بداية وقبل كلّ شيء، علينا أن نقف قليلاً عند مفهوم المجتمع المدني وكذا مفهوم القوّة، وما نقصده بهما في هذا المقال، فالمجتمع المدني هُنا "هو مجموعة من المؤسسات التي تعمل باستقلال نسبي عن الدولة، وعن شركات القطاع الخاص، فهي لا تهدف إلى سلطة سياسية أو أرباح اقتصادية، بل تهدف إلى تقديم خدمات للمواطنين أو الدفاع عن مصالحهم، وذلك من أجل نشر قيم المُبادرة الجماعيّة". وقد تطوّر دوره حتى أصبح هناك العديد من المنظمات التي تعمل في جميع المجالات بدءًا من العمل الأهلي والخيري، ووصولًا إلى المنظمات الحقوقية والثقافية وغيرها.
في حين تعني القوة في معناها التقليدي "قدرة طرف على التأثير على أطراف أخرى بشكل مقصود"، بحيث يمكن "تقليل مقاومة الآخرين له فيما يتعلق بخطة العمل التي يريد تبنيها في مجال معين خلال فترة من الزمن"، أي أن القوة هي امتلاك القدرات والمصادر التي تؤثر في النتائج، أي في سلوك الآخرين لتحقيق الأهداف المبتغاة.
ومن هُنا يمكن القول بأنّ الدولة أو السلطات تسعى بشتّى الطّرق لاستبعاد المواطنين عن دائرة التأثير والتوجيه، بما أنّها حكومات مستبدّة تسعى للانفراد بالقرار، والاستبداد في الحكم، والحيلولة دون إقامة مؤسسات مستقلة وفاعلة، ومنع المجتمع من أن يتحول إلى قوة رقابية موازية. وربّما ما زاد من تعقيد الأوضاع تداخل الاستبداد السياسي مع الاستبداد الاجتماعي، بل إنّ الاستبداد الاجتماعي قد تحوّل تاريخيا إلى قاعدة للاستبداد السياسي. 
وقد ترتب عن هذا الاستبعاد حصول اختلال في علاقة الدولة بالمجتمع حيث تضخّم الرأس ممثلا في الحكم الفردي مقابل ضمور جسم المجتمع الأهلي الذي أصبح بلا سلطة، غير قادر في معظم الأوضاع عن التعبير عن ذاته ومصالحه وتطلعاته بشكل مستقل وفاعل. ولم يكن أمام المجتمع المدني سوى الاعتماد شبه الكامل على السلطة السياسية، يستمد منها شرعية وجوده باعتبارها الطرف المتحكم في حق التنظيم وتكوين الأحزاب والجمعيات. كما يعتمد عليها أيضا في تمويله وصيغ تحركاته وضبط اختياراته وتحالفاته ورسم استراتيجياته، وهو ما حرمَ المجتمع المدني من القيام بأدواره الحيوية والمتعدّدة وفي مقدمتها دور المراقبة وتقديم المقترحات البديلة، وبالتالي التحول إلى سلطة نقد وتوازن.
ثمّ إنّ ضعف المجتمعات المدنية العربية لا يعود فقط إلى مركزية السلطة السياسية ونزوعها المتواصل من أجل الهيمنة على المجتمع الأهلي، وإنما لهذا الضعف أسباب أخرى لا تقل أهمية، بعض هذه الأسباب هيكلي، ويتعلق ببنية المجتمعات المدنية المحلية وبظروف نشأتها التاريخية، وبعضها الآخر يخص منظمات المجتمع المدني من حيث فقدانها للعمل المؤسساتي، وافتقار قياداتها للمهارات الضرورية والخبرات اللازمة للتنظيم واستثمار الطاقات وبناء القدرات وإقناع الجماهير ووضع الاستراتيجيات القادرة على التوفيق بين الإمكانيات والأهداف العاجلة أو بعيدة المدى.
