بيئة الأعمال، كيف تتنافس اقتصاديات الدول؟
 

تنتقل الشركات والمؤسسات التي اعتدت بنفسها واستأسدت حصتها من السوق بعد مرحلة التأسيس لمرحلة أصعب وهي البقاء والاستمرار وتوفير الاستقرار ولا يقتصر ذلك على الموارد والإمكانيات البشرية والمادية والمالية فحسب بل يؤتى بحركية وديمومة التطور والتحسين وفعالية القدرة على الإبداع والإبتكار واستغلال الفرص وصقل المهارات وتوجيهها نحو تجنب التهديدات على الصعيد الداخلي والخارجي.

وهذا ما نطلق عليه الميزة أو القدرة التنافسية. ينطبق الأمر ذاته على الدول والأمم فمسارات التنمية لا يحدها سقف ولا يعيقها تيار ما دامت الإرادة سباقة وفي وجه التحديات قائمة. فما إن تستفي دولة ما متطلباتها الأساسية من المؤسسات القوية والاقتصاد المستقر وجودة الصحة والتعليم وتعزز كفاءتها في أسواق السلع وحجمها وأسواق العمل والمال وتمكنها من كفاءة التدريب والتقنية. حتى تلتفت يمنة ويسرة للمتصدرين المنافسين فتشتد العزائم وتثور الهمم، ففي الإقتصاد، الركب لا ينطوي على رائد القمة الأول كسباق.. وإنما تجسيد السمعة الدولية الكفيلة بجلب الاستثمار وصقل الخدمات وضمان التنمية المجتمعية بتوفير فرص العمل ومتطلبات الرفاهية. هو الفارق.

ما بيئة العمل؟

ومما لا شك فيه أن نجاح المشاريع والاستثمارات في بناء ومواكبة الاقتصاديات المنافسة لا يقوم إلا ببئة عمل صحية ومحفزة على الإنتاج، فلا يوجد مشروع إقتصادي على إختلاف نشاطه خدماتيا كان، صناعيا، إنتاجيا أو تجاريا يراد له الصدارة والبيئة التي تحيطه مثبطة ولا تتلائم وغاياته واستحقاقاته الداخلية والخارجية. ونقصد ببيئة العمل المنافسين وكذلك المستهلكين والموردين وطبيعة سوق العمالة والموارد المادية والبشرية وكل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تؤثر وتتأثر بها المؤسسة. ولضبط المفهوم علميًا أكثر ففيعرفها تومسون بـ"مجموعة المتغيرات أو القيود أو الظروف التي تقع بمنأى عن رقابة المنظمة" و "إختلاف الأعمال الدولية نتيجة لاختلاف طبيعة العمل من حيث العمل التي تعمله في أكثر من بيئة وتتأثر بها، أو هي مجموعة من المتغيرات المحيطة بالمنظمة والمؤثرة في حياتها" ومن جهة أخرى فهي: "مجموعة الظروف والسياسات التي تؤثر في ثقة المستثمر وتقنعه بتوجيه استثماراته إلى بلد دون آخر، وهذه المسألة تتفاعل فيها العوامل الموضوعة مع العوامل النفسية" إذ تعتبر البيئة الصحية والمتطورة والميسرة من العوامل الرئيسة في بناء القدرة التنافسية وتعزيز الجدوى في إنتاج السلع والخدمات وكذا في ذهنيات المستثمرين ورجال الأعمال لسواد سياسات الانفتاح التجاري والاقتصاد المعرفي الذي يؤسس لاحتدام المنافسة وتنوع استراتيجيات التطوير والتحسين.

معايير التنافسية الدولية.. تطور بيئة الأعمال، معيار المتصدرين

يأتي معيار تطور بيئة الأعمال ضمن تقرير معايير التنافسية الصادر عن منتدى الاقتصاد العالمي والذي يمثل مضمار المتصدرين من الدول، حيث الصورة الشاملة لمناخ الاستثمار وحدة الميزة التنافسية فإذا تساوى منتج ما في السوق من الجودة والتسعير قيس على طبيعة التغليف أو التسويق والتوصيل وغيرها. وعليه يتضمن المعيار مؤشرات دلالية مترابطة ما بين جودة شبكات الأعمال العامة والصناعات المساهمة في بلد ما، وجودة أعمال الشركة واستراتيجيتها منفردة. فأما الأولى فتقاس بعدد الموردين والمنتجين المحليين وجودة مستواهم ومدى تعاونهم وقنوات الإتصال بينهم، فتواجد شبكة علاقات منتجين ضمن جغرافية موحدة يؤسس لمجمعات الأعمال العنقودية  (cluster) ذات الدور الفعال في تحفيز المقدرة وتحسين الجدوى الاقتصادية للمنتجات والخدمات كما تتيح سبقا في تجديد أساليب العمل واستراتيجياته في تقليص الحدود لإنشاء شركات جديدة واستثمار أخرى.
 

