علي عزت بيجوفيتش أول رئيس جمهوري للبوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب في البوسنة. ناشط سياسي بوسني وفيلسوف إسلامي، مؤلف لعدة كتب أهمها "الإسلام بين الشرق والغرب". هذا الكتاب الذي يعد مرجعا قيما لكل محتج بفاعلية المنهج الإسلامي في مختلف مجالات الحياة، ذلك أن الكتاب بني على خبرة كبيرة للكاتب مبنية على تجارب عديدة وثقيلة، ثمنت مضمون الطرح بشكل كبير، الكتاب مزج بين أبعاد فلسفية وفكرية وواقعية بشكل منسجم وسلس، فالقارئ يستأنس في خضم قراءته بمنطقية ومعقولية الطرح المدللة بأدلة وأرقام واحصاءات واقعية وملموسة .
كان وأن شاهدت في أحد المناظرات التي جمعت بين أحد العلمانيين العرب وأحد الدارسين للعلوم الشرعية والفقه، دار الحوار حول جزئيّةِ تدخُّل أحد المؤسسات الدينية في قرار أحد الدول الإسلامية بمساواة الميراث بين الجنسين، وكان العلمانيّ يردد عبارة فصل الدين عن مؤسسات الدولة بشكل مستمر طوال المناظرة، مبرهنا ذلك بالنقلة الأوروبية أو كما لُقِّبت بعصر التنوير حين ثار الشعب على الكنيسة، وتمّ هدم مختلف الأصنام وكسر القيود والتخلص من رجعية الخطاب والوصاية الدينية التي كانت تبسط يديها على كامل أركان الدولة آنذاك.
وتساءل؛ لم لا نثور نحن أيضا على الكهنوت الذي بات يسيطر على كل جزئية من جزئيات حياة الفرد المسلم، لم لا نبقي الدين حبيس جدران المساجد، نحافظ على طقوسه ونقلّم من الأحكام والتكليفات التي تقلص من حريات الأفراد والمؤسسات، والتي باتت بحدّ طرحهم تشكل عائقا أمام الدول العربية نحو نهضتها.
إنّ النظر في هذا الطرح بشكل موضوعي يجعلنا نطرح ذات التساؤل؛ لمَ لا يتخلص العالم العربي من الوصاية الدينية التي حاصرته طوال 14 قرنًا فائتة، إذا كان تقليم صلاحيات الدين يُعدّ حلًّا من حلول مشكلة النهضة، فما الذي يمنع الشّعوب من القيام بذلك؟.
يجيب الكاتب علي عزت على هذا السؤال بحيث درس الفوارق بين الوضع الأوروبي والكنيسة والوضع العربي والمسجد، ولأنّ الفارق هنا هو طبيعة الدين نفسه، فقد أشار لحيثيات كل الأمر .
ماذا عن الكنيسة ؟
لم تكنِ الكنيسة خلال العصور الوسطى مجرد مركز عبادة، بل المشرع السياسي والاقتصادي والموجه العسكري لمختلف الحملات الصليبية الأوروبية، كانت تقبض بيدٍ من حديد على كل زمام التسيير، بل وتعد هي المفوض الوحيد للحديث باسم الربّ، فلا يحق لأحد أن يتحدث أو يجتهد أو يتعلم بغير النهج الذي ترضاه الكنيسة، كان العلم محصورا على نخبة القساوسة والرهبان، فهم أهله وخاصته، أعدمت الكنيسة آلاف المعارضين، وصادرت مئات الأفكار وغيّبت حامليها، فكان أيّ اجتهاد علمي يتعارض مع نهج الكنيسة والكتاب المقدس مصيره الاتلاف والإعدام لصاحبه، وقد كان عالم الفلك غاليلي أحد ضحايا هذا الإعدام لمجرد أنه تحدّث بكروية الأرض .
وقد يعود سبب هذا الفشل الذريع للكنيسة في تسييرها للشأن العام الأوروبي، هو كونها لا تحوز على منهج متكامل قادر على تحمل عبء التسيير الصحيح للدولة، فأي دارس للإنجيل سيخلص إلى لاهوتية طرحه، وخلوه من أي قواعد عملية ومادية، بل صميم فكرة المسيحية هو نبذ المادة والترفّع عنها وعدم الاجتهاد لتحصيلها أو تطويرها، الأمر الذي يجعلنا ندرك سبب تلك المصادرات الفكرية التي عرّجنا إليها في البداية.
