كان تصدرًا مُتتاليًا ومُستحقًا بفضل الاهتمام الجّاد اللامُتناهي ببناء الإنسان السنغافوري الذي يرعى حضارتَه

حيث أقرّ مُهندس نهضة سنغافورة أنّ توفير نظامٍ تّعليميّ مُتكاملٍ كفيلٌ بتوفير اليد العاملة التي تبني البلاد وتحقق لها نماءً واكتفاءً ذاتيًا، في ظلّ غياب كل المُقومّات الجُغرافيّة، السُكانيّة، السياسية وحتى الاقتصادية. 
بداية عمليّة الإصلاح للنظّام التّعليمي في سنغافورة كانت قائمةً على أهدافٍ دقيقة: 

  • توفير التّعليم لجميع الأفراد.
  • تكوين أفرادٍ مفكرين ذوي مهاراتٍ إبداعيّة.
  • غرس القيم المدنيّة والأخلاقيّة لدى الأفراد.
  • تمكين الشباب من الالتحاق بسوق العمل في مراحل مُبكرة من التعليم. 
  • إيجاد المواطن الصالح الذي يهتمّ بمسؤولياته العائليّة وبمجتمعه ووطنه. 

ولتحقيق تلك الأهداف مرّت سنغافورة بثلاث مراحل: 
المرحلة الأولى:  1965-1970 م 

  • تفشي الأميّة أدى إلى ابتكار نظام تعليميّ  خاص بالدولة. 
  • بناء المدارس وضم عددٍ كبير من الطلّاب. 

المرحلة الثانيّة: 1970- 1990 م 

  • التركيز على الجدارة والكفاءة لضمان التّعليم الحقيقي. 
  • وضع معايير عالية للتعليم: التركيز على المناهج الدراسيّة وتوحيد الكتب والوسائل. 
  • المركزيّة في متابعة المدارس والمُدرّسين. 

المرحلة الثالثة: النموذَج المُركز على القُدرة 

  • مبادرة 1997م: مدارس التفكير.. تُعلّم الأمّة 
  • التطوير المهني للمعلّمين.
  • استقلاليّة قادة المدارس.
  • نموذج التميّز الدراسي: إلغاء نظام التفتيش والرقابة. 
  • تقسيم المدارس إلى مجموعات.
  • مبادرة 2005م: تعليمٌ أقل.. تعلّمٌ أكثر 
  • التركيز على طرائق التدريس.
  • التقليل من حجم المحتوى.
  • ابتكار أساليب جديدة للتّعليم والتعلّم.
  • تمكين الطالب من التحصيل الذاتّي.
  • مراجعة المناهج وتطوير الاختبارات.
  • إصلاحات للتطوير 
  • تطوير البنية التنظيميّة المُشرفة. 
  • الإنفاق على التّعليم كثاني ميزانيّة بعد الدفاع. 

تُعتبر هذه التجربة مرجعًا هامًا للدُول التي ترغبُ في النهوض بواقعها مع انعدام الظّروف المواتية، لقد حقق تطوير النظام التّعليمي نُموًا اقتصاديًا كبيرًا، وهذا ما أكدّه تقرير نشرته مُنظمة الاقتصاد والتعاون والتنميّة المحليّة، فتنمية العقول والارتقاء بالمعرفة يجعل من الشعب المادّة الأوليّة ورأس المال الذي تبني عليه الدولة كلّ آمال التقدّم والنماء، ومثلما قال  لي كوان يو: ''اصْنَعُوا الإنْسَان قَبل أيّ شَيء''. فهل ستأخذُ الدول العربيّة التي تذيّلت الترتيب هذه القاعدة على محمل التحدّي؟