إنّ ما وصلت إليه فنلندا من نجاحٍ في مجال التّعليم، جعلها تقفز من قاع الهرم إلى قمته لتتربع على عرشه على مستوى العالم، حيثُ اخترقت التعليم بشكل مذهل وبفروق كبيرة بينها وبين الكثير من دول العالم، وارتقت بنظامها التعليمي حتى أصبح يضرب به المثل في هذا المجال، بعدما كانت بلدًا زراعيًّا بامتياز، صارت بلدًا ذي اقتصاد معرفي بفضل التّعليم.

قد تبدو دولة فنلندا وكأنها كوكب آخر في المنظومة التعليمية العالمية بطرقها المبتكرة ومنهجيتها العلمية المثيرة للدهشة والاهتمام. لكن فنلندا لم تصنع نظاما تعليميا من الخيال العلمي، وإنما واكبت التطورات واستفادت من تجارب الآخرين، وسمحت لباحثيها في التعمق بمناهج التعليم ودراسة سلوكيات المعلمين والمتعلمين، فخرجت بنموذج فريد من نوعه قد لا يمكن تطبيقه في دول أخرى، لأن لكل دولة خصوصيتها وثقافتها ومؤسساتها.

وما تقدّم يضعنا في عمق التّساؤلات التّالية:

  • ما هو سر نجاح تجربة التّعليم في فنلندا؟

  • ما هي فلسفة نظام التعليم الفنلندي والآليات التي ساعدت في نجاحه؟

  • أين نحن -كعرب وكمسلمين- من المستوى الذي وصلت إليه دولة مثل فنلندا، ولم تصله حتى دول كبرى ومتقدمة في مجال التعليم في العالم؟.

فلسفة ورؤية التعليم في فنلندا: الطّفل، المُعلّم والدّولة
  1. الدّولة: يُمكنُ القول أنّ فنلندا مثال على بلد لم يتبع الكثير من المبادئ العالمية لإصلاح التعليم، وتقوم رؤيتها التربويّة على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلّمين، فالمدارس حكوميّة مدعومة ومموّلة من الدولة، ولا فرق في المستوى بين مدارس المدن أو الأحياء الميسورة والمدارس في مجمّعات قرويّة أو أحياء شعبيّة. وحظّ المدارس الخاصّة في فنلندا شبه معدوم، ولا تشجّع الدولة على فتح مثل هذه المدارس!

إنّ دستور البلاد يضمن حقّ التعليم المجانيّ للجميع وفي كلّ المراحل، ولا فصل أو عزلة للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصّة؛ بل يتعلّمون مع بقية الطلاب، ويحظون كغيرهم للعناية والاهتمام.

إنّ التعليم في فنلندا لا يهتم بعمليّة الاختبارات القياسيّة الموحّدة، بل يعتمد فقط على المساءلة "الذكية". ويعني هذا أنه في حين توجد معايير وطنية لجودة التعليم والتدريس في شكل مناهج أساسية وقوانين وقواعد وطنية. كما يعتمد على فلسفة ورؤية تربويّة أصيلة، منبثقة من ظروف الحياة والواقع المعيش في فنلندا. فعملية الإصلاح والتغيير في نظام التعليم لم تتم طفرة واحدة، بل مرت بمراحل واحتاجت للوقت والجهد والمثابرة، ورافق ذلك البحوث والدراسات النظرية والتطبيقية الميدانية من الخبراء والأخصائيين في التربية وعلم النفس والمربين في الحقل.

  1. الطّفل والمعلّم: وينص القانون الفنلندي على ألا يتم اختبار الطفل حتى يصل عمره إلى 11 عامًا. ويدرس الطلاب عدد ساعات أقل من كثير من دول العالم كالولايات المتحدة وفرنسا، كما ينص القانون أيضاً على أن الواجب المنزلي لا يجب أن تتجاوز مدة أدائه وحلّه نصف ساعة فقط يوميًا، إنّهم، في فنلندا، يطبّقون الشعار: ” إنّ كلَّ تلميذٍ يعتبرُ مُهمًّا “.

أنّ تكون معلّمًا في فنلندا، فهذا ليس سهلاً؛ إذ أن خريجي الجامعات حديثي العهد لا يُرسلون لتشكيل عقول الأطفال مباشرة بعد التخرج، بل يجب على كل المعلمين (باستثناء معلمي الروضة) أن يكملوا برنامج ماجستير عاليَ التنافسية ومدعومًا بالكامل من الدولة.

صحيح أن المعلم في فنلندا يخضع لتأهيل علمي وتدريب شاق قبل التدريس، إلا أن الأمر يستحق في مقابل ما يحصل عليه من مكانة وتقدير ووسائل تساعده على إتمام رسالته بنجاح. حيث يقضي المعلم في المتوسط 4 ساعات يومياً في الفصل وهو ما يعطيه وقتاً أطول لتخطيط الدروس، وتزويد الطلاب بالمساعدة الإضافية، والمشاركة في متطلبات تطوير المعلم الأسبوعية.

