"إن الدين الحقيقي هو الفطرة السليمة، والفطرة هي القلب السليم والفكر السليم، وإن كل التعاليم التي جاءت بها الأديان الشائعة على اختلاف الأزمنة والأمكنة تستهدف حماية الفطرة البشرية من الانحراف والانزلاق ولذلك لا بد من القيام بالتكاليف التي شرعها الله لضمان سلامة الفطرة، وبالتالي سلامة الإنسانية المنشودة " .
هكذا عرف المفكر الإسلامي محمد الغزالي الدين الحقيقي ، ليجرده بذلك من التخصيص والاجتزاء والدخول في دوامة الفروع ..
"الدين هو الفطرة بمجاميع التعقيدات وحتى الجمال ، يبحث عن الحق وينهى عن الرذيلة ويحض على الفضيلة، والفن يبحث عن الجمال ويفتح أعيننا وبصائرنا على منابع الرذيلة والفضيلة معا، والعلم بهذه الينابيع من شأنه أن يقوّم سلوكنا من تلقاء نفسه بلا وعظ صريح، وهذا هو الجانب الأخلاقي من الفن" .
إذن فرسالة الفن والدين تكاد تكون واحدة ، في جوهرها المعنوي وبعدها الميتافيزيقي المشترك ..
لكن هل الواقع يؤكد ذلك ؟ هل يمكن القول أن الفن والدين يسهمان في حلقة الاعمار بتناغم ، أم أنهما حقل نزاع يعرقل أحدهما الآخر ؟
"يعتبر المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش أن الدين والفن يشتركان في القضية نفسها، قضية الإلهام الإنساني المعبر عنها بطرق مختلفة، فالدين يؤكد على الخلود والمطلق، وتؤكد الأخلاق على الخير والحرية، ويؤكد الفن على الإنسان والخلق، وهي كلها في أساسها نواح مختلفة لحقيقة جوانية واحدة يتم التعبير عنها بلغة قد تكون قاصرة في إيصال المعاني، لكنها اللغة الوحيدة المتاحة."
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) ،
ارتبط الدين في القديم بالتجسيم والتشكيل ، كأن خيالات البشر حفزت لتشخيص ذلك البعد الغيبي في تجسيمات فنية تجمع بين الفضول والبحث عن جوهر العقيدة ، فالفن كان السبيل الأقرب نحو ذلك ، فهو الوحيد القادر على منح الإنسان القدرة على التفاعل مع الظواهر الخارجة عن الطبيعة بذات التعقيد وذات المساحة اللامتناهية والبعد الشعوري اللامحدود .
فصار الفن السبيل الأمثل للتعبير عن فكرة التعبدية ، لما تحمله هاته الأخيرة من أبعاد غير محسوسة .
نلاحظ من خلال الآيات أن جوهر العقيدة لم يتنافى مع غاية الفن ألا وهي التعبد إنما تعقيبه كان على طبيعة الفن المراد به تطبيق العبادة وتحجيم البعد الغيبي المتعلق بالذات الالهية في مجموع من الأصنام ، والذي رغم بعده الفني إلا أنه يقتل ذلك الجوهر العقدي ويقزم من فكرته .
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ…
في جانب آخر استطاع الفن أن يكون سببا رئيسا في التعبير عن القدرات الغيبية من منطلق المحاكاة في المخلوقات ، فقصر سليمان بفنه المتناسق وجماله البديع كان يحاكي قدرة الله اللامحدودة ويعبر عنها في لوحة فنية عظيمة ، فشكل الفن هنا بابا مشرعا للدعوة ، واستطاع أن يحرك ذلك البعد الجمالي الذي يجمع الفن والدين في آن .
إذن فجوهر الدين والفن يشتركان في أبعاد كثيرة والتي كان لها دور كبير على مر التاريخ ، فطالما كان الفن واجهة تعبيرية ممتازة عن الدين وكان هذا الأخير بدوره ملهما رئيسا لمختلف الإبداعات الفنية ..
دعنا نستعرض معا مشاهد جمعت بين الفن والدين على مر التاريخ وقدمت بذلك دوافع عظيمة نحو الاعمار والتشييد وحتى مختلف الثورات والنقلات الفكرية الكبرى ..