تصميم 01: مؤشرات معيار تطور بيئة الأعمال

1-كمية الموارد المحلية

2-جودة الموارد المحلية

3-حالة التنمية العنقودية

4-طبيعة الميزة التنافسية

5-قيمة اتساع سلسلة تطور الأعمال

6-السيطرة على التوزيع الدولي

7-تطور عملية الإنتاج

8-مدى التسويق

9-الاستعداد لتفويض السلطة

  1. local supplier quantity

  2. local supplier quality

  3. state of cluster development

  4. nature of competitive advantage

  5. value chain breadth

  6. control of international distribution

  7. production process sophistication

  8. extent of marketing

  9. willingness to delegate authority

 

فيما يلي نتائج التقرير السنوي لعام 2018  يبرز الاقتصاديات العشر الأكثر تطورا في مجال تطور بيئة الأعمال:
ترتيب الدول  العربية عربيا  وعالميا وفقا للمعيار:
أسماء الدول الامارات قطر السعودية البحرين الكويت عُمان الأردن المغرب الجزائر تونس مصر لبنان موريتانيا اليمن
ترتيبها عربيا 1 2 3 4 8 9 5 7 12 11 10 6 14 13
ترتيبها عالميا 13 22 34 36 70 72 48 69 122 98 84 52 136 134
تقرير ممارسة أنشطة الأعمال

يصرح رئيس مجموعة البنك الدولي جيم يونغ كيم في مقدمة التقرير أنه: "يقع على كاهل الحكومات مهمة جسيمة هي توفير بيئة يستطيع فيها رواد الأعمال ومنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة النمو والازدهار. فوجود لوائح سليمة وكفؤة لتنظيم أنشطة الأعمال ذو أهمية حيوية لريادة الأعمال وازدهار القطاع الخاص. وفي غيابها، لن تسنح لنا فرصة للقضاء على الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك في أنحاء العالم." حيث يأتي  التقرير كرافد يقيس سهولة ممارسة أنشطة الأعمال على أساس موضوعي لفهم طبيعة البيئة التنظيمية لأنشطة الأعمال التجارية والعمل على تحسينها والارتقاء بها، يقيس المؤشر الإصلاحات في 11 مجالا: بدء النشاط التجاري، واستخراج تراخيص البناء، وتوصيل الكهرباء، وتسجيل الملكية، والحصول على الائتمان، وحماية مستثمري الأقلية (مساهمي حقوق الأقلية)، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وإنفاذ العقود، وتسوية حالات الإعسار وتنظيم سوق العمل.

في حين يمثل عام 2019 عاما قياسا في إتجاه الإصلاحات وتيسير البيئة العملية لبدء الأعمال، عرفت المنطقة العربية تصدر الإمارات فالمغرب فالبحرين وتذيلت سوريا وليبيا واليمن أدنى المراتب لغياب الاستقرار الاقتصادي. بينما أحرزت جيبوتي تقدما بأكثر من 50 مركزا لأكثر الدول تطبيقا للإصلاحات. فيما يلي جدول يوضح بيانات المعيار ترتيب البلدان لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا:

 

 

البيئة العربية.. مقومات، تحديات وإرادة التغيير

على الرغم من الفجوة التنافسية للبيئة العربية مقارنة ببيئات الأعمال الأجنبية والي بلغت حوالي 30.59% في تقرير مناخ الاستثمار الصادر عن  المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات إلا أن هنالك دفعة وتطور ملاحظ ومشاهد ولو كان فتيا وبقفزات محدودة أمام هول التحديات وصعبة العوائق. فمقومات البيئة العربية حاضرة من تنوع وتباين الموارد الطبيعية والبشرية وخصائص الأسواق العربية ما يوفر دوافع ومزايا للتكامل وتعزيز العمل ضمن إطار العمل العربي المشترك مع وجود فرص تسويقية واستثمارية متاحة لكن يلزمها التفعيل.