بالطّبع يستحيل أن ننكر دور المجتمع المدني مهما تمّ استبعاده وتهميشه عن السّاحة الدوليّة في مختلف المجتمعات خاصة التي تعاني من أزمات سياسية أو اقتصادية، أو المجتمعات التي تعاني من الحروب أو الحكومات المستبدة. لأنّه سعى دائمًا إلى انتزاع حقوق المواطنين، وتمثيلهم والدفاع عن مصالحهم. فتُعدّ مثلاً تجارب منطقة كارير، والبوسنة والهرسك، وتونس جزءًا بسيطًا من نضال المجتمع المدني في الوقوف حائلًا ضد الظلم بمختلف أشكاله رغم أنف الأطراف المتنازعة والحكومات. لكن كيف يمكن أن نرأب هذه الصدع وأن نقوم بتجميع منظمات المجتمع المدني ومجموعات العمل الشعبي من أجل العمل معًا لتحقيق الأهداف المشتركة ودفع عجلة المجتمعات العربية؟
إنّ سدّ هذه الفجوة ورأب الصّدع بين المجتمع المدني والسّلطة يمكن أن يكون بثلاث استراتيجيّات هي:
أوّلاً: المواجهة المباشرة الصدامية التي تضع الطرفين في حالة قطيعة ومواجهة مفتوحة، لا يحسمها سوى عنف السلطة ومنطق موازين القوى، لأن المجتمع المدني لا يستطيع أن يلجأ إلى العنف وإلا فقد طبيعته.
ثانيًا: يتمثل في تبعية منظمات المجتمع المدني للدولة، ومحاولة التحرك ضمن المساحات التي تحددها السلطة. وهذا يعني نفي المجتمع المدني وتصفيته.
ثالثًا: يمكن وصفه بكونه " سيناريو الحوار والمفاوضة "، ويهدف إلى أن يحاول المجتمع المدني إقناع الأنظمة بأن من مصلحتها الدخول في علاقة شراكة مع الجمعيات والمنظمات المستقلة من أجل تبادل الأدوار في مسار الإصلاح السياسي.
وطبعًا لكلّ استراتيجيّة منها إيجابيّات وسلبيّات وتداعيّات، تفرضُ على المجتمع المدني مواجهتها وتحمّلها بمجرّد أنّه قررّ أن يكون ضمن السّاحة الدوليّة ويساهم في اتخاذ القرار. ولعلّ الإصلاح التدريجي والسلمي هو الاختيار الاستراتيجي الأمثل المطروح أمام المجتمعات المدنية العربية. وبالتالي فعلى المجتمع المدني أن يعمل رغم كل الصعوبات على تجسير العلاقة مع السلطة السياسية. وهو ما يفرض عليه ابتكار الوسائل الناجعة والفعالة لجعل الأنظمة تنخرط في التغيير.
الحقيقة أنّنا وفي خِضم كلّ هذه الأوضاع السيّئة التي تُطوّق المجتمعات العربيّة الإسلاميّة صرنا بحاجةٍ إلى حركات أكثر استمرارية للمنظمات التي يقودها المواطنون من أجل بناء الحكم الشامل من أسفل لأعلى، وهذه الرؤية تمثل تحديًا مباشرًا لمنظمات المجتمع المدني الاحترافية التي تسعى نحو تحقيق استراتيجيات تغيير مباشرة بشكل أكبر بنفسها.
ثمّ إن جعل السياسات، وبالتالي الحكم، وبالتالي التنمية، أكثر شمولية يعني بناء قوة دوليّة عادلة ومتوازنة، تساهم في الوصول إلى السياسات الأكثر شمولية، والحكم الأفضل، وتحسين نتائج التنمية، فمثلاً المنظمات والحركات التي يتم بناؤها وقيادتها من خلال المواطنين تقوم بتقوية الإمكانيات والاستفادة منها من أجل تحقيق التمكين الجماعي وعمل إجراءات جماعية يمكن أن تساعد على تشكيل وصياغة السياسة ككل، وليس فقط السياسات التي يتم وضعها.