لماذا وجِدْنا على هذه الأرض؟ ما الهدف من خلقنا؟ وما المغزى من الوجودِ كُلَّهُ؟! إنَّها أسئلة شَغَلَتْ، وراودت عقول الكثير من البشر مُنذ الأزل وربَّما ستبقى تراودهم إلى الأبد، مادامت السفينة ضائعة بعد أن فقدت بوصلة الإيمان الفطرية، التي فطر الله بها النفس البشريَّة.
لقد جاءت الإجابة عن هذه الأسئلة وبكلِّ وضوحٍ في القرآن الكريم، قال تعالى: "وما خلقتُ الجِنَّ والإنس إِلَّا ليعبدون" [الذاريات: 56]
لا أوضَحَ من هذه الإجابة ! بكلِّ إيجاز يخبرنا الله تعالى أنَّ المغزى من خلقك أيِّها الإنسان هو عبادة الله، مُوجِد الوجود، خالق كلَّ شيءٍ بمقدار، ومنشئ كلَّ شيء لغاية، ولكي يؤدي هذا الإنسان الغاية الشريفة الموكلة إليه، خلقَ له الله أرضاً كفاتاً، وسخّر ما فيها من آلاءٍ لخدمتهِ وتأدية واجب العبادة تجاه خالقه ومعبوده، كما أنَّ الله لم يترك هذا الإنسان يهيم في هذه المبسوطة فريسةً سهلةً لاستفهامات فلسفيَّة جدلية عقيمة يعجز عقله القاصرعن كُنهِ الإجابة عليها، فأرسل له الرسل والأنبياء يرشدونه إلى صراط الله المستقيم، وكيفية إعمار الأرض الّتي أستخلفه الله عليها، هذا الإعمار الّذي يعتبر صورة من صور العبادة ذاتها.
إنَّ هذا الإنسان المُسْتَخلف المأمور بعبادة الله وإعمار الأرض لابدَّ أن يكون ذا صفة معينة تؤهله للعبادة والإعمار، تؤهله لحمل الأمانة الموكلة إليه.. تلك الأمانة الّتي أبتِ الجبال حملها.فمن هو هذا الإنسان القادر على ذلك (؟)
إنَّه وبكلِّ تأكيد الإنسان المُسلِم الصالح المتسلِّح بالإيمان والعلم، فكيف لنا أن نصنع هذا الإنسان الصالح من منظور إسلامي ؟.
إنَّ هذه الصناعة هي بالتأكيد ليستْ عمليَّةً سهلةً، وبسيطة، وليست عمليَّة سريعة وآنية، هي عملية تحتاج الكثير من الوقت والجهد والبذل، والكثير من الصبر.
هي صناعة أساسها وجوهرها الفعَّال التربية، وهي بدورها يجب أن تكون ذات أصول إسلاميّة تجري وفق مراحل مُتسلسلة ومتعددة، وتغطّي جوانب مختلفة من شخصية هذا الإنسان مراعية عمرهُ، وجنسهُ، وتكوينه النفسي، مع الأخذ بعين الاعتبار أهم ركيزةٍ لهذه العملية وهو المُربّي وهو هنا قد يكون الأب أو الأم أو المُعلِّم في المدرسة، والّذين سيشتركون جميعا في هذه العملية في أحد مراحلها، والمهم هو التكامل والتنسيق فيما بينهم. وهنا أستطيع أن أجتهدَ وأوجز مراحل هذه العملية التربويَّة على النحو التالي:
مرحلة النشء
المرحلة الأولى، مرحلة النَّشء: وفي هذه المرحلة يجب على المُربّي الاهتمام بالجوانب التالية:
أ- التربية الأخلاقيَّة الإسلاميَّة: هنا يجب الـتأكيد على الصفة الإسلامية لهذه الأخلاق مع أن الأخلاق الحميدة تكاد تكون واحدة لدى جميع الأمم، وفي جميع الحضارات والثقافات، لكنَّ أهميَّة هذا الربط تأتي بعد أن بَعُدَتْ الصّفة الإسلاميّة عن هذه الأخلاق والمثل، وتراجعت لصالح الصفة المحلية لهذه المُثل والأخلاق، وكذلك كون هذا الربط يخلق شعوراً لدى المتلقي بأنَّ مَنْبَع هذه الأخلاق الحميدة منبع ديني إلهي، وحيث أثبتت التجارب بأنَّ للدين تأثيراً عجيباً في حياة الناس، وفي قناعاتهم وبذلك يكونون أكثر استجابة للالتزام بها. ولعلَّنا نذكر هنا من هذه القيم الّتي حضَّ عليها الإسلام، الصدق والأمانة، حيث يستطيع المُربّي غرس هذه القيم عندما يكون قدوة في ذلك فيحرص على الصدق وتجنُّب الكذب حتى لو كان عن نيةٍ حسنةٍ؛ لأنَّه محط نظر المُتلقّي وهو بذلك يمارس تقنيَّة التربية بالقدوة الحسنة كما يستحب أن يُكرِّر على أسماع المُتلقي عبارات مثل: نحن نقول الصِّدق لأنَّنا مسلمون، نحن لا نكذب؛ لأنَّ الكذب منقصة؛ ولأنَّ الله يعاقب من يكذب، نحن نؤدي الأمانة؛ لأنَّ ديننا حضَّ على حفظ الأمانات ونبينا هو الصَّادق الأمين.. وغير ذلك من العبارات التي تتضمن معاني الربط بين الفضيلة الخُلُقيَّة والإسلام والتذكير بعقاب من يخالفها، حيث تترسَّخ في ذهنيَّة المُتلقي وتصبح جزءاً من شخصيَّته، وقد قال مُحمَّد عليه أفضل الصلوات والتسليم فيما رواه ابن جرير وابن المنذر عن حديث ابن عباس: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار).