فما التحديات والعوائق التي تضعف من تنافسية بيئة الأعمال في المنطقة العربية؟

جاءت في مجلة "سياسة التنافسية" الصادرة عن المعهد العربي للتخطيط بأن أهم العوامل التي تتحكم في بيئة الأعمال هي:

  1. الحاكمية(1): يمكن تعريف الحاكمية بوجه عام على أنها استخدام السلطة في إدارة الموارد الاقتصادية وتوظيفها لإحداث التنمية ويراها البعض على أنها الحالة التي تكون فيها الدولة منضبطة بقوة المجتمع ويكون فيها المجتمع منضبطا والحاكمية الجيدة لا تساعد فقط على الاستقرار بل أصبحت عاملا حاسما في التنافسية الدولية والشواهد تدل على أن الفساد الواسع الانتشار مضر بفعالية البلد على جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة أو يرفع على العموم تكاليف القيام بالأعمال في البلد وتفيد الدراسات الحديثة إن تحسين الحاكمية وتطوير المؤسسات يمران بإشراك مختلف طبقات المجتمع المدني في إحداث التنمية وكذلك بالمساءلة وضمان الشفافية ورفع مستوى الجهاز الإداري، من حيث التعيين والترقية بحسب الكفاءة والعمل على إخراج هذا الجهاز من دائرة ضغوطات أصحاب المصالح ويمر تحسين الحاكمية في طريق تنفيذ القانون والعمل على عدم تضارب اللوائح والتشريعات.

  2. جاذبية الاستثمار الأجنبي المباشر: يعتبر مدى جاذبية الاستثمار الأجنبي المباشر والمالي ركنا أساسيا من بيئة الأعمال الأجنبية يعتبر أحد التحديات التي تواجه الدول النامية وذلك لدور هذا الاستثمار في نقل الخبرات التقنية والإدارية وفتح الأسواق الخارجية وتوفير الأموال الاستثمارية التي لا تترجم  إلى ديون تثقل كاهل الدول النامية مما يجعل المنافسة تستند إلى جذب هذا النوع من الاستثمار. الأمر الذي يتطلب بيئة مؤسساتية مواتية وقطاعا ماليا متطورا وسياسات اقتصادية قابلة للتنبؤ.

كذلك فإن تطوير قطاع هندسة البرمجيات وتفعيل دور المؤسسات التسويقية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر و أن يكون العاملون فيها على قدر عال من الكفاءة في ظل الاتجاه الحديث للاستثمارات الأجنبية نحو القطاعات ذات الكثافة المعرفية والتقنية العالية فإنه يتعين على الأقطار العربية تنمية قطاعات جاذبة بعيدا عن القطاعات التقليدية مثل قطاع الطاقة وقطاع المحروقات.

  1. تدخل الحكومة في الاقتصاد: إن تحديد مستوى التدخل الأمثل للحكومة في الاقتصاد يعتبر صعبا في أحيان كثيرة بسبب طبيعة الأنشطة التي تمولها برامج الإنفاق الحكومي ولكن يمكن مقارنة مستوى هذه النفقات بمستوى النفقات في بعض الدول  التي يعد مستوى التدخل الحكومي في اقتصادياتها محدودا أو فعالا بحيث تستطيع الحكومات في هذه الدول تنفيذ برامجها الانفاقية بأقل التكاليف؛

     يعتمد هذا العامل على ثلاث مؤشرات تعكس حجم تدخل الحكومة في الاقتصاد وهي: مدفوعات الرواتب  والأجور ومدفوعات الدعم والتحويلات الأخرى و إ جمالية النفقات العامة منسوبة جميعها إلى الناتج المحلي الإجمالي ووفقا لهذه المؤشرات فان الدولة ذات النسب الأقل في بنود هذه النفقات تعتبر الدولة الأكثر تنافسية في هذا المجال حيث إنها تعتبر دولة أكثر فعالية في إنتاج النفقات العامة؛     

 في حين أن التدخل المفرط للحكومة في مجال الملكية  وكذلك تدخلها في قطاع الأعمال وهيمنتها على القطاع الإنتاجي يحد من تطور الإنتاجية ولا يخدم النمو الاقتصادي  ويقلل من التنافسية كذلك فإن استفحال ظاهرة البحث عن الربح يزيد من تكلفة الأعمال ويحدث تشوهات في خيارات الأفراد ولاسيما في اختيار تخصصات التعليم واختيار الوظائف الحكومية، الأمر الذي ينتج مهارات غير مطلوبة لدى سوق العمل  ويتسبب في تدني مستوى الإنتاجية لذلك فانه يتعين إحداث نقلة نوعية في دور الحكومات من خلال تقليص تدخلها المباشر والمفرط في النشاط الاقتصادي من حيث الإنتاج والتشغيل لتجنب الاختلالات التي يحدثها هذا التدخل، إن إيجاد شراكة ملائمة مع القطاع الخاص هو أحد السبل لتخفيف الأعباء المالية عن الحكومة والتخلص من عقلية التواكل عليها المنتشرة  في أغلب الدول العربية.

