الرجل المريض... هكذا أطلق قيصر روسيا عام 1853 على الدولة العثمانية واصفًا حالها بعد أن كانت مهد الحضارة وأمّ السجال، كنايةً على الضعف الذي توثق بأطرافها والمرض الذي استفحل في عمقها على ميادين وأصعدة شتى، ولعل العضال من المرض الذي إذا لحق بأمةٍ هدم قواعدها وكسف بزوغها وخسف وهجها هو: سوء التعليم في أول النشء ومدخلاته وثانيهما تردي الصحة العامة في المجتمع وفاعليته.
في العلم والعافية.. من منظور الإسلام
"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (247) البقرة، "بسطة في العلم والجسم" هكذا بيّن القرآن الكريم كيف يصطفي الله عباده ويمكنهم في الأرض، صلاح العقل من عافية البدن وكلاهما متلازمان ومرتبطان بالتمكين والسعي، وقد جاءت الشريعة الإسلامية حافظة لمقصدها من الكليات فكان العقل والنفس في سدة المراتب تصونهما عن كل زيغ وتحفظهما من كل ضرر وتكفيهما بكلّ ما يقوي شأفتهما ويستمسك بوتدهما، فبالحديث عن ذلك؛ كيف حافظت الشريعة على الصحة العامة؟ عقلاً وبدنا؟ وكيف تعامل المنهج النبوي في هذا الشأن؟
تزخر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بما يوضّح ويشدد على أهمية صلاح العقل وعافية البدن فالشواهد تتعدد والآثار تتنوع ففي "صحتك قبل سقمك" و"نعمتان مغبون فيهما كثير من النّاس" خير تعضيد إذ حثّ الإسلام على النظافة والتطهر وربط شطره بالإيمان إلى أن استحسن الطيب وتذوق الجمال، وأمر بالتوسط في المأكل والمشرب بلا تفريط ولا إسراف وحّرم كل ضار مؤذٍ مهلك. كما شجّع على الرياضات ففي "ذي القوة المتين" أوضح تعبير و"القوي الأمين" أشد دلالة على ارتباط صحيحي الأبدان معافي الأجسام بكونهم الأقدر على حمل الراية وتبليغ الرسالة والجهاد في سبيلها، ولم يقتصر على الاهتمام بالجسم كوظيفة وإنما تعدى لعلاج علل النفس والروح بتزكيتها.
وفي طلب العلم وتعليمه أبواب ومنافذ... فكثير من الآيات جاءت تحث وتذكر بضرورة إعمال العقل وطول النظر والتدبر والتفكر في مخلوقات الله والحياة، بل فريضة على كل مسلم ومسلمة بما يستطيع من جهد وما لا يسع من جهل، وهما –العلم والتعليم- متراصان مترابطان ففي قوله تعالى "هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ" (الجمعة:2)
وما مجد الحضارة الإسلامية فيما سبق إلا نتيجة لنشاط الحركة العلمية والتعليمية في ربوعها ورعاية العلم والعلماء فيها وإيلائهم المكانة الرفيعة وعلو الشرف وضخ الاستثمار.
واقع العالم العربي والإسلامي.. حقائق وأرقام
في التعليم الأساسي:
يعتبر التعليم أحد مرتكزات الأمن القومي وبه يتحدد مستوى الدولة ومكانتها التنافسية بين الأمم، مما لا شك فيه أن حال التعليم في البلاد العربية حال مأزوم ونظامه نظامٌ محموم بكم من المشكلات والعوائق الداخلية منها والخارجية والتي أثرت بشكلٍ مباشر على سيرورة النظام التعليمي وفاعليته، على الرغم من تطوره عن حقب ماضية إلا أنه لا يكفي لسد الهوّة التي تتفاوت بيننا وبين الأمم ولا ترتقي لحضارة الإسلام وما يرتجى منها.
إذ تشير التقارير الصادرة عن واقع التعليم في البلاد العربية في المجمل إلى:
قُدِّر عام 2015 عدد الأمِّيين بحوالي 54 مليون أمِّي علما أن عدد سكان الوطن العربي يبلغ حوالي 327 مليون نسمة حسب تقرير (UNFPA) لحالة سكان العالم.
يتوقع بحلول عام 2024 أن يكون هناك 49 مليون أمي في العالم العربي، من بينهم حوالي 15,5 مليون ذكر و33,5 مليون أنثى، يبلغ عدد الأميين الشباب منهم حوالي 6,5 مليون.