ب- التربيّة الإيمانية والعقائدية: هنا يجب على المُربي أن يوضّح للنشء حقائق الإيمان الأساسيَّة فيغرس في نفوسهم الإيمان بالله عزَّ وجل الواحد الأحد خالق الكون، وخالقنا والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وأن َّ كلَّ شيءٍ يجري بمشيئة الله وقضائه وقدره وتعويده على أركان الإسلام خصوصاً الصلاة ففي قول النبي محمد: (مروا أولادكم بالصَّلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع) (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)
وممَّا يقوي إيمان النشء اطلاعهم على القصص القرآني المعروض بشكل جذَّاب، وشائق، وأسلوب مُبسَّط وميسَّر للفهم، والأمر الّذي يجب مراعاته من قبل المُربّي فيما يخص المسائل الإيمانيّة والعقائديّة هو التدرُّج من الأدنى إلى الأعلى ومن المَحسوس إلى المجرّد، ومن المعاني الإيمانّيّة والدلالات العبوديّة البسيطة إلى تلك الّتي تكون أكثر عُمقاً، مِمّا يَغرس في نفوس النَّشء إحساس الخشوع والتقوى، والعبوديّة لله والشعور بأنَّه يراقبه في كل شؤون حياته.
ج -التعليم والتربية البدنيّة: بالعلم والرّياضة تكتمل الحلقة التربويّة، حيث أعطى الإسلام للعلم والتعليم أهميّة كبيرة في حياة الفرد المسلم وذلك في دعوته الصريحة - التي جاءت بصيغة الأمر- إلى القراءةِ في أوَّل سورة نزلت من القرآن الكريم، قال تعالى: (اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلق) [العلق:1]
كما قال الله مُخاطِباً ذوي العقول: (إنَّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنَّهار لآيات لأُولي الألباب) [آل عمران:190]
فكيف يستطيع الإنسان أن يتفكَّر في خلق السموات والأرض، وفي كيفيَّة تعاقب الليل والنهار، وغير ذلك من الظواهر الكونيَّة الدالة على وجود الله إذا لم يكن ذا عقل مُتعلّم؟ فالواجب تعليم النَّشء مبادئ وأُسس العلوم الدنيويَّة من رياضيّات، وفيزياء، وكيمياء، وعلوم طبيعيَّة، وغيرها من تلك العلوم الَّتي تُفتّح عقل النشء وتشحذ ذهنه وتنمّي في شخصيَّته مَلَكَة التأمُّل والتفكير المنطقي، ومن ثُمَّ الاستنتاج.
وبالمثل أولى الإسلام أهميَّة لبناء الأبدان كما بناء العقول، فقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (علموا أبناءكم السباحة والرمي والمرأة المغزل).
ومن المعلوم أنَّ الأولاد فُطِروا على حُبِّ اللعب، وفي ذلك فائدة جليلة على صحة الجسم والحفاظ على نشاطه وتقوية مناعته ضد الأمراض، وإعانته في تأدية بعض العبادات الَّتي تحتاج إلى جهد عضلي نوعاً ما.
المرحلة الثانية مرحلة الشّباب:
في هذه المرحلة تزداد المسؤولية على المُربّي وربَّما تطلب الأمر منه حِرصاً أكثر على نجاح العمليَّة التربويَّة؛ لأنَّ الشاب في هذه المرحلة يتعرض إلى الكثير من المُغريات؛ حيث تتسع دائرة تفاعله مع الوسط المحيط به ويصبح عرضة للانحراف، فيجب على المُربّي أن يعي ويدرك جميع هذه المتغيرات، ويسعى جاهداً للتعامل معها بمسؤوليَّة ومرونة مخافة أن ينحرف الشاب في غفلةٍ منه ويذهب جهده السابق سُداً خصوصاً في عصر الشبكة (الإنترنت) الَّذي نعيشه الآن حيث بإمكان أي شخص ولا نقول بكبسة زِرْ بَلْ، بلمسةٍ من إصبعهِ أن يطَّلع على أرقى ما أنتجته البشريَّة، أو يغرق في أَرْذلِ ما أفرزه الانحطاط الأخلاقي والفكري لبعض البشر.
