هيوستن، اكتوبر ٢٠١٨
استمتعت خلال الأسابيع الماضية بحضور عدد من الحوارات التي تناولت بالنقد والتشريح نظرية كارل ماركس الاقتصادية على الرغم من أنني أكملت بعض الكورسات في الاقتصاد الجزئي أثناء دراستي للماجستير، إلا أنها لم تتناول النظرية الماركسية بصورة معمقة؛ وهذا ما جعلني أندهش مما أورده المتحاورون من تحليلات منسوبة لكارل ماركس يشرح فيها آلية عمل النظام الرأسمالي وينتقد أدواته ويبين مثالبه. لقد أبدى ماركس فهما عميقا للرأسمالية، فالنقد الذي قدمه يشي بأنه بذل مجهودا مقدرا في فهمها، ثم إن القرائن تدل على أنه لم ينتقدها من باب الترف الفكري وإنما لما رآه من تناقضاتها، وهذا ما جعله يقول "إن الرأسمالية تحمل بذور فنائها".
وجدت في نفسي حماسا ورغبة في التعمق في دراسة كتاب كارل ماركس الأشهر "رأس المال"، لكن بما أن الكتاب قد كتب بأسلوب فلسفي معقد يصعب على المبتدئين من أمثالي استيعابه، فقد رأيت أن أبدأ ببعض ما كتب تلاميذه في شرح نظريته، وما كتب مخالفوه في نقد أطروحاته. وحتى لا يساء فهمي، يجب التنبيه إلى أنني لست معنيا بنظرياته الإلحادية والاشتراكية، وإنما نظرياته الاقتصادية فقط، كما يجب التنبيه إلى أن التجارب قد أثبتت قصور النظرية الماركسيه وعجزها على الصمود خارج قاعات الدرس، بيد أن الكثير من توقعاتها بشأن الرأسمالية قد تحقق.
١. الملاحظة الأولى التي خرجت بها هي مدى جهلنا بشخصية كارل ماركس؛ يبدو أن الصراع القوي بين قوى اليمين وقوى اليسار (نهاية الاستعمار وبداية حقبة التحرر) قد ولد صورة ذهنية سالبة لكل ما له صلة بالفكر الشيوعي. أكاد أجزم أن أغلب مفكري اليمين ممن ناصبوا الفكر الشيوعي العداء لم يطلعوا على مساهمات ماركس في مضمار الاقتصاد السياسي. نفس الشيء ينسحب على أهل اليسار، فقد سوقوا الجوانب الاجتماعية والإلحادية في فكر ماركس، ولَم يأبهوا بنظرياته الاقتصادية بل إنني وقفت على شهادة أحد كبار مفكري الحركة الشيوعية في مصر يعترف فيها أن السواد الأعظم من رفاقه من قادة الحزب لا يعرفون شيئا عن كتاب رأس المال ونظرية فائض القيمة ونقد ماركس للرأسمالية.
٢. النزاع السياسي بين العم سام (أمريكا) والعم جو (الاتحاد السوفيتي) كان من القوة بحيث امتد تأثيره إلى الجامعات ومراكز البحث. فمقررات كليات الاقتصاد في الجامعات الغربية تتجاهل كتابات ونقد ماركس رغما عن قوة حجته ودقة ملاحظته. وهذا ما جعل ريتشارد وولف (أحد علماء الاقتصاد في جامعات نيويورك) ينتقد هذا المسلك من المشرفين على المؤسسات الأكاديمية ويقول: "بالرغم من أنني أفنيت شبابي في دراسة الاقتصاد ونلت أقصى الدرجات العلمية من أفضل الجامعات العالمية، إلا أنني لم أجد لأفكار ماركس وجود في المقررات التي فرضت علي". لقد كان الأجدر بالمؤسسات الأكاديمية التعامل بحيادية مع أفكار ماركس، بل وأخذ ملاحظاته حول الرأسماليه بعين الاعتبار، سعيا وراء إصلاح عيوبها وتقويم ادائها.