حسب المرصد العربي فحوالي 5,6 مليون طفل عربي ما بين 6-11 سنة لم يلتحقوا أساساً بالمدرسة (61,2 % منهم من الإناث) هذا في عام 2014.
في سوريا 33% من المدارس دمّرت وحوالي 2,8 مليون طفل سوري خارج المدرسة، كما أن نسبة الأطفال المشردين داخل سوريا وخارجها تبلغ حوالي 5,5 مليون طفل.
كما ندرج فيما يلي ملاحظات عامّة عن حال التعليم في المنطقة، إذ نجد:
غياب استراتيجية واضحة قائمة على فلسفة وهوية الدولة وبناءها وفي حال وجودها فلا تقيّم ولا يقاس أداؤها ولا مخرجاتها.
تعدد الحاكمية في القطاع العام وغياب المنافسة بالمخرجات.
ضعف مساهمة القطاعات الخاصة في الشراكة والعمل على بند التعليم خصوصًا من حيث التمويل إذ يعتمد في ذلك على الحكومات ويتأثر بطريقة مباشرة بالسياسات وأسبقيات الإنفاق.
ضعف محتوى ومرونة المناهج وغياب التدريب والمرافقة المستمرة للمعلمين وتأطيرهم بمستجدات الطرق والأساليب.
كما يجدر الإشارة أن الدول العربية تختلف تحاليل الواقع التعليمي فيها ولو ارتبطت عامة بمجريات الأحداث العامة في الوطن العربي لكن تبقى لكل دولة خصوصياتها، إذ تنقسم لقسمين:
الدول التي أحرزت نجاحات متقدمة على باقي الدول العربية في ميدان التعليم:
إذ نجد بعض دول الخليج والسعودية في المقدمة، حيث ارتفع عدد الملتحقين بالتعليم المدرسي إلى مستويات متقدمة إلى جانب رفع كفاءة المعلمين واستيراد مناهج تعليمية متقدمة والسعي في تطوير الأنظمة والقوانين والمظاهر العمرانية، فعلى مستوى الترتيب العالمي حصلت قطر على المرتبة الرابعة في جودة التعليم تلتها الإمارات العربية المتحدة في المرتبة 10 فالبحرين 33 والسعودية 54.
ويعود ذلك للاستثمار الكبير الذي لوحظ من قبل صناع القرار في ضخ الأموال في بناء المشاريع تأطير القائمين على المجال غير أن هنالك العديد من المظاهر الخادعة والبيانات المضللة، فالمال قادرٌ على صنع الكثير من المظاهر لكن ما حال الجوهر؟ من الهوية والرؤية؟ والاستراتيجية والتحديات؟ في التساؤل حول ما الذي نريده من التعليم وإلى أين نريد أن نصل، منافسة العالم أم تصدُّر العالم الاقتصادي الصناعي أم الزراعي أم التقني أم الإنساني؟ وما مدى تحفيز ومسئولية نشر ثقافة التعليم وشغف الإنسان بطلب العلم؟
ودول أخرى لا تزال تعاني من مستوى تعليمي متدني ونظام تعليمي متخلف لا يحقق أدنى متطلبات حاجات العصر والمجتمع.
بسبب ضعف الإدارة السياسية وصناعة القرار في بلورة استراتيجية تعليمية ذات أمد طويل محددة ومركزة تشكل صورة الدولة باستثمار في معطياتها وممكناتها وتوجيه لسياساتها على نحوٍ يخدم ذلك بحيث يكون التداول على الوزارات مكمّلا داعما للاستراتيجية لا محولاّ مبدلا، فلا هدف يكتمل ولا إنجاز يتم ولا نتيجة مرجوة نحفل بها.
في واقع الصحة:
الرعاية الصحية في العوالم المتقدمة رافد أساسي ذو اهتمام بالغ في السياسيات المالية والاقتصادية فوفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن الحكومات العربية تخصص ما نسبته 5.3% من مجمل الإنفاق الحكومي حسب إحصاء 2014 في حين ينفق العالم ما يقارب 5800 مليار دولار نصيب الشرق الأوسط منها قرابة 92 ملياراً بنسبة لا تتجاوز 1,7% من الإنفاق العالمي مع أن سكانه يشكلون قرابة الـ 8% من مجموع سكان العالم، هذا مع اختلافات ومفارقات كل دولة على حدى.