فمن ناحية :
أ – التربية الأخلاقيَّة الإسلاميَّة: يجب على المُربّي التأكيد على ربط الشاب ببيوت الله وحضّه على المداومة على الصلاة؛ لِما للصلاة من تأثير في أخلاق الشباب، قال تعالى : (اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب واقم الصَّلاة إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكرُ اللهِ أكبر واللهُ يعلم ما تصنعون) [العنكبوت:45]
أيضاً يجب أن يحاول الابتعاد بهذا الشاب عن رُفقاء السّوء؛ لأنَّه كما قيل: ( الفتى عن الفتى ألقن). كما يجب إشغال أوقات الفراغ لهذا الشاب بما هو مفيد من الهوايات، ومن المعروف أنَّ للفراغ آفات في حياة الإنسان وفي هذا المعنى هناك قول رائع للإمام الشافعي: (إذا لم تُشْغِل نفسك بالحق شَغَلَتْك بالباطل).
ب – التربية الإيمانية والعقائديّة: يجب على المُربّي أن يستكمل تربية وتعليم الشاب على العقيدة الإسلاميَّة الصحيحة، وأن يقوّي إيمانه ومن وسائل تحقيق ذلك: توفير الكتب الدالة على الإعجاز القرآني، كالإعجاز العلمي، والتاريخي، وتشجيعه على القراءة فيها، أيضاً توفير كُتُب السير والتراجم لعُظماء الإسلام، وعلى رأسِهم مُحمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين كي يتخذهم قدوة في حياته، وكذلك من المفيد إكساب الشاب الأرضية الفقهيّة من خلال تعريفه بأحكام الشريعة الإسلاميَّة، ومعرفة الواجبات والمحرَّمات وتشجيعه على معرفة منجزات الحضارة الإسلاميَّة في شتى المجالات لأن ذلك سيعزِّز ثقته فيها.
ج – التعليم والتربية البدنيّة : في هذه المرحلة الَّتي تتسع فيها مدارك الشاب ويزداد نضجه العقلي يجب على المُربّي أن يوجِّهَهُ التوجيه العلمي الصحيح نحو العلوم الكونية الحديثة وبما ينسجم مع رغباته، فهذا العصر هو عصر العلم بامتياز، عصر الفضاء، والذرّة، ووسائل الاتصال الحديثة وهي مجالات تخلَّفتْ الأمَّة فيها كثيراً- للأسف- على الرَّغم من كونها إحدى ركائز تحقيق الحضارة الإسلامية المُرتقبة. إنَّ هذه العلوم لا تستطيع الأجسام المريضة العليلة أن تبدع بها وهذا سبب كافٍ للاهتمام بالرياضة والصحَّة البدنيَّة. قال مُحمَّد صى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خيرُ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير). والقوَّة هنا تشمل القوَّة البدنيِّة والإيمانيِّة.
بقي أن نقول: إنَّ هذه الجوانب المذكورة في كلّ مرحلة من المراحل السابقة يجب العمل على تحقيقها بشكل متوازي مع بعضها البعض قدر الإمكان؛ لأنَّ ذلك من شأنه منحنا إنساناً مُتّزن الشخصيَّة، ونحن على ثقةٍ بالتربية الإسلاميَّة وبما تتسم به من مرونة وتجدُّد، وعلى ثقةٍ بقدرتها على إعادة إنتاج ذلك النموذج من الإنسان الَّذي يستحق أن يُجاب كما أجَاب الرسول ذلك السائل عن البِر حين قال له: (استفت قلبك). فالرسول لم يقدِّم هذه الإجابة المريحة لمجرم يعيش على مأساة الآخرين، ولا إلى مُتكبِّر أعمى الكِبرُ بصيرةَ قلبه، بل إلى إنسان سليم الفطرة، صالحة التربية، نبيل الغاية، هو الإنسان الصالح عماد الأُسرة الصَّالحة في الأمَّة الصالحة الَّتي تستحق وصف الله بأنَّها خيرُ الأمَّم، قال: تعالى: (كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجَت للناس تأمرون بالمعروفِ وتنهونَ عن المُنكر وتؤمِنونَ باللهِ ولو أمن أهل الكتاب لكان خيراً لهُم مِنهُمُ المُؤمِنون وَأَكثرهُمُ الفاسقون) [آل عمران:110]