ماذا عن الإسلام ؟
الإسلام هو رؤية واقعية تمزج بين قطبين، اللاهوت والمادة، فهو بعكس الكنيسة، إضافة لكونه مشكاة نورانية تضيء عتمة الروح، فهو يفتح مجال الاجتهاد والتطوير والاكتشاف العلمي على مصرعيه، كما أنّه يقدم المصلحة الإنسانية والاجتماعية ويوليها اهتمامًا واضحًا وقويًّا، لا يصادر الإسلام أي فكر مهما اختلف أو تعارض مع طبيعة المعتقد، ويُعتبر حاضنًا ممتازًا لمختلف الأفكار والرؤى، فقد جاء بمبدأ؛ (مَنْ شَاءَ فَليُؤمِن وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)، بداية بالمعتقد وانتهاءً باحترام حرية الممارسات التي لا تتداخل ومصالح المجتمع.
التدخل الإسلامي في الشأن العام للدولة هو في الحقيقة عامل نهضوي للشعوب، ذلك أن الإسلام هو دين يجمع بين التنمية والرعاية الروحية للفرد وكذلك حياته العملية.
فعلى سبيل المثال؛ ذكر الكاتب الثنائية الإسلامية التفاعلية أو التكاملية في الرؤية الإسلامية لمفهوم الأمة، فالإسلام كما يقول علي عزت بيجوفيتش، ليس مجرد أمة بالمعنى البيولوجي أو العرقي، وليس حتى جماعة دينية بالمعنى الروحي الخالص للكلمة، وإنما هو دعوة لأمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي تؤدي رسالة أخلاقية، وانطلاقاً من ذلك يؤكد علي عزّت بيجوفيتش أنه لا يمكن إغفال المكون السياسي للإسلام وقصر الدّين على النزعة الصوفيّة الدينية، لأن في هذا تكريساً صامتاً للتبعية والعبودية، كما أنه دعوة صريحة لقتل صميم هاته الرسالة النهضوية، ولا يمكن كذلك إغفال المكون الديني (الروحي) في الإسلام، لأن في هذا رفضاً صامتاً لتحمل الأعباء الأخلاقية. إن الإسلام الحقيقي ليس مجرد دين روحي لاهوتي أو مادية نلمسها فقط، بل هو منهج ومبدأ لتنظيم الكون أكثر منه حلاً جاهزاً، إنه المركب الذي يؤلف بين المبادئ المتعارضة.
إنّ "الحلّ يكمن في ضرورة العودة لدراسة الإسلام دراسة معمقة وباحثة، لأنه المنهج الوحيد الذي يجمع بين الشقين الروحي والمادي، والذي يحقق التوازن الواقعي بين قطبين متنافرين".
كما يرى هذا الكاتب الذي عايش أزمة التحامل على المسلمين في دولة البوسنة والهرسك علي عزّت -ومثله الدكتور عبد الوهاب المسيري المفكّر الذي عايش التجربة الإشتراكية بحذافيرها في نظريته التي تشمل كل من الأحاديات الخمس التي أشار لها في كتابه قضية المرأة والتمركز حول الأنثى، والذي بدوره من قدم كتاب الإسلام بين الشرق والغرب بطرحه الممتاز- أن الحلّ يكمن في ضرورة العودة لدراسة الإسلام دراسة معمقة وباحثة، لأنه المنهج الوحيد الذي يجمع بين الشقين الروحي والمادي، والذي يحقق التوازن الواقعي بين قطبين متنافرين، حيث يجمع بين الشق الإنساني من عدالة وحرية ومساواة وبين الشق المادي من اقتصاد وشؤون مالية وتجريبية.
الأمر الذي يجعلنا نخرج في مقالنا هذا بفكرة أن الإسلام هو خطة متكاملة نحو دولة متوازنة ومجتمع متناسق، فهو التشريع الإلهي الذي يبرهن واقعية الحياة بعيدا عن النظريات والفرضيات القطبية التي تتعصب لشق دون الآخر رغم خضوعها الواقعي لمتطلبات الشق المقابل، وكما يقول بيجوفيتش الإسلام ليس حلًّا لكنه منهجًا متكاملًا يحقّق الغايات ويؤسس للحلّ.