إنّ الحرفيّة التي يتمتّع بها المُعلّمون هي ما يجعلهم يعتبرون التدريس رسالة ومسؤوليّة وطنيّة، ويتحلّون بالدافعيّة والحماس في ممارسة عملهم، ولا يشعرون بالملل والإحباط، وغالبًا ما يستمرّون في وظائفهم حتّى الخروج للتقاعد.

أمّا علاقة المعلّمين ببعضهم -داخل مدارسهم أو مع معلّمين خارجها- فهي علاقة ودّيّة وتعاون وانفتاح ممّا يثريهم ويرقى بمعارفهم وأدائهم.

أمّا علاقتهم بالطلاب وتعاملهم معهم فتعكس الاحترام والاحتواء والتشجيع والتوجيه والإرشاد، فنراهم يراعون “الإيقاع” الخاصّ لكلّ طالب، فلا يكلّفونه فوق طاقته، ولا يتهرّبون من واجبهم تجاه كلّ طالب في المدرسة ليلجؤوا إلى إعطاء دروس خصوصيّة -خارج المدرسة- كما هو حاصل في دول أخرى!

أمّا طرائق التدريس المتّبعة فهي متنوّعة مراعاة للتمايز والتباين بين الطلاب، ومراعاة تعدّد مستوى الذّكاء، ويحرص المعلّمون على دمج وسائل التكنولوجيا الحديثة من الآيباد والحاسوب والتلفزيون والأقراص المدمجة، لذلك يستغني الطلاب في فنلندا عن الحقائب الثقيلة المضرّة!

ما الفرق بيننا وبينهم؟

إنّنا كثيرًا ما نتحدث عن إصلاح منظومة التعليم في بلداننا العربية، التي تعتمد أساسًا على التلقين والحفظ وحشو المعلومات في رأس الطلاب بلا فائدة تذكر، ولا تخلو أي مناقشة حول التعليم من الحديث عن الاقتداء بالتجارب الغربية في التعليم من أجل الوصول لمنظومة تخدم عقل الطالب وتقدم له ما يحتاجه بالفعل في حياته.

في بلداننا العربية يجبرونك على حفظ الكتب المدرسية، ويقطعون عليك أي فرصة خارج المناهج النظامية، ليس هناك أهم من الدرجات، والامتحانات هي التي تحدد مصير الطالب ومصير أهله أيضا، فيكتسب الطالب مهارات في الغش والتعامل مع الامتحانات لأنه يهتم بها أكثر من اهتمامه بمحتوى المواد والعلوم.

الحقيقة أن المقارنة بيننا وبين التجربة الفنلندية تحتاج إلى مجلدات مقارنة غير عادلة وغير متكافئة في الأساس، لأن النموذج الفنلندي تفوّق على نظم تعليمية راقية ومتقدمة في أوروبا وأمريكا، فقد يتساءل أيٌّ منّا بعد الاطّلاع على هذه التجربة المُدهشة في مجال التّعليم، عن مدى إمكانيّة الدول العربية تطبيقها بحذافيرها في جهاز التربيّة في مجتمعاتنا؟ الحقيقة أنّ الإجابة هي: لا!

وذلك أنّ لكلّ دولة كما سبق وقُلنا خصوصيتها وثقافتها ومؤسساتها، ولكن نستطيع استلهام بعض التوجّهات والأفكار من هذه التجربة، منها:

  • العمل الجادّ -بعد الاطّلاع الواعي- على بلورة فلسفة تربويّة لمدارسنا تكون أصيلة منبثقة من ظروفنا وواقعنا وطموحاتنا وغير مقتبسة أو مستعارة من مصادر خارجيّة!

  • مراجعة سياسة القبول للكلّيات والجامعات للمرشّحين لمهنة التعليم، وتشجيع قبول المتفوّقين المتميّزين مع بحث إيجاد سبل لدعم الملتحقين بهذه الأقسام ماديًّا ومعنويًّا.

  • مطالبة الجهات المسؤولة في الدولة والسلطات المحليّة -وبدون تخاذل- بتغيير وتحسين البنيّة التحتيّة لمدارسنا بحيث تلائم متطلّبات التعليم والتربيّة في القرن الحادي والعشرين!

  • مراجعة أساليب التدريس المتبعة في مدارسنا وقضية الامتحانات وما تسبّبه من قلق وهلع لدى الطلاب.

  • مراجعة دَوْر المعلّمين واستقلاليّتهم في التعليم وتطبيق المناهج، وعلاقتهم مع بعضهم في مدارسهم وخارج مدارسهم بحيث نؤكّد على التعاون والمشاركة والإثراء المتبادل وليس على التنافس!

  • مناقشة مدى حريّة الطلاب وإشراكهم في القرارات وفي العمليّة التعليميّة التعلّميّة.