إذ تعاني الدول العربية من ثلاث عقبات رئيسة تحول دون كفاية النصيب الفردي من الرعاية الصحية، من جهة عدم توفر الموارد المالية في أغلب الدول، فباستثناء الدول النفطية فإن البقية تعاني ميزانيتها عجزاً متواصلاً وبعضها يعيش أزمةً اقتصادية حادة، ومن جهة أخرى عدم الكفاءة في الاستفادة من الموارد المتوفرة وارتفاع معدلات الهدر بسبب الفساد وضعف الحوكمة الرشيدة في السياسات الحكومية المتعلقة بتمويل قطاع الصحة، كما تلعب التحديات السياسية والأمنية المعاشة العقبة الأشد في طريق إصلاح القطاع الصحي ورفع معدل الإنفاق على الرعاية الصحية، إذ يؤثر ذلك على مداخيل الدولة وبالتالي على حجم الإنفاق.
تجدر الإشارة لارتفاع نسب الأمراض المزمنة بشكل كبير نظرا للتغيرات الجذرية التي طرأت على السلوك الغذائي ومستوى النشاط والحركة، كأمراض القلب والجهاز التنفسي والسرطان وفي أقصى القائمة السكري بمعدلات ونسب عالية في الوطن العربي.
معايير التنافسية الدولية:
ما هو معيار الصحة والتعليم الأساسي؟ وبما بما يقاس؟
صحة اليد العاملة حيوية لتنافسية البلد وإنتاجيته، فالمرض مناف للجهد والطاقة وفي الاقتصاد يصبح إنتاجية وجدوى منخفضة وتكاليف زائدة، لذا فالاستثمار في الخدمات الصحية ضروري في الاقتصاد السليم، إلى جانب اعتبارات الصحة المعنوية، إلى جانب التعليم الأساس الذي يعبر عن مدى وعي وكفاءة اليد العاملة وتجاوبها مع مختلف مستويات العمل والمنتجات.
التعليم الأساسي، ويقاس بـ :
جودة التعليم الأساسي (الابتدائي)
نسبة الالتحاق بالمدارس الأساسية (الابتدائية)
حجم الصرف على التعليم الأساسي بالنسبة للميزانية العامة.
الصحة: ويقاس بـ :
ﺗﺄﺛﻴﺮ اﻷوﺑﺌﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺪوﻟﺔ ومدى اﻧﺘﺸﺎرها خاصة اﻹﻳﺪز واﻟﻤﻼرﻳﺎ واﻟﺴﻞ.
ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻮﻓﻴﺎت ﺑﻴﻦ اﻷﻃﻔﺎل.
ﻣﺘﻮﺳﻂ اﻟﻌﻤﺮ اﻟﻤﺘﻮﻗﻊ.
تقرير 2018.. ترتيب الدول في العالم وعلى مستوى العالم العربي في الصحة
الترتيب العالمي للدول 10 الأولى وفق معيار الصحة والتعليم الأساسي:[1]
ترتيب الدول العربية عربيا وعالميا وفق معيار الصحة والتعليم الأساسي:
أسماء الدول | الامارات | قطر | السعودية | البحرين | الكويت | عُمان | الأردن | المغرب | الجزائر | تونس | مصر | لبنان | موريتانيا | اليمن |
ترتيبها عربيا | 1 | 2 | 4 | 3 | 11 | 6 | 9 | 10 | 7 | 5 | 12 | 8 | 14 | 13 |
ترتيبها عالميا | 33 | 34 | 51 | 37 | 83 | 63 | 80 | 81 | 71 | 58 | 87 | 72 | 128 | 118 |
التجربة العمانية.. في الصحة
يتميز النظام الصحي في سلطنة عمان بتغطيته الشاملة لكل من المواطنين والوافدين، وتمثل إجمالي النفقات الصحية حوالي 5.2 ٪من الناتج المحلي الإجمالي عند حسابه بأسعار السوق، ويتم توفير الرعاية الصحية في المرافق التي تملكها وتديرها الحكومة في المقام الأول. إذ تغطي الحكومة ما يقرب من 2.42 ٪من مجموعِ النفقات الصحية، إذ أحرزت سلطنة عمان انجازات ملحوظة في التنمية الصحية، بالأخص في وتيرة الانخفاض في معدل الوفيات ووفيات الأطفال، وفي مكافحة الأمراض السارية، ولقد تحققت التطورات الصحية بكفاءة، ومع التطور الديمغرافي والوبائي والتحولات العالمية عملت الدولة العمانية على بلورة استراتيجية جديدة، إذ تعد وثيقة "النظرة المستقبلية للنظام الصحي: الصحة 2050" مرجعا مستقبليا هاما ونقلة نوعية في استراتيجية دولة عمان وتعاملها مع القطاع الصحي والتي تهدف إلى: "أن يعيش المواطن العماني حياة صحية ومنتجة، من خلال إنشاء نظام صحي عادل وفعال ومتجاوب وجيد التنظيم ويستند على القيم المجتمعية من الإنصاف والعدالة الاجتماعية، ومن هنا جاء الشعار "عناية راقية وصحة مستدامة"، جاءت الوثيقة كمسح شامل ومستفيض للواقع مع وصف اللبنات الرئيسية الست للنظام الصحي؛ وهي: القيادة أو الحوكمة، والتمويل، والموارد البشرية من أجل الصحة، وتقديم الخدمات، والمعلومات، والمنتجات الطبية واللقاحات والتكنولوجيا.