علاقة الفن الدرامي بالدين :
الدراما ذات أصل ديني، سواء من ناحية الموضوع، أو من ناحية التاريخ، فنجد أن المعابد كانت هي المسارح الأولى بممثليها وملابسها ومشاهديها، وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوسا ظهرت في معابد مصر القديمة منذ أربعة آلاف سنة مضت، كما بلغ المعمار- في جميع الثقافات- أعظم إلهاماته في بناء المعابد، ينطبق هذا على السواء على المعابد في الهند القديمة وكمبوديا، كما ينطبق على المساجد في أنحاء العالم الإسلامي، وعلى المعابد التي وجدت في غابات أمريكا قبل وصول كولومبوس، وكذا كنائس القرن العشرين في أنحاء أوروبا وأمريكا.
الرسم والنحت :
أما الرسم والنحت والموسيقى، فإن ارتباطهم بالدين أوضح، فتكاد الأعمال الفنية الكبرى لعصر النهضة تقتصر في تناولها على الموضوعات الدينية بلا استثناء، وقد وجدت هذه الأعمال ترحيبا أبويا في الكنائس في جميع أنحاء أوروبا، حتى لا تكاد توجد كنيسة في إيطاليا أو في هولندا لا تعتبر متحفا في الآن نفسه .
وقد أبدع أعظم المؤلفين للموسيقى في القرن العشرين وهما: “دبوسي” و”سترافنسكي” موسيقاهم في موضوعات دينية، ألف “دبوسي” القديس سباستيان الشهيد، كما ألف “سترافنسكي” سمفونية المزامير والقداس، وصور “شاجال” لوحاته الخمس عشرة الرئيسية في موضوعات دينية ، لوحات مايكل أنجلو الشهيرة .
إنّ الفن هنا يلامس كل الجوانب الشعائرية من صورة وصوت وكأننا أمام رسالة دينية متكاملة الأركان ، فاللوحة الفنية هي بشكل ما نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السمفونية شعيرة لحنية صوتية خلابة .
الإسلام والفن :
تستعرض الحياة الدينية الإسلامية فنون عدة ، بعضها مبتكر والآخر امتداد ووصف لجوهر الوحي الإلهي ، بداية بفن الخط العربي الذي أحيا اللغة العربية من مجرد حروف جامدة لفن عظيم تحكيه مختلف الكتب والحوائط والمخطوطات فصار نقل الكتابة من وسيلة لنقل المعنى إلى وسيلة وغاية في الآن نفسه، فتحولت الكتابة إلى صورة اتخذت من الأبجدية وحروفها وسيلة لارتكاز اللوحة والصورة وإبداع المعنى جماليا في ضوء الشكل، فظهرت مدارس الخط وفنونه المختلفة التي حافظت على تميز الهوية الإسلامية، ونقلت إلى العين الإنسانية متعة جمالية خالصة .
ومن الفنون التي صاحبت ظهور الإسلام فن تجويد القرآن الذي يعتبر نافذة فنية سمعية بديعة ، تعتمد الدقة في اللفظ والعذوبة في اللحن، فبات التمكن من تجويده بوابة نحو إدراك الفن العربي في مخارج الحروف وأسلوب الكلام والخطاب .
لا يكاد يذكر الفن الإسلامي إلا وعرضت أمام ناظرينا سلسلة مبهرة من فنون زخرفة المساجد التي توسلت الأبجدية والأشكال الهندسية وتوزعت بانسجام على الأعمدة والأقواس، والقباب، والنوافير والجدران والمآذن، وتوزعت في أصقاع الأرض من شامية ومصرية وأندلسية وتركية وهندية، مستوحية أشكال الجمال الموروثة في العمارة في هذه البيئة أو تلك لتشكل ميراثا فنيا إنسانيا يخاطب الشغف و البصر والوجدان، الأمر الذي جعل من مختلف الأمكنة التعبدية محطات فنية باهرة .
حين نقول فن الرقص والاسلام نتجه بذلك مباشرة نحو الرقص الصوفي ، الذي يعد من الابداعات الحركية المستلهمة من جوهر المذهب الصوفي الذي يرتكز على الاجتلاء والعلو والصفاء ، فكان الرقص باستدارة وميلان لوحة فنية تجسد تلك الحالة الصوفية التعبدية، في تقاطع بين فن الحركة وإرادة التعبد والصفاء ..
وقد كانت الرقصة الصوفية ابتداعا أطلق عليه اسم “السما” الشاعر الصوفي الشهير جلال الدين الرومي.
وما هاته الصور التاريخية التي تجمع بين الفن والدين إلا تجليات إعمار اعتمدها الإنسان منذ القدم بجمعه بين نزعته الجمالية الروحية وبين رسالته العميقة والأصيلة المتمثلة في الاستخلاف على الأرض، فما الفن إلا إبداع يحاكي فطرة التعبد الخالصة في أعمال معنوية وأخرى ملموسة .