توصيات وإصلاحات؟

تأسيس المجتمع الريادية في الأعمال، يحتاج لتكثيف الجهود الإصلاحية والتطويرية على مستويات عدة بدءًا من الحاضنة التعليمية (الأسرة والمدرسة) التي يقع على عاتقها الخروج من قوقعة النمطية والتعليم المهني الموجه بإطلاق مناهج مرنة ومحفز على البتار وتطوير الملكات والمهارات الحياتية المتناسبة مع متطلبات العصر، لمبادرات المجتمع المدني فتوفير الفرص والتسهيلات الحكومية والتشريعات المساندة. وفي محاولة لتقديم وصفة إصلاح للأخيرة  تتضمن توصيات محددة قابلة للتطبيق، استخلصت نشرة ضمان الاستثمار في طبعتها تجارب عملية أثبتت نجاحها وفاعليتها نوردها مختصة فيما يلي:

إقليميا: بناء شراكات وتكتلات عبر الاتفاقيات الاقليمية وتفعيل أطر التعاون العربي الاستثمارية والتجارية وتشجيع تبادل العمالة إلى جانب تعزيز دور مؤسسات التمويل العربية في تطوير البنى التحتية وتكثيف برامج تحسين بيئة الأعمال.

سياسيا: تدعيم شفافية السياسات ومساءلة الحكومات الدولية وضمان القرار الشعبي، حرية التعبير وحركية الحدود

تشريعيا: ضبط وتيسير قوانين وتشريعات إصلاحية في حماية الملكية بتطوير السياسات الإدارية  وتسهيل الممارسات التجارية في القطاع الخاص والعام ودعمها، بتطوير البنية التحتية للبيانات و رقمنتها ومتابعة تحديثها وجودتها عل مستوى تأسيس الكيان القانوني للمؤسسة بدء النشاط، تراخيص البناء وتسجيل ملكيات الأصول العقارية، تقليص وتنظيم إجراءات التجارة الحدودية ومنح فرص استثماراتها.

الإمارات تصدر عالمي وتجربة للتعميم

https://media.albayan.ae/pdf/1583980.pdf

تقدم الإمارات العربية المتحدة بإدارتها السياسية نموذجا صارخا وتجربة حية في قوة بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات ضمن مناخ قانوني مستقر، ويتضح ذلك في الأرقام المرصودة حيث تصدرت المرتبة الأولى عربيا للعام السادس على التوالي و 11 عالميا لتواصل بذلك مسيرة التطوير والتحديث. من أجل تحقيق تنافسية مستدامة وبيئة عمل مرنة، محفزة على مدار العشر سنوات الماضية. حيث تعد الإمارات الأولى في سهولة حصول المستثمرين على الكهرباء، الثانية في دفع الضرائب، الخامسة في استخراج تراخيص البناء،السابعة عالمياً في تسجيل الملكية، إلى جانب تفوقها في تسهيل الاقامة وتنافسية الواقع الضريبي والخدمات الحكومية الحديثة.

في 4 نقاط، كيف عززت الإمارات تنافسيتها؟(3)

1 -تطوير معيار إجراءات بدء الأعمال من خلال قطاع التسجيل والترخيص التجاري.

2- تطوير الإجراءات وتحسينها في معيار إنفاذ العقود بين الشركات، وتقليل عدد الأيام التي تستغرقها صدور الأحكام وتنفيذها.

3- تعزيز مؤشر التجارة عبر الحدود، من خلال دراسة اختصار الوقت والجهد، وتقليص عدد الوثائق المطلوبة للتخليص الجمركي في معاملات التصدير والاستيراد.

4- تعديل اللوائح والتشريعات المنظمة لعمل وأداء مجالس إدارات شركات المساهمة العامة، بما يعزز شفافية أدائها وحوكمة عملياتها وسن قوانين حماية المستثمرين قانون الإعسار

المراجع:

1-دراسة العوامل المؤثرة على تصنيف الجزائر وفق مؤشرات التنافسية الدولية للفترة (2007-2013) مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماستر في الاقتصاد تخصص مالية و اقتصاد دولي -جامعةمحمد خيضر بسكرة.

2-سياسات التنافسية، المعهد العربي للتخطيط - الكويت،Jul, 2012.

3-مكتب دبي للتنافسية/صحيفة البيان الاقتصادي