٣. يعد ماركس أول من نبّه إلى مفهوم "تقديس السلع commodity fetishism”. وهو مفهوم يفسر كثيرا من الظواهر التي نلاحظها في حياتنا اليومية. بحسب ما أورده ماركس، فإن سعر السلعة يحدد من خلال ما تحتويه من قيمة اجتماعية. لتبسيط هذا المفهوم، دعونا نطرح الأسئلة التالية:
مالذي يدفعنا لشراء قوة الصباح من استاربكس ودفع ما يقارب الـ 5$، في الوقت الذي تباع فيه القهوة في المحل المجاور بما لا يتجاوز الدولارين؟ ومالذي يدفع شركات الطيران للمبالغة في تسعير تذاكر درجتي الـ first & business class، بحيث يمكن أن تتجاوز خمسة أضعاف التذكرة العادية، في حين أن كلفتها الحقيقية لا تتجاوز الضعف؟
إذا ما أمعنّا النظر في المثالين أعلاه، نجد أن خليطا من العوامل الاجتماعية هو ما يدفعنا لتقبل أسعار بعض السلع والخدمات رغما عن عدم تناسبها مع القيمة الحقيقية. لقد استطاعت الرأسمالية توظيف هذا المفهوم بصورة مدهشة لبرمجة عقول المستهلكين. إنه لمن المحزن أن البشرية بعد أن استطاعت تجاوز الأنظمة الطبقية الحسية (الإقطاع والعبودية) فإنها عادت وسقطت في فخ الطبقية الذهنية.
٤. تحدث كارل على أن المنافسة بين المنتجين يدفع الأسعار نحو الانخفاض، لكنهم (ومحاولة منهم في زيادة الاًرباح) يقومون بخفض تكاليف الإنتاج. ولأن الرأسمالية الشرسة لا تبالي بمصير العمال وعائلاتهم، فإن التخفيض يشمل فيما يشمل رواتب العمال. وهذا يؤدي بدوره إلى انخفاض القدرة الشرائية في المجتمع. ثم إن الفجوة بين الكم الهائل من الانتاج ومقدرة المستهلك على الشراء تؤدي إلى ظهور الأزمات الاقتصادية.
هذا ما دفع السيناتور الأمريكي ساندرز بالتوجه إلى الشركات الكبرى طالبا رفع الحد الأدنى للأجور الى ١٥ دولار للساعة، لم يستجب إلى نداءاته حتى الآن إلا عدد قليل من الشركات (على رأسها شركة أمازون). مما دفع السيناتور إلى تبني قانون يلزم الشركة، التي يحصل عمالها على أي نوع من أنواع الدعم والرعاية الاجتماعية الحكومية (التأمين الصحي الحكومي أو دعومات الغذاء أو السكن)، بتحمل قيمة الدعم الحكومي الذي حصل عليه عمالها من الحكومة.
٥. لاشك أن فكرة الملكية الجماعية التي دعا إليها ماركس قد أثبتت فشلها، لكن في المقابل أليس من الظلم أن يستغل حفنة من الأثرياء مجهودات الملايين من الفقراء لزيادة ثرواتهم؟ لقد شهدت البشرية في القرن الحالي معدلات من سوء توزيع الثروة لم تشهدها من قبل. وهذا ما عبر عنه ماركس من مخاوف وأطلق عليه صفة "الجانب المظلم للرأسمالية". دعونا ننظر لهذه الاحصائيات:
*في العام ٢٠١٨، عدد المليارديرات في العالم اقترب من حاجز الـ ٢٠٠٠ شخص.
**مجموع ثروات الـ ٧٠ الأوائل منهم يفوق مجموع ثروات ٣٠٪ من سكان العالم.
***بحسب اوكسفام؛ فإن ٥٠٪ من مدخرات هؤلاء المليارديرات كفيل بمحاربة الجوع والفقر والمرض في العالم، بينما تضمن لهم الـ ٥٠٪ المتبقية حياة مليئة بالبذخ والترف والاستمتاع.
٦. لقد كان ماركس محقا عندما تحدث عن جشع الرأسمالية وانتهازيتها، لكن هل فكر