في التعليم الأساسي
في التعليم.. التجربة الماليزية.. وتجربة كوريا الجنوبية
تجربة كوريا الجنوبية:
كوريا الجنوبية مثال يحتذى به في الانعتاق من جحيم التخلف للاقتصاد المعرفي العصري ومواكبة مصاف التنافسية العالمية، فحالما آمنت بأن التعليم هو جسر اقتصاد المعرفة، والاستثمار البشري هو أنجع رأس مال النهوض عملت على توجيه التعليم خصوصا التقني منه فأصبحت رائدة في صناعة السيارات، والإلكترونيات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ولم يتحقق ذلك إلا بسلسلة من الإجراءات، أبرزها حسن اختيار معلمي المرحلة الابتدائية بالمفاضلة بين خريجي الجامعات وانتقاء الأفضل لتدريس المرحلة الابتدائية وفي ذلك ترسيخ لمكانة مجتمعية مرموقة للمعلم ودوره، فأصلحت النظام التعليمي وحسنت البيئة المدرسية بخاصة المرافق المدرسية، كما عكفت على تأهيل المدرسين بكفاءات عالية الجودة، والتركيز على العلوم والرياضيات، وإعادة بناء المناهج الدراسية وتطويرها.
لم تتم للكوريين الريادة العالمية إلّا من بوابة التفوق الصناعي الذي عززوه باقتصاد معرفي موجه للاحتياج وباستراتيجية واضحة واستثمار جلي خدم رؤية "بناء وطن متقدِّم من الدرجة الأولى".
التجربة الماليزية:
الإصلاح التربوي الذي تضمنته الخطة الأخيرة للنظام التعليمي الماليزي (2020م) والمتطلع لتكوين نظام تعليمي عالمي المستوى يلبي احتياجات وتطلعات الماليزيين بجعله قطاعًا إنتاجيًا خلاقًا معلوماتيًا، تعد خير شاهد على الرابطة القوية بين السياسة التعليمية والإصلاح التربوي، ضمن فلسفة تعليمية نصّت على: «إعداد المواطنين بصورة أكثر ديناميكية وإنتاجية لمواجهة تحديات القرن القادم في عملية التنمية الوطنية نـحو تحقيق وضع صناعي جديد، وإعداد الأفراد إعدادًا عقليًا وروحيًا وجسميًا وعاطفيًا قائمًا على الإيمان بالله وطاعته وتزويدهم بالمعارف والمهارات والقدرات ليتحملوا المسئولية والقدرة على المساهمة في وحدة ورخاء الأسرة والمجتمع والوطن ككل، وتكوين نظام تعليمي على مستوى عالمي يفي بمتطلبات وتطلعات الشعب الماليزي ويحقق مبدأ تكافؤ الفرص من خلال إتاحة فرصة التعليم لجميع الماليزيين»، حيث شملت الإصلاحات التشريعات التربوية؛ إقامة مجتمع تكنولوجي، إثراء وتنويع المناهج وأساليب التدريس (المهارات والقيم، اللغات، التعليم الفني، المهارات الحياتية...الخ)، زيادة وضبط جودة المقدرة المؤسسية ودعم التأهيل والتدريب المستمر وتقييم الأداء.
في الختام: تعيش المجتمعات العربية وبتفاوت مرحلة الحرج الحضاري بين مأزق النهوض وتحدياته، فالتعليم بين حضيض المستوى، أو اعتباطية توجيه الاستثمار فيه، أو طغيان الشكلية بغياب الهوية ودعم الاستيراد.والصحة كذلك؛ بين ضعف الموارد وأولويات الإنفاق وسوء التسيير وغلبة الفساد، لكن ينجلي ذلك بعزيمة الشباب وتطلعاتهم وعملهم الدؤوب حالما تتوفر الإرادة وتغلب الإدارة تبرز المبادرات وتشكل النموذج والمثل.